الأحد ٣٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٨
بقلم جورج سلوم

لينين.. يسكن مكتبتي!

كانت أمّاً لأولادٍ متفوقين في مدارسهم ولكنها كانت أميّة !..لا تعرف شيئاً عن الكتابة والقراءة ولكنها تعشق العلم والمتعلّمين، وتعتبر رتبة العلم أعلى الرتب ولا تنفكّ تزرع في أولادها تلك الخصلة..وتشحذ فيهم الهمم ومن طلب العلا سهر الليالي..وكانت تنقّي منهم شوائب الشتات في الفكر فلا ضياع في الوقت إلا بما يخدم المدرسة..ولا حساب على المال إلا بما يخدم الكراريس والكتب والأقلام

لباس المدرسة وهندامها أهمّ من لباس العيد..بدءاً بالحذاء المدرسي اللماع دائماً..ومروراً بثياب درس الرياضة الذي يستخفّ به الكثيرون..وعلب الألوان ومستلزمات الرسم والموسيقا والعزف وكل واجبات المدرسة ولواحقها..وحتى الحقيبة المدرسية دائما جديدة وقابلة للتجديد..وحتى تجليد الكتب والدفاتر يجب أن يكون بأبهى صورة..ناهيك عن النظافة الشخصية لأولادها التلاميذ وشعر بناتها الطويل المعقوص ككعكة أو المجدول بجديلتين مشدودتي الأشعار مغزولتين بدقة وتنتهيان بربطة أنيقة..ولا تنسى رشة العطر تمسح بها جبين أولادها مع قبلة الوداع..حتى غدا أولادها أنموذجاً يحتذى

وكانت ثقة الأولاد بأنفسهم كبيرة في باحات المدرسة وصفوفها فلا ملاحظات عليهم في التحصيل الدراسي..ولا يشعرون بنقصٍ ما بين جمهرة الأولاد حتى لتخالهم أبناء علية القوم بالرغم من وضع العائلة المتوسط مالياً..ولذا كان الأولاد يحبون المدرسة وينتظرون قدوم العام الدراسي على غير عادة أغلب التلاميذ

أما الصيف والعطلة والرحلات والتنزهات العائلية فلا تأخذ من الأم اهتماماً..فهي مصاريف لا طائل وراءها ولا قدرة للعائلة على تحمّلها..فتقتّر صيفاً وتدّخر كالنملة الذكية لأنّ الشتاء لا يرحم في بلادنا..والمدرسة هي الهدف وهي المقدسة بكل حيثياتها.. ولذا كان الأولاد يمقتون الصيف ويشعرون بالعزلة البيتية المملة..ولا يخرجون من بيوتهم وإن خرجوا شعرْتَ فوراً بالفوارق الطبقية بينهم والآخرين..فلا حلوى يشترونها مغلفة وملونة فحلواهم تصنع في البيت تحت ذريعة (نظيفة)..ولا درّاجات هوائية يشقّون بها أزقة الحي فيرتطمون بالمارة والجدران ويلعنون آباءهم

كانت تريد ملء أوقات فراغهم بما يفيد – حسب رأيها – وقد سبق لها أن سمعت مقابلة إذاعية مع أحد المربّين..ويحرّض فيها على المطالعة كأفضل هواية نعلّمها للطفل..وهكذا ذهبت إلى المكتبة لا لتشتري كتباً مصورة ومجلات للصغار كما يفعل الأهل العاديون..بل تريد كتباً بمعنى الكلمة والكتب على خلافها غالية الثمن..هي إذن ستستعير فقط بثمنٍ بخس وتعيد الكتاب بلا أذى لأوراقه ولا شخوطات طفولية على صفحاته..

ولكنّ الأم الأمية التي ما قرأت يوماً ستقف حائرة أمام واجهة الكتب المعروضة..قد يغريها غلاف كتاب عن الطبخ وفنونه ولكنها لن تجبر ابنها ليقرأ لها كيف يصنعون الكعك المحلى خطوة خطوة..هي تريد كتباً أرقى..تريد كتباً عن العلماء والمخترعين..تريد موسوعات علمية ومجلدات ثقيلة وصقيلة الغلاف..تظنها ببساطتها هي المورد الأنبل والأوسع للعلم..وهكذا تؤشّر على المجلّد الكبير ويرد عليها صاحب المكتبة بأن هذا لا يُستأجَر بل يُباع..وهذا أجرته الأسبوعية كاستعارة غالية أيضاً يُؤجَّر بما يشبه الرهن..فتنقل إصبعها بين المجلدات المصفوفة وقوفاً..حتى ضاق ذرع المكتبي بزبونة أمية وبخيلة..ولا تعرف حتى قراءة عنوان الكتاب
أخيراً وعندما عرف أنها ستدفع القليل قادها نحو زاوية ميتة في مكتبته..وبعيدة عن الأضواء وأشار إلى صناديق من المجلدات الضخمة موضوعة على الأرض..وقال:

 اختاري ما شئت من هذه الكتب..وادفعي ما شئت كأجرة أسبوعية..وسأعطيك كتاباً منها كهدية على كل خمسة كتب

طبعا ستشكره..وتشكر ربها إذ أنّ هنالك مثقفون في بلدنا ويشجعون العلم والمطالعة للفقراء
وتركها وانصرف إلى طاولته وتركها تضيع وتحار فيما تختار..وهي تقلّب الكتب وتنتقي خمسة منها وهي ما تزال فرحة بكتاب سادس كهدية..

والغلاف كان جميلاً والكتابة عليه بالعربية والأجنبية والصورة لرجل محترم عابس ويفرض عليك احترامه..يبدو أجنبياً بسحنته وشاربه الضخم وذقنه الصغيرة وبذلته الغربية..والكتب كلها له وصورته على غلافها كإيقونة مقدسة..لا بد أنه عالم كبير أو فيلسوف أو مؤرخ..على الأقل قد يكون أديباً أو شاعراً مخضرماً حتى كتب كل هذه المجلدات أو كتبوا عنه..هذا هو ضالتها إذن..
قالت في نفسها:

 لكن لماذا تكون كتبه رخيصة ؟..ولماذا يرمونها في الظل هكذا ؟..لست أدري..وكم سيفرح أولادي بهذه الكتب وينهلون منها العلم من أوسع أبوابه..حتى ولو كانوا في المرحلة الابتدائية !..فليكونوا كباراً مع هذه الكتب الكبيرة منذ نعومة أظفارهم

لم تودِع تلك الكتب التي اختارتها في حقيبة جلدية بالرغم من ثقلها..ولم ترضَ بأن يغلّفها لها بورق الجرائد..هي ستحملها هكذا في الحي الشعبي الذي تسكنه..وتسير بين نساء الحي وهي تنوء بحمل مكتبة كاملة وتفخر بين النساء اللواتي يحملن أكياس الخضار والخبز في ذلك الصباح..وكأنها تقول لهم..انظروا هديتي لأولادي النجباء في هذا الصيف..لا لن يلعبون بالكرة في الأزقة الضيقة ليكسروا نوافذ الجيران..ولن يلعبوا ألعاب قتال الشوارع فيؤذون بعضهم ويعودون إليّ بغبار ثيابهم وأحذيتهم..لن يخالطوا الشباب في زوايا الحي ليتحرّشوا ببناته.. ثم يتعلمون منهم الكلمات البذيئة ويدخنون سجائر مسروقة من جيوب آبائهم النائمين

وهكذا سارت بستِّ مجلداتٍ حمراء تحضنها وتفخر بها..ولم تنسَ طبعاً أن تترك صورة العالم الشهير ظاهرة على أول كتاب ليراه الجميع مشاة بجانبها أو حتى من يراقبها من شرفته..
وازدادت سعادتها عندما رأت اندهاش أحد الرجال المارين بها لما تحمل..ومن الشرفة كانوا يدققون النظر فيما اختارت الأمُّ من كتب..وكم كانت ملفتة للنظر بكتبها الحمراء الأنيقة وصورة عالمها الشهير الذي ستفخر به بين أولادها..سيتعلمون منه ويقرؤون سيرته الظافرة ويكتبون مثله كتباً تتناقلها الأجيال والأمم

ولم تعبأ بتعليق اثنين من الرجال مرّا بها..وقال أحدهم للثاني هامساً:

 أوتظن أن الشيوعية مازال لها جمهور عندنا وقد لفظها العالم بمعظمه؟

ولا تعرف الأم معنى الشيوعية ولا الديمقراطية المركزية..مع أنها سمعت تلك التعابير في دروس أولادها في إحدى المواد..عظيمٌ جداً فهي اختارت كتباً مرت معهم في مقرراتهم المطلوبة وهاكم موسوعة أو مرجع أساسي تستفيضون بهما بقراءاتكم ومطالعاتكم
وفرح الأولاد الصغار بالمجلدات الحمراء..وتوازعوها ولو كان الغلاف واحداً تقريباً وعليه صورة نفس المؤلف العابس والمخيف.. قد تكون روايات بوليسية للمحقق شرلوك هولمز أو قصة رعب لهيتشكوك..أو قصصاً للص الظريف أرسين لوبين..والصيف الممل غدا حافلاً بالإثارة.
وقلت يومها لأختي التي تكبرني بسنتين:

 ومن هو لينين هذا؟

وانزوى كل واحد في زاوية ليستطلع كتابه..وقالت الأم:

 تعودون إلي عند الغداء جميعاً..نجتمع ويحكي لي كل واحد جزءاً مما قرأ

أما أنا فقد كنت أهوى القراءة على سطح بيتنا ذي الطابقين..فأجلس في ظل جدار لمّا يكتمل بعد كمشروعٍ لإتمام طابق آخر..هكذا كان أهلي يبنون بيتهم غرفة إثر غرفة بما تيسّر من مدخراتهم..ويعمّرون طابقاً إثر طابق..ويرتقون للسكن في الجديد ويؤجّرون القديم منها.. والقرش يولّد القرش والليرة كانت ذات قيمة

المهم..ولو كانت جلستي مريحة على فراشٍ أرضي..ولو كان معي كأس من العصير المثلج منزليُّ الصنع..ولو كان الجو جميلاً..لكنّ كتابي ما كان خير جليس..فلا صور في ذلك الكتاب والولوج صعب في صفحاته..ولا رواية جذابة ولا بطل..كله نظريات وإيديولوجيا جافة.. والمقدمة لم أستطع إكمالها..والفصول العشرون متشابهة..من أين يأتون بكل هذا الكلام ؟..ويجب أن أنتظر قعقعة الصحون لأنزل لإخوتي القارئين..قد تكون كتبهم أجمل وأنا دائماً ذو الحظ السيء بينهم..ونمت مسترخياً وكان ذاك الكتاب الكبير خير وسادة

عندما اجتمعنا على الغداء..روت أختي مقاطع من كتاب لينين الذي قرأته وكيف قتل التنين برمحه وأنقذ الحسناء وأعادها إلى قصر الملك..وكذبت أنا مثلها ورويت قصة علي بابا والأربعين حرامي وكان لينين هو علي بابا..والأم التي ما عرفت لينين بعد شعرت بالسعادة لسعادة أولادها الكاذبة

وفي اليوم الثاني ومنذ الصباح قال الجميع بأنهم قرؤوا كتبهم ونحتاج غيرها..وعفا المكتبي عن الأم وقال دعي تلك الكتب عندك كهدية واختاري غيرها..وفعلاً عادت إلينا بمجلدات قصة الحضارة لديورانت..وفعلاً حاولت قراءة المجلد الذي كان نصيبي..إنه تاريخٌ فعلاً ولكنه يختلف عما يدرسوننا في مدرستنا..فمن هو الأكثر صحة؟..ما علينا!

وبليلة واحدة أعلنّا جميعاً وبصوت واحد أننا قرأنا قصة الحضارة بأكملها..وكم كانت الأم سعيدة !
قلت لها:

 خذيني معك وسأختار كتاباً..اطمئني لن أطلب مجلة مصورة ولا تان تان ولا حتى طرزان..سأختار كتاباً كبيرا..

ويومها صار عنترة صديقي وقرأته مراراً في الصف الرابع الابتدائي..ولم يرضَ المكتبي بإعادته لأن أوراقه استهلكت فاشتريناه..وبعده جاء الزير المهلهل وسيف بن ذي يزن
وصرت أنا الزبون الذي يستبدل الكتب المستعارة..

أما أختي التي تكبرني بسنتين فلم ترُق لها تلك الملاحم..وكانت تستعير كتاباً صغيراً من جارتنا الجامعية وتخفيه في كيس أسود..كأنه ممنوع ولا يجب البوح بما فيه..يومها غافلتُها وهي نائمة وفتحت ذلك الكتاب في الحمام وكان ديواناً لنزار قباني وكانوا يستحون من قراءة مجونه يومها..كانت أشعاره جميلة وكلماته سهلة الفهم ككلامٍ عاديّ..ولكن لفت نظري الإشارات والخطوط الحمراء التي وضعتها جارتنا تحت بعض الكلمات التي كانت ممنوعة..إنها كلماتٌ ليست كالكلمات

أمي كان عمرها خمسون عاماً عندما نجحت بفحص محو الأمية..وكانت المجلدات الست الحمراء للينين ماتزال في مكتبتنا للعرض كمجلدات أنيقة..وكانت الأم تحلم – على ما يبدو – بأنها ستقرأها يوماً..وفعلا حاولت ذلك ولا أدري إن تابعت قراءتها..على الأقل اكتشفت أن تلك الكتب كانت توزّع مجاناً..وأظنها خجلت من نفسها ولو مرت عقود على فعلتها.

اليوم..أقول رحمك الله يا أمي..أتيتنا بتلك الكتب منذ خمسين عاماً..وما فتحها أحد إلا ليُخفي بين صفحاتها ورقة سرية..أو يخبئ خلفها سراً يخشى افتضاحه لأن الجميع يعرف بأن تلك الكتب ستبقى جاثمة كالتماثيل المحنطة..ويمسحون عنها الغبار فقط

اليوم وبنظرة واحدة إلى مكتبتي العامرة يطالعني لينين بنظرته العابسة ومجلداته الحمراء..منظرها جميل وتأخذ رفاً ظاهراً للعرض فقط..وابني أيضاً وقع في نفس الفخ وحاول أن يقرأ..ولكنه سيترك لينين ساكناً في مكتبتي المتوارثة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى