محاولة للخروج عن المألوف
تمهيد
ويحدث أن تضغط ذكرياتي على ذاكرتي.. تتعبني، حتى طعمها الحلو أشعر أنه يجثم على صدري؛ يتشبث الزمن فيها! يسحبني معه إلى الخلف، يعود بي إلى:
اسم هو.. اسمي.
شخص هو..أنا.
معلومات فارقة أمشي على الأرض كإنسان.
المكان: ليس طبيعياً كما طبيعيا تعتقد.
الزمان: لا اعترف بخارطته.
الحالة: اختزال الذكريات صاعداً وصولاً إلى النسيان!.
ملاحظة: حذروني!! تلك حدود قدسية.. لا تتعداها!!!!.
* * *
السيارة مؤشرها الأحمر الجهنمي، قفز إلى الأعلى، لافتة كتب عليها "خفف السرعة، لا تحفر قبرك بيدك" السائق لا يعيرها أي انتباه، ثمة شيئٍ يحدث هناك!! وحفر قبري ولم أمت.
* * *
عضلات قدميّ تتمزق، وأنا أصعد الدرج، عندما أرفعهما قبل سقوطهما أشعر بحافتهما تنغرس في رأسي.
"على أخر درجة وقف واخذ شهيقاً، ولم يعط زفيراً حتى ظننته نسي أن يتنفس".
ألقيت سلاماً وجدت أنا نفسي صعوبة في تمييز حروفه.
انسحبت من صالون واسع الحجم، متواضع الأثاث.
اقلب المفتاح بين أصابعي، لا أخفيكم سراً، بأنني أخاف دائما إلا يقوم المفتاح بدوره، أن يستعصى فيبقيني خلف الباب مقهوراً، لون الباب الخارجي يتعبني للمرة الألف، ولذلك يبقى مفتوحا إلى ما لا نهاية، وبابي الداخلي يولجني في الراحة عندما أتحسس مفتاحي الصغير....
دخلت، تخلصت من حقيبتي تمددت بملابسي على سريري الزنبركي، فاصدر صوتاً بدا لي أنينا.
***
حاولت طوال الطريق إلى غرفتي أن أجبره على متابعتي بنظره، حاولت التفكير فيه ليكون مجبراً على التفكير في، فالفرد وحده يجيب على الأسئلة التي يطرحها على نفسه.
"ماذا تريد مني فقد أنهكتني" قال ذلك دون أن يلتفت لوجعي الممتد حتى قمة الرأس.
اشتهيت كأس شاي، كشهوة مراهق للحم امرأة.
سكبته في قدح خرافي من نوع الـmug))، بخاره يتصاعد ليتكاثف على نظارتي عند اول رشفه، فلا أعدو أرى، لدغتني قطرة شاي حاقدة في ظهر يدي، وجدتها مؤلمه.
ولا أعرف كيف وجدتني هي.
***
الثلاجة مقفرة، كيس بلاستيكي يحتضن حبة تفاح، أكره التفاح.
مسحت بعيني المنطقة كالثلاجة، فوقعت على عصفور يحط على سلك كهربائي، كان يضع جسمه في إطار نافذتي، الشمس تقتحم محرابي عن قصد، خلتها تبحث عني، العصفور يتلصص على نافذتي والنوافذ المجاورة لطالبات يشاكسن غالبا، بعوضه ضالة، أوأغراها كأس الشاي، تخربط المكان هرمونياً، لم أحرك ساكناً.
قال كائن بداخلي يشبهني "دعها تعيش حياتها كما يحلو لها".
لوهلة غرقت بالضحك حتى كدت أبلل نفسي، كان سلاحي في مواجهة طلبه الساذج، وانحرجت قابضا على نفسي متلبساً بالضحك، الضحك والبكاء كلاهما مفاجئ ومفارق، كلاهما يأتي كي يملأ الفراغ، الطبيعة تنفر الفراغ، وتملؤني بمزاجها، وأحاول المقاومة.
***
العصفور ما زال يتدارس الموقف عن كثب، ماذا لو يخبرني العصفور بما يشاهد، يقول لي كل ما يراه؟
"لأنك تزحف ولا تطير لن تحصل على ذلك"
"تبا لك، أأتتصيد حتى أمنياتي..."
أعدت السؤال متناسيا معركة من جملتين، لم يجبني، لعله منشغلٌ بأمر ما، أو يعجز عن الإجابة بغير السخرية، الحديث مع النفس مجاني حتى الآن، ماذا لو أصبح في المستقبل غير ذلك؟
اعترتني رجفة بالعظام، لم تصل إلى اللحم بتاتاً، لكنها في النهاية اعترتني، كان صمتا فاجعا أدخله العصفور بي بتهميشه لي وذلك برفضه محاورتي.
* * *
معدتي خاوية، تزقزق، ليس هناك سوى حبة تفاح، لا أعرف مصدرها.
"أخبرتك أكره التفاح" قال بحدة شفرة حلاقة، لا أعرف لماذا؟
"تفاحة آدم أهبطتنا على الأرض، وتفاحة نيوتن أكدت لنا استحالة الصعود" قال صوتي أنا، أو ما في أنا، طرح الأسئلة دائما أسهل من الإجابة عليها.
***
الحالة: التجديف في بحيرة اللاوعي
المكان: في ذاتي
معلومات إضافية: تنقيب أثري في النفس البشرية
بدا لي بأنه منذ فترة لم تحن لي فرصة أفكر فيها مثل الآن.
والأفكار تتناوشني وأنا أتردد في السيطرة عليها، أشكل الفكرة وتشكل ما يفاجئني، أعبث فيها فتعبث بي.
تعصرني بطريقة تشكيلها، تمتصني كما تمتص البعوضة دماء النائمين.
امتد جسدي للنافذة، طار العصفور أو هرب خوفاً مني، "ليس هناك فرق بين السبب واللاسبب حين تكون النتيجة واحدة، النتيجة أنه طار" قال ذلك وهو يقف مبتسماً هناك، لم يكن هو، بل رسول ينوب عنه، لا بأس كان هناك.
"الطيور التي تستطيع التحليق ولا تفعل أيضا تخون دورها".
انفعل "زامور" سيارة، ليفزعه ويجعله يضرب أو ينسى أن يتنفس، لكنني كنت متأكدا بأنه حبس أنفاسه في مكان ما قريب.
***
تذكرت الذكريات، أقصد تناولتها من زوايا دماغي المعتمة، نسخ باهتة، ذكرياتي مريرة لها رائحة التفاح العفن.
انتصب واقفاً وقال "من يأكل التفاح يجب أن يجلد مئة جلدة." وفي الثلاجة تفاحة، والجوع يغزوني كما يفعل عنترة.
العصفور من جديد يتلصص علي، ولكن هذه المره كان يلوك الهواء ويخرجه من فمه كأنه يريد أن يخبرني شيئاً ما.
لا أعرف بالتحديد لكن طريقته بالزقزقة كانت تشي لي بشيء من هذا القبيل.
في لحظة تداخل المعقول بعكسه، صعقني العصفور، واستقبلت ضربته.
قال العصفور الذي كان بريش منتصب "أعرف شعورك، تتلذذ بتعذيب نفسك، والغير."
صمت آكلا دهشتني.
تابع: نحن لا نستسلم للواقع بل نحلق له، لماذا تصمت أترى نفسك أطهر الأجناس، لا تدرك أن الصرصار، بعد احتكاكه بالإنسان، يسارع إلى مخبئه لتنظيف نفسه.
شجني بكلامه، لم أكن أنا الذي جلست على كرسي بلاستيكي أحمر أدرك أن الطير يمكن أن يتكلم، تمنيت أن أطير أنا لا أن ينطق هو!
"إنما "المال يتكلم" تلك حقيقة لاغبار عليها" قالها وهو مذهولٌ.
المكان: نفس المكان
الحالة: أتربع إن استطال وأستطيل إن تربع
معلومات إضافية: لاشيء يذكر
أنا لا أدري كيف كنت أدري بأني لست أدري، ولم أدرك بما أدركت.
"عصفور يتكلم..!"
قال ذو الجناحين "الدهشه شربتها، فعلت مفعولها لأنك ترى عصفوراً يتكلم"
قلت وانا الذي تجوهرت الدهشة "ولم لا أندهش".
رد بعد أن تظاهر بأنه غير مذنب "إنكم البشر تعتبرون هذا منافياً للطبيعة، هناك حكاية أخبرني إياها "حسون" أن ديكاً باض بيضة سنة 1474م في مدينة بال السويسرية هل تعرفها؟؟
صمت ينتظر حركة مني، وصمتاً بلا دلالة.
"صارت البيضة حديث الناس، وُنظرت مسألة الديك وبيضته أمام المحكمة، التي أصدرت حكمها بإعدام الديك حرقاً.
قلت مستدركا بعض فهمي: جاء بعمل مناف للطبيعة، ومضاد لها.
رد كمن استشعر حكمي على فعلته: الطبيعة تحجمكم دائماً، لم يبق إلا ان تحكم علي كذلك.
وأخذ يدرج على زاوية جدار بيت مجاور.
قلت وقد سربلتني الدهشة ولجمت لساني "التوقف في وسط الطريق سقوط وعار، كيف استطعت التكلم أيها الطائر الصغير؟
"نستطيع الكلام ولكننا نكرهه، نخشى اللغة، ونخاف التورط في رموزها، نعشق الزقزقة والصمت والتأمل، ونهوى السير نحو المخالف والمغاير والجديد، ونغرّد لكي يستمتع غيرنا".
"أمسحور أنت" أردت الرد على بلاغة كلامه، أدركت أنني بهذه الجملة يمكن أن أشطره، احوله إلى غريق يبحث عن قشة، ولم يجدها بدلالة النظرات والصمت المتكوم بجانب منقاره البني.
تابعت في محاولة رد الكرة لملعبه "تغريدكم ليس لإطرابنا، بل هو حب السيطرة على المكان ورمز الجنس أيضا".
***
البعوضة تطن بشدة، ربما محاولة إجباري على استيعاب الموقف.
تدارك داخلي للموقف من جديد، وانتفض واقفاً، رمقني بنظرة "كموس الحلاقة".
رفع منقاره شامخا،ً ونفض جناحيه، وأسمعني ردا محاولا تعنيفي "أنتم، يا ما شاء الله عليكم.. أنتم يا من خلقكم الله في أحسن تقويم، ألا ترون تناقضاتكم وخطاياكم، ولا تغضبوا مني إذا قلت لكم بأنكم بحاجة لمئات السنين لكي تصلوا إلى مراتبنا".
...،....،...
"ولا تستغرب، فأنا أقول بفخر بأننا تجاوزنا كل إشكالياتكم..."
وتابع محركا منقاره "نحن نعيش سعداء في حياتنا طولا وعرضا"
"على هذا الأساس لا ينقصكم شيء سوى الشم" قلت له ساخرا.
"اتركونا وشأننا...هذا مطلبنا وليس الشم" رد بوقاحة
طلب مني أن نقوم بجولة.
* * *
"قال وهو مازال جالساً على الكرسي الأحمر دون أن يتزحزح "لقد عرف كيف يؤرقك بفوضى الأسئلة، وعرف كيف يقودك حافياً في دربه الشائك".
وأكمل "هذا العصفور جد ذكي..!".
أردت أن أعاقب نفسي التي أحسست أنها تسخر مني أيضا.
***
وقف على شباك مقهى، طلب مني أن أقترب، من حول الطاولات يلتف الشباب كالخواتم بالأصابع.
صراخهم المعهود "خوفي يهند علينا،هيه زنقته بالتريس، الجوكر مات...مات الجوكر، طرنبت القص بالدو... عشان قيمتك يازلمه، وبتقول لعيب!! شكلك عمرك ما أنت ماسك الورق". حركت عينيّ بمقلتيهما، العصفور ليس هناك، وإذا به قادم وجناحاه مبللة بقطرات ماء بدت ذهبية بدخول خيوط الشمس إليها، لم يبدُ متعباً، بل منتشياً.
قال لي مستهزئاً "هل رأيت؟؟ ألم أخبرك أنتم البشر عالمكم غريب، أترى هؤلاء الشباب يمضون جلّ وقتهم هنا، ويحلمون بالمستقبل المزهر".
صمت ومن ثم تابع مدورا رأسه في المكان "تناقضات عصركم غريبة يا بني آدم".
* * *
تجاوزت تجاوز التجاوز معبراً عن انبهاري، نفض ريشه المبتل للتخلص من قطرات الماء التي جعلت شكله مضحكاً، وانتهزت الفرصة لأنقض عليه بسؤال شرس حضر إلى دماغي المليء بزوابع من الأفكار والمدجج بالأسلحة الخرافية، قلت "أنتم ليس لديكم انتماء إلى وطن، تهاجرون دائماً من الشمال إلى الجنوب بحثاًعن الحياة الجميلة، تهربون من الواقع".
استشعر لذة نصري وتابعت "ونحن نلعب الورق، وندخن لنقبر مشاكلنا وندفن آلامنا، وسألته لماذا ليس لكم انتماء أيها الطير؟
تنهد العصفور قليلاً "أليس هناك مجاعات في جنوب أفريقيا وفي أنحاء متفرقة من العالم؟"
كنت حينها منجذباً لحديثة، وكنت أحاول استقراء طريقة كلامه، كان لسانه يشبه ورقة شجرة الزيتون، رأسه مدبب، وكذلك فعله، ومنقاره الذي تتعرف أنواع العصافير الأخرى عليه من خلاله مثل أزميل.
قلت له "لماذا أيها العبقري؟"
رفع جناحيه معتزاً فيهما، وكأنه رغب بالرد على سخريتي، وقال "كل شعوب العالم جنسيتي، فلتسقط عني هويتي"، هذا كلام شاعركم "محمود درويش" الذي لا تطبقونه، وليس بكلامي.
وأكمل "عدم طيرانكم يميت الملايين منكم من الفقر، أما نحن لا نعرف مشاكلكم في أي زمان ومكان، نجوب العالم بكامله بحثاً عن الشمس والغذاء"
"والانتماء" قلت له
رد بشموخ "ولا نعتبر هذا عدم انتماء فكل العالم وطننا، ولكن حاذر فنحن نعود دائما إلى وطننا الأم".
"وكيف تستطيعون ذلك أيها المسطول؟" رددت الكرة لملعبه مع تخوفي أن لا يكمل الحوار. "نحن نفكر..." أجاب
"تفكرون!!!"
"نعم لأننا موجودون وهذا ليس كلامي، ولا تنسى بأننا نمتلك بداخلنا بوصلة مغناطيسية تجذبنا دائما إلى وطننا الأم".
"لم يبق إلا أن تقول أن عقلكم أكبر من عقلنا".
ضحك بشكل هزني، وفر طائراً في الأعالي، وغاب دقيقة أو أقل، وعاد يضحك بضراوة.
"نعم...نعم...نعم عقلنا أكبر من عقلكم".
ضحكت، اقصد ابتلعت الضحكة وتظاهرت بأنني أتثاءب، وقلت بلسان يقطر سخرية مرة، "وكيف ذلك"؟
قال "من يحاول عبثاً معرفة ما في الفضاء قبل أن يعرف ما هو الفضاء ذاته، لا يقطف النجوم، بل يتعثر بحصاة على الطريق".
وتعثرت.
***
بدأت انتقاداته اللاذعة تثير حنقاً في يصل إلى حد الحقد عليه وعلى الطيور جميعاً، ارتعشت ارتعاشة صغيرة تبدو على صفحة المحيط اللامحدود لاشيء يذكر.
قلت محاولاً إخفاء التفاصيل "لكن لم تخبرني أيها الأزعر كيف عقلكم أكبر من عقلنا؟
التقت عيوننا بسرعة وكأننا توغلنا في دواخل بعضنا، فالعين مفتاح الجسد.
وقال "نظراتك جذابة أيها الشاب، حاذر أن تنظر إلى عذراء فتوقعها في الخطيئة".
وتابع "انظر إلى حجم جسمك وقارن حجم عقلك فيه، وقارن بيني وبينك".
* * *
"كان ما يزال مقرفصاً هناك في داخلي رافضاً الدخول في دفة النقاش، صعقه الكلام، فهم لأنه لم يسمع، لم يفهم لأنه سمع، أقصد العكس".
مسحت نظارتي للمرة السابعة فقد آلمني الجواب أكثر من يوم طهوري وتابعت "هناك طيور لا دماغ لها"
اهتاج الطائر وكأنه رأى خيال طير جارح يمر فوق أفراخه.
استطرد فجأة وكأنه اكتشف شيئاً جديدا، قال "تقوقئ الدجاجة كل يوم كلما باضت بيضة وهناك أناس منكم يقوقئون باستمرار وهم لم يبيضوا بيضة واحدة".
"كما أن العقل والضمير ما هما إلا عضلتين إذا لم تستعملهما ضمرا وتلاشيا، كما أن الجهل بحد ذاته ليس موجوداً، فما هو إلا غياب للعلم" تابع بصوت هدني.
"ما قصدك أيها المتعجرف؟" ولم أشأ أن أخيفه، لكنه خاف.
"أنت تشتمني، وإنها لشجاعة وشهامة مني أن أُشتم ولا أشتم...، لست أدري... فسر هذه الجمل كما تشاء، أما أنا فقد فسرتها تبعاً لمصلحتي".
***
الحالة: انقلاب نقطتين متقاربتين
المكان: ليس مهماً
سحلية تركض بسرعة على الجدار الذي يقابلنا تلاحق حشرة فارة ثم تختفي في أحد الشقوق، نتابعها معاً و ننتظر خروجها، اقتنصت الفرصة ووجهت إليه سؤالاً تبادر إلى ذهني "هل تستطيع أن تخبرني ماذا تفعل الحشرة الآن في الداخل أيها العصفور"؟
كان منشغلا ًبتنفيل ريشه الذي بدأ يجف من الماء، لم أنتظر إجابته.
قلت "لابد أنها تتربص بحشرة جديدة"
ارتسمت على شفتيه ابتسامة صفراء، أدركت منها أن الإجابة لم تعجبه على ما يبدو.
"أنتم تؤمنون بأن الحياة للأقوى، وهذا صحيح"
قلت "أتعترف بهذه السهولة"؟.
قال "وما فائدة الإنكار أذا لم يجدي نتيجة، فأنا لم أقابل في حياتي طيراً ولا أنساً رأسه قاسٍ مثلك، ولكن مادمتم تؤمنون بهذا فإنه يجعلكم في اقتتال دائم".
"سمعت أنه اختلف عندكم طفلان على دمية، فكان أن تهشمت الدمية، ثم تصالح الطفلان".
انهى بذلك ولم أستوعب بداية قصده.
***
الموقف الآن يعصفه هدوء قمم الجبال.
كانت منصتة ، كأن دقات قلوبنا هي الكلام والحوار، كأن نظراتنا التائهة هي الرسائل والسطور والحبر والفواصل"، عرفت حينها بأنه تخلى عن كرسيه وصمته، وتبعنا، فأنا أعرفه، حب الاستطلاع كاد يقتله حين حاول مرة أن يسترق النظر على بنت الجيران من السطوح.
* * *
قلت: أتعرف يا فصيح النملة؟
قال "وما لي أنا والنمل".
قلت "إنها تسخر مئات الأجناس من الحيوانات التي هي أضعف منها لخدمتها، وكذلك ترعى البقر".
بدت على ملامحه علامات عدم الارتياح.
قال "ليس يهم الشجرة المثمرة من يأكل ثمارها بقدر ما يهمها أن تثمر لكي لا ينقرض نسلها من الأرض".
قدم دعوة ثانية قائلا "تعال معي سأريك شيئاً.."
كنت كالرصاصة التي لا تتردد في الاندفاع نحو بريء وكان هو البندقية.
ما عدت أملك خيارا سوى التقدم إلى الأمام، كنا وترا وقوسا يتحاوران، وهناك صراعٌ ينشب ليختفي، ويختفي ليبرز، يكاد الوتر أن يكسر القوس، أو يكاد القوس يبتلع الوتر.
لا بد من المتابعة حتى النهاية، "التراجع خيانة".
***
حط على حراسة شباك إحدى الغرف.
رجل كبير لم أستطع تحديد عمره، لا بأس، تجاوز الستين، يقول لابنته "ابن عمك أولى من الغريب، وبعدين مريش ولا بدك تفضحينا بين الناس ويقولوا كسرت كلام أبوها، وإذا ما بتوخذيه لا أنت بنتي ولا بعرفك".
عندها كنت أحاول أن أنظر إليه منذهلاً، وكان هو يحاول فعل الدور نفسه.
انتابني شعور بأنه يشمت بي، والتقت عيوننا.
تدارك الموقف وقال "أنتم مجردون من العواطف والحنان، وتستعبدون المرأة، نحن أفضل منكم كل منا يختار شريك حياته بنفسه أما أنتم...."
رمقته بنظرة جافة أورقت في خضرة عينيه، وأحسست أن نظراتي تسربت إلى أغواره السحيقة، وقلت كلمات لم تخرج من لساني بل ترددت في داخلي، أأترك مجرد عصفور يسخر منا؟، و لكي أتدارك ما حصل لي، حاولت أن أكون سيد الموقف لا هو، قلت "هل كل الطيور تحكم على الأمور بهذا الشكل مثلك، بمجرد رؤيتك للشخص يرتكب خطأً؟؟، تصورت أننا جميعاً الصورة نفسها، فأصابع اليد ليست واحدة".
تابعت بشموخ طارحا في جوفة معلومة كنت قد قرأتها في أحد الكتب في كلغم أرضي "في استراليا ينبح نوع من الطيور بدلاً من أن يغرد، كذلك يوجد عندكم طيور لا تطير، بل تركض تحت الأشجار مثل الأرانب، فكل واحد يرى الأمور من زاويته، وكما أنت لا تستطيع أن تتكلم عن الأبوة والحنان، فأنت بمجرد أن أقترب احد ما من بيض عشك وعرف مكانه، تهجره وتتخلى عنه بكل سهولة، وكأنه لا يحتضن مشروع أبنائك، وأيضا انتم تميزون بين الذكر والأنثى، فالذكر هو الذي يؤدي الغناء في أغلب الأحيان، وكذلك يختلف غناء كل ذكر منكم عن غيره".
لم يعجبه جوابي، بدت عليه علامات فشلت في تحديد مغزاها، ضرب رأسه بجناحه بشكل مفاجئ ومسرحي.
وتكلم "مصيبتكم أنكم تخافون من كلام الناس على سمعتكم الحسنه، ولذلك تصبح السمعة رسناً مزوقاً في رقاب "حمير" تلبس ثياب بني أدم".
* * *
الكائن الذي بداخلي، وهو مندهش أيضا مما يجري أمامه، قال "أسال ذي الجناحين إن كان هناك ما يزعجه لأن كلامه لا يعجبني".
قطع حديثنا العصفور الخائص الذي يشبه أبي الحناء بسؤال سخيف لم أتوقعه منه.
"الرجل قال "وبعدين مريش"، هل يعني هذا بأن له ريشاً مثلي؟
ضحكت، لكن بداخلي خفت أن يسمعني أحدٌ فيفتضح أمري.
أجبته "بعض الناس يلبسون الحرير و"دودة القز" عارية!، ألا ترى أيها العصفور "المتطرف" أننا نعرف ما لا تعرفون ولذلك تظنون بنا أبشع الظنون".
***
الزمان: خارج عقاربه
الحالة: الظلام يميت الألوان كلها
المكان: يكشف من بين السطور
معلومات إضافية: سفينة تبحر على الصخور
بداية بعد نهاية من غير بداية، ففي اللانهاية تضيع كل نهاية، وهناك دائما ما يسمى لذة النهاية.
اقتربنا من واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة، لابد من أنها شواهد قبور. هناك، في المكان المحدد يجلس حارس المقبرة.
حدجني العصفور بنظرة كأنها نظرة أستاذ مدرسة قائلاً "ماذا يحرس هذا الأبله؟
تذكرت الذكريات، نبشتها، أنا أتقن اللعب فيها، فارتسمت لي لحظة ما التقيت أنا وزملائي هذا الحارس، وبدأ يصرخ ويسب ويشتم الذي سرق بعض الأزهار الموضوعة على أضرحة الراحلين، وخلال استرجاعي شريط ذكرياتي الباهتة اصطدمت بما أخبرني به صديقي بأنه فاق في الصباح ووجد حذاءه قد سرق من جاره الذي يتقن سبع لغات، ونسيت نفسي حتى أنني نسيت أنني نسيت.
قطع الطائر شريط ذهني المتقطع أصلا قائلاً "هل تحرسون المقابر خوفاً من أن يهرب الأموات".
قلت له تهرباً من سؤاله فلا أريد أن يسخر مني "بل ندفن موتانا".
تحرك في حركة اكروباتيه عشوائية على سور المقبرة، وأجابني "ولا تنس بأننا من أوحى لقابيل دفن هابيل حين قتله وهوى فيكم في قبور الفناء".
وعاد إلى سؤاله من جديد "ماذا يحرس هذا الأبله؟؟ هل تخافون الأموات أن يخرجوا؟؟ لماذا تضعون بلاطة وحجارة على القبر هل تخافون أن يغير الميت رأيه ويعود؟؟"
فقلتُ: " لا "، بلساني، وهززتُ رأسي مؤكداً، ثم نفيتُ، قاطعاً، بيدي.
***
نظرت إليه محاولاً استنطاق ملامحه، محاولاً أن استشف شيئاً جديداً من ملامحه التي تقبع خلف لسان يقطر سخرية مرة.
مرت علي لحظات قصيرة لا تبدو دقائق لكن حضورها في بؤرة إحساسي جعل منها دهراً، وتمتمت كلمات "الأموات لا يخيفون بل الأحياء"، لا أعرف إن كان أدركها، كان حاضراً، ربما، كان غائباً، ربما، ولكنه كان في إحدى الحالتين اللتين لا ثالث لهما.
قال الطائر بعد اشرأب عنقه وبدا مثل ديك يتمختر أمام دجاجاته "أتعرف لماذا يبتلعكم التراب؟
لم يسمح لي أن أفكر، بل تابع كلامه وكأنه محاضر في جامعة "التراب يبتلعكم لكي ينتقم منكملأنكم تدوسونه بأقدامكم ليلاً نهاراً".
ابتسمالشخص الذي بداخلي ابتسامة، ما فتئت أن تلاشت مثل فقاعة صابون تنطفئ عندما تسقط عليها قطرة ماء، وقال "أخبره أننا لا نعرف إن كان القبر يهزأ منا، أم يشفق علينا، وقل له أن الجثة لو تتكلم ربما لقالت لحفار القبور سلمت يداك، فالجثة لا تخشى القبر كما الخفاش لا يخشى الظلمة".
ضحك العصفور عندما أخبرته وقال "أنت شخص مجنون"
"لا بأس بالجنون إذا كان هناك ما يستحق الجنون، وأنتم العصافير أعرافكم ليست أعرافنا ونواميسكم ليست نواميسنا".
انزعج الطائر ورفع قدمه التي تشبه برعم شجرة، لم يكمل الخالق مزج شكلها النهائي، وصفعني قائلاً "هل تتحدث عن النواميس التي تجعلونها حجاباً، وخلفها تفعلون الكبائر وكل منكم مشغول بحياكة مؤامرته على الآخر، ولا تدركون أن العدالة هي التي توزع أجنحة على اليائسين، وأن السماء عادلة فقط لأنها بعيدة عن الأرض".
وتابع العصفور كلامه اللاذع "لو عرفت نفسك... لعرفتني فما أنا غير أنت في شكل أخر، هذا ما قالته البومة الصماء".
حاولت أن أتكلم، لكن الكلام بقي حبيس تفاحة آدم، وأكره الكلام لأنه يخرج من تفاحة، وكذلك الكلام أحيانا انتحاراً للذات، وأدركت الآن لماذا الطيور لا تتكلم بل تغرد؟ وعانقت نفسي وجهاً لوجه، فإذا بالطبيب يقول "الحمد لله على السلامة أنت في غيبوبة منذ شهرين، وخفنا فيها أن نفتقدك إلى الأبد.
قلت "لو حدث هذا لكان أفضل".
وشعرت بالخيبة كطفل أفلت منه عصفوراً فراح يطارده حتى خدشت يداه وتمزقت ثيابه، ولم يحصل على شيء وخشي أن يعود إلى البيت خاوي اليديين.
إلتفت من نافذة غرفتي في المستشفى فإذا بالعصفور "الأزعر" يطير دون كلام!
ابتعد عني ساخراً من أعماقه، وتركني في موقف لا أحسد عليه.
والكل يحسدني على سلامتي التي دخلتها بعد أن عادت إلي حياتي بشكل آخر، في منطق آخر، في تفاصيل إضافية خرجت فيها عن مألوف أتراسي اليومية.
مشاركة منتدى
2 تموز (يوليو) 2009, 06:29, بقلم ابحث عن ابتسامه ضائعه
اود ان اشكر الكاتب على هذه القصه الرائعه ولكن الا ترى بانك متشأئم في كتباتك مع انها رائعه وأكثر من ذلك بكثير وان احببت كتباتك كثيرا واود ان تكتب المزيد .وشكر لك .
2 تموز (يوليو) 2009, 06:37, بقلم ابحث عن ابتسامه ضائعه
اود ان اشكرك على هذه الكتابه الرائعه فانا عندما أقر لك استمتع كثير واتمنا لك التوفيق والاستمر في الكتباتك الرائعه
29 تشرين الأول (أكتوبر) 2009, 06:42, بقلم ابحث عن الابتسامه الضائعه
انت رائع لذلك اطلب منك المزيد من الكتابات