الاثنين ٣٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٩
بقلم رشيد سكري

محمد مفتاح في التجديد الفكري والنقدي

من بين المشاريع النقدية الوازنة، التي واكبت تطور الفكر و الأدب العربيين لما يزيد عن أربعة عقود، نجد مشروع محمد مفتاح، الذي أرسى دعائمه في مختلف حقول و ألوان المعرفة؛ من الديني إلى الشعري، ومن الحكائي إلى الموسيقي، ومن التاريخي إلى الفلسفي. يتميز محمد مفتاح، في مسيرته العلمية، بالصرامة المنهجية في اختيار المفاهيم و المصطلحات، متجاوزا، بذلك، تلك النظرة الضيقة، التي يُنظر بها إلى التراث العربي. و لقد أضحى، هذا الأخير، في نظر محمد مفتاح، مجالا واسعا للبحث و التطوير، بهدف الوصول إلى المشترك العام في التاريخ الإنساني. كان كتابه"تحقيق شعر لسان الدين بن الخطيب"المنطلق و الأساس لهذا المشروع النقدي الكبير، وما يستدعي ذلك من وفير العلم بعلوم الآلة. ومن هنا، كان التحقيق يتطلب جهدا معرفيا كبيرا، بل بحثا تاريخيا وأركيولوجيا في الإبدال اللغوي و المكاني. فمهما كان اختيار، القرن الثامن الهجري، كحقبة تاريخية أو اختيار أحد أعلامها الأجلاء، حسب تعبير الصوفيين، فإن لسان الدين بن الخطيب تتقاطع عنده المشارب المعرفية من نقلية و عقلية؛ فهو الفقيه و الأديب و الشاعر و الفيلسوف و الطبيب و المؤرخ، والمتصوف ووزير لبني الأحمر في مملكة غرناطة. إن هذا الإختيار، عند محمد مفتاح، كان عن وعي وبصيرة، خصوصا عندما جعله مفتتح مسيرته العلمية و مستتبعاتها؛ فالمرحلة التاريخية الدقيقة المتمثلة في صراعات ملوك الطوائف في الأندلس، وما ترتب عنه من طرد لابن الخطيب من غرناطة، واستقراره بالمغرب، كان لها كبير الأثر في التحقيق الذي أخرجه محمد مفتاح ؛ فأضحى الوزير المطرود فاعلا في البيئة المغربية.

وعلى أساسه كانت الدراسة في الشعر العربي، عند محمد مفتاح، ممزوجة ببعد سوسيولوجي تاريخي، حيث إن البلاغة، كعلم يدرس الشعر، شديدة الارتباط بالتاريخ، من زاوية التغيرات و الإبدالات التي تلحق المفهوم. فحسب محمد العمري فمفهوم البلاغة يتغير بحسب الثقافات و الحقب؛ فدلالاتها المعرفية عند الجاحظ، مثلا، تختلف عن ابن سنان الخفاجي، علاوة على أن مفهومها عند عبد القاهر الجرجاني بعيد كل البعد عن السكاكي و ابن النديم، ففي هذا المعلن كان لزاما على الباحث أن يغير من أدوات البحث و آلياته و منهاجه.

وعلى ضوء ذلك، يظهر أن المزية من البحث العلمي، حسب محمد مفتاح، هو حصول ما أسماه ب"القصدية"، إذ إن هذا المصطلح ـ أي القصدية ـ انتشر كانتشار النار في الهشيم في الأوساط الثقافية، التي تعنى بالدراسات النقدية و الشعرية، فبدأت تطالعنا تعابيرُ من قبيل: قصدية القصيدة أو قصدية الدراسة. ومنه، يرى، محمد مفتاح، أن لا مزية من بحث علمي ـ أكاديمي لم يكن طموحه و هدفه هو توليد قاموس جديد من المصطلحات يخدم البحث العلمي. فبالعودة إلى التحقيق السابق، الذي أنجزه الباحث عن لسان الدين بن الخطيب يعنُّ مدى اهتمام محمد مفتاح بالتراث العربي، بقصدية إزالة الشوائب التي مافتئت تعلق به، جراء التوصيفات و الأحكام الجاهزة التي ألفقها له ـ أي التراث ـ بعض المستشرقين. صحيح أن ما أسداه هؤلاء للخطاب الصوفي من جليل الأعمال؛ كالتعريف بأبرز رواده و تنوير بعض نظرياته و اتجاهاته، إلا أن ذلك يظل، في نظر محمد مفتاح، قاصرا و غير كاف ؛ لأن الأحكام الجاهزة هي التي تغدي الدراسات المتعلقة بالتراث. وبالمقابل فإن التعامل مع التراث العربي، حسب مفتاح، يستدعي النهل المباشر من مختلف العلوم الإنسانية و الإجتماعية، مادام الخطاب بمختلف مرجعياته حاضرا في التركيبة الاجتماعية للثقافة العربية، وما يحتاجه من تفسير وتأويل.

بعيدا عن التصوف قريبا من الشعر، استظل محمد مفتاح بعلوم البلاغة؛ علم البيان و البديع و المعاني؛ بهدف مقاربة مزية الخطاب الشعري. ففي ضوء التوظيفات الجديدة، لمفاهيمَ تم توليدها و إخراجها إخراجا وظيفيا جديدا كالتشاكل و التباين، يظهر مدى وسع الاختراق الكوسموسي؛ الذي يتعرض له البناء المعرفي. إلا أن تداخل الحقول المعرفية جعل معالم هذه المفاهيم تستغيم، مادام الانتقال من ميدان إلى ميدان آخر يكون انتقالا سلسا مبنيا على قيمة التجاور لا التباعد في المبنى و المعنى. إن العالم اللسني"كريماص"، حسب محمد مفتاح، هو أول من نقل مفهوم التشاكل من ميدان الفيزياء إلى ميدان اللسانيات، ليقتحم بعد ذلك التيار السيميوطيقي المتراوح بين الرمزي و الدلالي. سيكون طبيعيا، إذا، أن يظهر لهذه المصطلحات أثر في المشروع النقدي لمحمد مفتاح. فرائية ابن عبدون، الشهيرة، كانت مسرحا لتجريب أدوات حديثة في التأويل و التفسير، مبئرا محمد مفتاح مفاهيم بمعان جديدة تحوم حول المركز؛ فما كان للتشاكل الصوتي و النبري و الإيقاعي، إلا أن يوسِّع ما بدأته الدراسات الحديثة في الغرب حول تلقي الشعر. يقول ابن عبدون في بيت الاستهلال من البسيط:

الدهر يفجـع بعد العين بالأثـر
ف، ما البكاء على الأشباح و الصور؟

جعل محمد مفتاح، من التشاكل، وسيطا معرفيا و دلاليا و ايقاعيا في تحليله للقصيدة، علاوة على توظيف التقابل الدلالي بين ما هو خبري و إنشائي أو بين ما له صلة بمعنى و مبنى القصيدة. لكن كيف أ ُخرج الاستفهام عن دوره الطبيعي المألوف؟ عن هذا السؤال يجيبنا محمد مفتاح في كتابه"تحليل الخطاب الشعري، استراتيجية التناص"بقوله إن للتناص صلة تربط بين الكلمتين و المعنيين، فهذا الخروج لا يمكن إدراكه إلا في شروط من التراكم على مستوى التجارب الشعرية لشعراءَ سابقين.

يبدو أن للشرط التاريخي دورا كبيرا في بلورة مشاريع تخترق بنيات الثقافة العربية، كما أن للتبادل الثقافي الموسع يد طولى في إبراز الفكر، الذي يخدم التطور الإنساني. فضلا عن ذلك، فمحمد مفتاح جالس، في كلية الآداب بالرباط، البنيوي الفرنسي رولان بارث، ولعل في ذلك ما يشير إلى الانفتاح الثقافي الحاصل على الموجات الأيديولوجية، التي كانت متأججة في فرنسا منتصف القرن الماضي. أما والوضع هكذا، فإن لأواصر الصداقات، التي تعتمل في خفاء، تأثيرا جوهريا في المسار العلمي لمحمد مفتاح انطلاقا من: محمد أركون إلى محمد عابد الجابري مرورا بعبد الفتاح كيليطو و طه عبد الرحمان و الشاعر المغربي محمد بنيس وآخرين...

فكان محمد مفتاح، فعلا، رمزا و هرما و واجهة ثقافية في المغرب و في العالم العربي؛ لما ألفه من مراجع يخدم بها الفكر و النقد على حد سواء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى