الأحد ٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

مراتب الوجود

سئل الإمام الغزالى عن هذا القرآن، فأجاب بقوله:« اعلموا أن كل شئ في هذا الوجود له أربع مراتب»:
وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البياض المكتوب عليه.. كالنـار مثلاً، فإن لها وجـوداً في التنور، ووجوداً في الخيال والذهن، وأعنى بهذا الوجود العلم بنفس النار وحقيقتها، ولها وجود في اللسان، وهى الكلمة الدالة عليه أي لفظ النار ولها وجود في البياض المكتوب عليه بالرقوم.. و(الإحراق) هو الصفة الخاصة بهذا النار، كـ: (القدم) بالنسبة لـ (القرآن) ولكلام الله تعالى.. والمحرق من هذه الجملة الذي في التنور دون الذي في الأذهان، وفى اللسان، وعلى البياض، إذ لو كان المحرق في البياض أو اللسان لاحترق، ولكن لو قيل لنا: النار محرقة؟ قلنا: نعم! فان قيل لنا: كلمة النار محرقة؟ قلنا: لا! فان قيل لنا: حروف النار محرقة؟ قلنا: لا! فان قيل: مرقوم هذه الحروف على البياض محرقة؟ قلنا: لا! فان قيل المذكور بكلمة النار، أو المكتوب بكلمة النار محرق؟ قلنا: نعم! لأن المذكـور والمكتـوب بهذه الكلـمة ما في التنور، وما في التنور محرق!!..

فكذلك (القدم) –وصف كلام الله تعالى – كالإحراق – وصف النار- وما يطلق عليه اسم (القرآن) وجوده على أربع مراتب، أولها:- وهى الأصل – وجوده قائماً بذات الله تعالى يضاهى وجود النار في التنور، (.. وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ..) (النحل /60).. ولكن لابد من هذه الأمثلة في تفهيم العجزة!! والقدم وصف خاص لهذا الوجود!!..

والثانية: وجوده العلمي في أذهاننا عند التعلم قبل أن ننطق بلساننا، ثم وجوده في الأوراق بالكتب، فأن سئلنا عما في أذهاننا من علم القرآن قبل النطق به، قلنا: علمنا صفته، وهى مخلوقة، لكن المعلوم به قديم! كما إن علمنا بالنار وثبوت صورتها في خيالنا غير محرق، لكن المعلوم به محرق!! وان سئلنا عن صوتنا وحركة لساننا ونطقنا، قلنا: ذلك صفة لساننا، فلساننا حادث، وصفته توجد بعده، وما هو بعد الحادث حادث بالقطع! لكن منطوقنا ومذكورنا ومقروءنا ومتلونا بهذه الأصوات الحادثة قديم، كما إن ذكرنا حروف النار بلساننا كان المذكور بهذه الحروف محرقاً، وأصواتنا وتقطيع أصواتنا غير محرق، إلا أن يقول قائل: حروف النار عبارة عن نفس النار، قلنا: إن كان كذلك، فحروف النار محرقة، وحروف القرآن إن كان عبارة عن نفس المقروء فهي قديمة، وكذلك المخطوط برقوم النار والمكتوب به محرق، لأن المكتوب هي نفس النـار، أمـا الرقم الذي هو صـورة النـارغير محرق لأنه في الأوراق من غير إحراق أو احتراق!!..

فهذه أربع درجات تشتبه على العوام لا يمكنهم إدراك تفاصيلها، وخاصة كل واحدة منهن ، فلذلك لا نخوض بهم فيها ، لا لجهلنا بحقيقة هذه الأمور وكنه تفاصيلها..

إن النار من حيث أنها في التنور توصف بأنها محرقة وخامدة ومشتعلة؛ ومن حيث أنها في اللسان يوصف بأنها عجمي وعربي وتركي، وكثيرة الحروف وقليلة الحروف؛ وما في التنور لا ينقسم إلى العجمي والعربي والتركي، وما في اللسان لا توصف بالخمــود والاشتعال؛ وإذا كان مكتوباً على البياض يوصف بأنه أحمر وأخضر وأسود، وأنه بقلم المحقق أو الثلث والرقاع أو قلم النسخ؛ وهو في اللسان لا يمكن أن يوصف بذلك، واسم النار يطلق على ما في التنور وما في القلب وما في اللسان وعلى القرطاس، ولكن، باشتراك الاسم!! فاطلق على ما في التنور حقيقـةً، وعلى ما في الذهن من العلم لا بالحقيـقة، ولكن بمعنى أنه صورة محاكية للنار الحقيقي، كما أن ما يرى في المرآة يسمى إنساناً وناراً لا بالحقيقة، ولكن بمعنى أنها صورة محاكية للإنسان الحقيقي والنار؛ وما في اللسان من الكلمة يسمى باسمه بمعنى ثالث، وهو أنه دلالـة دالة على ما في الذهن، وهذا يختلف بالاصـطلاحات، والأول والثاني لا اختلاف فيهما، وما في القرطاس يسمى ناراً بمعنى رابع، وهو أنها رقوم تدل بالاصطلاح على ما في اللسان، ومهما فهم اشتراك إسم القرآن والنار وكل شئ من هذه الأمور الأربعة، فإذا ورد الخبر إن القرآن في قلب العبد، وأنه في لسان القارئ، وأنه صـفة ذات الله تعالى صدق بالجميع مع الإحاطة بحقيقة المراد..

وهذه أمور جلية دقيـقة لا أجلى منها عند الفطن الذكي، ولا أدق وأغمض منها عند البليد الغبي، فحق البليد أن يمنع من الخوض فيها، ويقال له: قل القرآن غير مخلوق واسكت، ولا تزد عليه ولا تنقص، ولا تفتش عنه ولا تبحث، وأما الذكي فيروح عن غمة هذا الإشكال في لحظة، ويوصى بأن لا يحدث العامي به حتى لا يكلفه ما ليس في طاقته، وهكذا جميع موضع الإشكالات في الظواهر، فيها حقائق جلية لأرباب البصائر، ملتبسة على العميان من العوام، فلا يظن بأكابر السلف عجزهم عن معرفة هذه الحقيقة، وان لم يحرروا ألفاظها تحرير صنعـة، ولكنهم عرفوه وعرفوا عجز العوام فسكتوا عنهم وأسكتوهم، وذلك عين الصواب والحق، ولا أعنى بأكابر السلف الأكابر من حيث الجاه والاشتهار به، ولكن من حيث الغوص على المعاني والإطلاع على الأسرار، وعند هـذا ربما انقلب الأمر في حق العوام واعتقدوا في الأشهر أنه الأكبر، وذلك سبب آخر من أسباب الضلال..)..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى