مسألة انتظار...
تقدمت من موظفة في المكتب الثالث، سلمتها عقدا قديما من عقود الازدياد، طلبت منها ثلاث نسخ منه وثلاث نسخ من شهادة الحياة الفردية، قالت لي: أين مقر السكنى؟ أجبتها: أسكن بعيدا عن هنا، أكدت لي أن الوثائق الأولى سأحصل عليها من هذه البلدية والوثائق الأخرى ما علي إلا أن أتوجه إلى مقر السكنى لأحصل عليها، ثم أشارت إلي بأن أجلس على كرسي يبعد مسافة ما عن مكتبها، وما علي إلا أن أنتظر، قلت في قرارة نفسي: لا بأس، الانتظار عادة تعودنا عليها وتعودت علينا، فهي من طول ما عاشرتنا وعاشرناها أصبح من حقها أن تطلب ـ لو شاءت ـ شهادة سكنى، انتظرت طويلا، وكنت أضع على ركبتي محفظة مملوءة بأوراق الفروض... البلدية فارغة كعادتها، قلت في نفسي لم لا أخرج هذه الأوراق وأصحح منها ريثما أتسلم هذه الوثائق التي أرهقتني من أمري عسرا، فأنا ومنذ أن ولدت وأنا أهيئ الوثائق... اشتغل بدل الانتظار هكذا بدون معنى، إلا أنني بين أخذ ورد تحاشيت أن أفعل ذلك، خاصة وأن الناس، الأميون منهم خاصة ما فتئوا يستهزئون برجال التعليم... رجال التعليم طبقة من آكلي أموال الدولة... يتقاضون الأجور ولا يعملون شيئا، يستهلكون ولا ينتجون، جل أيامهم عطل، ما أكثر ما يضربون عن العمل، ما أقل ما يعملون، مطالبهم لا تتوقف ولا تنتهي... لا هم لهم إلا السلالم والرتب والترقيات... والامتحانات المهنية التي لا تنتهي... يتركون أبناءنا عرضة للضياع، تلتهم الشوارع أيامهم وأعمارهم...
وبما أنني من رجال التعليم، وقد سبق لي أن سمعت من هذه التعليقات ما يكفي ليسمم البدن، فإنني قررت ألا أخرج هذه الأوراق من محفظتي حتى لا أسمح لمزيد من التعليقات بأن تتوالد، وإن كنت استغرب من هذه التعليقات، فأنا ما دمت لا أصحح هذه الأوراق في القسم وفي أوقات تعلم التلاميذ، فما الضير في أن أصححها في المقهى أو في السوق أو حتى في غرفة النوم؟ فما شأن هؤلاء التافهين بأمور العاملين؟... هكذا قال لي أحد الأساتذة يوما، وبما أنني من الذين أنعم الله عليهم بنعمة مقت الجدال وكراهية الثرثرة فإنني ارتأيت ألا أقحم نفسي في عراك بلاغي من أي نوع كان... قلت في نفسي، سيكون من الأحسن لو انصرفت من هنا، لكن الوثائق أخرتني توجهت إلى المكتب مباشرة، وجدت... السيدة الكريمة واضعة يديها على المكتب ورأسها بين كفيها... وقلت: ربما هي تنتظر، والانتظار نعمة، نعمة تقينا مغبة الاستعجال... الانتظار عادة ترتبط بالصبر والأناة... لكن أن تنتظر مولودا جديدا...أو تنتظر الصلاة بعد الصلاة... أو تنتظر راتبا شهريا... كلها أمور محمودة... أما أن تنتظر أن ينقضي الوقت... والمواطنون ينتظرون... أن تنتظر والدقائق تمر... أن تنتظر وقد تقاضيت راتبا مقابل عمل ما فتؤجله من أجل أن تنتظر... فهذا ما لا يستسيغه عاقل، قالت لي: انتظر سأهيئها حالا، مرة أخرى، قلت : لا بأس، وماذا كنا نملك غير أن نقول: لا بأس؟ بدأت من جديد وظيفة التأمل : أغلب المكاتب فارغة إلا من الكراسي... من حين إلى حين يمر أحدهم وفي يده ملف... يتظاهر بأنه ينجز مهمة خطيرة... قلت في نفسي : ترى ماذا يصنع هؤلاء غير نقل الملفات من مكتب إلى مكتب... هم لا يتقاضون شيئا ولا ينجزون شيئا... وتمنيت لو أننا نتعامل في هذه الوثائق مع الأجهزة الإلكترونية على غرار ما نفعل في سحب النقود من البنوك، تدفع بطاقة رقمية وتحصل على عقد ازدياد أو أكثر... ويكفي أن تضع بصماتك على الشاشة الرقمية ليتأكد الجهاز أنك حي ترزق فيسلمك بالتالي شهادة الحياة... عوض أن تكلف نفسك مشقة الانتظار الذي لا ينتهي ومشقة النظر الذي لا يفرح القلب... وبما أنني وحدي ـ هناك ـ ولم أجد من أكلم فقد قلت لنفسي مرة أخرى : لا بأس... الصبر جميل، وتنقضي حياتنا هكذا بين: " لا بأس " وبين الانتظار...
أما الوثائق... فلا تسألني متى حصلت عليها... فلله في خلقه شؤون.