الأحد ١٢ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم جميل حمداوي

مستويـات القصة القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري

(مقاربـــة ميكروســـردية)

توطئـــــــة:

يعتبر جمال الدين الخضيري من أهم كتاب القصة القصيرة جدا بالمغرب إلى جانب عبد الله المتقي، وحسن برطال، ومصطفى لغتيري، والسعدية باحدة، وهشام بنشاوي، ومحمد تنفو، ومحمد صولة، ومصطفى الكليتي، والحسين زروق، وفاطمة بوزيان، وعز الدين الماعزي، وجمال بوطيب، وسعيد منتسب، ووفاء الحمري، وسعيد بوكرامي، ورشيد البوشاري، وحميد ركاطة، ومحمد العتروس ، وخالد السليكي، وفوزي بوخريص، والبشير الأزمي، ومحمد شويكة، ومليكة بويطة، والزهرة رميج، وعبد الحميد الغرباوي، ومحمد فاهي، وإسماعيل البويحياوي، وإبراهيم الحجري، وحسن البقالي، ومحمد إبراهيم بوعلو، وعبد الرحيم أحيزون، وعبد السميع بنصابر، وعبد الغني صراض، ومحمد أكراد الورايني، ومصطفى طالبي، وكمال دليل الصقلي، وإبراهيم أبويه، وعبد الغفور خوي، وجبران خمران، والحسن ملواني، وعبد الرحيم بخاش، وأنيس الرافعي...

هذا، وقد تميز جمال الدين الخضيري عن هؤلاء الكتاب بالانتقال من الرؤية الساخرة كما في مجموعته القصصية الأولى:" فقاقيع" إلى الرؤية التأصيلية القائمة على الكتابة التراثية قالبا ودلالة ومقصدية كما في مجموعته الثانية :" وثابة كالبراغيث" .إذاًً، ماهي خصائص ومميزات هاتين الأضمومتين في ضوء المقاربة الميكروسردية ؟ ذلكم هو السؤال الذي سوف نحاول رصده في موضوعنا هذا.

المستـــــوى البصـــري:

نعني بالمستوى البصري كل ما يتعلق بالكتابة فوق الصفحة، وما يرتبط بالخط والأيقونة وعلامات الترقيم والمساحة النصية. ويمكن حصر هذا المستوى في مجموعة من الخاصيات المميزة على النحو التالي:

خاصيــــة قصـــر الحجم:

تتراوح قصص جمال الدين الخضيري في مجموعته " فقاقيع" بين سطر واحد في قصة:"دنيا":" اختار منفاه.. ولى ظهره للدنيا فأصبحت لا تراه إلا من قفاه"، ونصف صفحة كما في قصة:" بطل تراجيدي": " يحيرني أمر هذا الكائن المفلطح. كلما طويت صفحة منه إلا وتجذبني صفحة أخرى، فتمتلئ عيناي بالدموع. يا له من بطل تراجيدي..! عفوا، يا له من بصل طاجيني! أذبحه من الوريد إلى الوريد فتتساقط وجوهه أمامي. لا يمكن للمرء أن يكون محايدا في حضرته. عندما تنسدل المقصلة تنسدل معها العبرات"، وصفحة كاملة كما في قصة:" الهدير": " أعرف كاتبا نذر نفسه للكتابة، وانزوى في برجه النائي. وما إن أمسك بخط الكتابة وأخضع قلمه لنسيج الأحداث حتى كبا واستعصى عليه شق الحروف وبذرها بفعل كدر أصابه تسبب فيه زعيق سيارات وعجلات لا تتوانى عن الهدير. نهض ذات صباح. دق مسامير في قطعة خشبية مستطيلة، ثم دفنها في الطريق تاركا فقط لأنصالها أن تطفو بعض الشيء على الأديم. اختفى وراء شجرة وبدأ يراقب ما اقترفته يداه. مرت سيارة. سرعان ما تمايلت. انحرفت عن الطريق، وربضت جانبا. تتالت السيارات وتكررت المشاهد ذاتها. وعندما عاد في اليوم الموالي، حاملا قطعته الخشبية، اختفت الأشجار وتلاشى الطريق. وقبل أن ينتشي بفتحه المبين، هدر من بعيد صوت قطار، وقال لنفسه:
 من أي غابة حديدية يا ترى سأستل، هذه المرة، أسافين، يكون فيها بأس شديد وعرقلة لقاطرات هذا التنين الزاحف.

وما بين إغفاءة عين وتفتحها، صدئت عجلات الكاتب التي لا تدور، واستمر الهدير وتشابكت حول برجه طرق أخرى تعج بالضجيج."

ويعني هذا أن الكاتب قد التزم بالمعيار البصري المقنن، والمتمثل في اختيار حجم معين لكتابة قصصه القصيرة جدا. ومن ثم، تتأرجح قصصه فضائيا وبصريا بين سطر واحد ونصف صفحة وصفحة واحدة.

خاصية التنويــع الفضائـــي:

تتخذ القصة القصيرة جدا طابعا نثريا مشتتا على مساحة النص، حيث يطغى السواد على البياض، بينما في بعض الأحيان، يتوازى البياض مع السواد، أو يختلفان بشكل من الأشكال مدا وجزرا. ويعني هذا أن القصة القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري قد تتخذ فضاء قصصيا سرديا نثريا كما في أغلب قصص " فقاقيع" وقصص "وثابة كالبراغيث"، وقد تتخذ فضاء مسرحيا كما في قصة:" قناع":

" هو: أودّ أن أشتري قناعا يا حبيبتي

هي: لِمَ، أتنوي أن تمثل في مسرح؟

هو: لا، لكن حتى يبدو وجهي محايدا وأنا أغازلكِ، و...

هي: أتضع قناعا على قناع؟!

صفقت في وجهه الباب وهي تقول:

 في الوقت الذي كنت أنتظر أن تتجرد من أصباغك، تتمترس في قلاعك."

وقد تتخذ هذه القصص القصيرة جدا فضاء شعريا كما في قصة:"موعظة":

" خرجنا صغارا إلى رحلة.
فرحين كنا، نخبّ.. نتشابك..
هرول نحونا في عباءته يسعى.
عزل عنا حاملات الضفائر.
ألقى من جلاميده ما ألقى.
انفطرنا من جديد نرعى..
زمجر. توعد. أزبد وأرغى.
صحنا جميعا:

جئنا إلى رحلة وليس إلى نِحلة."

وقد تتخذ هذه القصص أيضا مشهدا سينارستيا كما في قصة:"من مشاهدات الرائي اللامرئي":" (مَشاهد قد تكون شهادة ومُشاهدة، لم أُشافه بها أحدا من قبل، لا تبرح بصري وتمر علي لُمَعَ وبوارقَ. فإن أفلتتْ مني بعض التفاصيل، جاز لكم أن تتصوروها حسب هواكم).

المشهد الأول:

أراهم في الميترو، في حمام السباحة، في كوكب ما، في اللامكان،... يدفنون رؤوسهم بين الصفحات، يتغاضون عن كل شيء عداها. لا هنيهة لهم لإبعاد خصلاتهم الشقراء عن عيونهم التي ترتحل في طيات الأسفار. كنت كمن يقبع تحت طاقية إخفاء، لا لمحة واحدة تحصدني، تصدحني من تلك اللمحات.

المشهد الثاني:}

أرى البيداء ترعفني،لا ترفعني،لا تعرفني من غير قرطاس ولا قلم. أراها تسربلت عارية عاوية، تحبل بالقفار والآبار، تقتلعني، تبتلعني. في كل ثقب باب، أو خرمة خيمة تلتقي العيون بالعيون تتسّقط الثنايا والزوايا. لا هسيس، ولا جليس...

المشهد الثالث:}

أرى الميترو نفسه يشق البيداء. تمتد "البركة الحسناء". كالفسائل تُسْتورد بنادلاتها ومرتاديها الأسواق. ثمة أناس يلحسون ... يقتنصون شتى الغلمات. يدفنون ... يحاكون النعامات. على مرمى بلحة تُخسف، تُنسف- بمن فيها- الأنفاق.
(كم كنت هاجعا في فلوات ذاتي تطوقني طاقية إخفاء، يتخطاني مراقب التذاكر، وأنا أمتطي ميترو الأنفاق!!)".

إذاً، ثمة فضاءات بصرية متنوعة تتحكم في بنية القصة القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري، فهي التي تشكل في الحقيقة بنيتها التجنسيسة والنوعية والنمطية.

خاصيـة التقطيـع البصـري:

يلاحظ القارئ لقصص جمال الدين الخضيري أن الكاتب على مستوى الكتابة يقطع حروف ملفوظاته القصصية تقطيعا فنيا وجماليا ودلاليا، ويتلاعب بخطوط كلماته وجمله بصريا وفضائيا تمديدا وتطويلا وتسريعا، كما في قصة " السائق" التي يمدد فيها الكاتب كلمة جالس دلالة على طول جلوس السائق أمام مقود سيارته:" جاااالس أمام المقود. كأس الشاي مثبت جنب الكرسي. على لوحة القيادة غيض وفيض؛ كراسة مهملة، اسطوانة مهشمة، صور شاحبة،... في الخلف ملاءة وسرير. يحمل في سيارته عمره، عهره، سره، نبوغه. يبحر نحو التخوم. ويعود ذات خريف كما عاد السندباد، لكن دون خوارق ولا عجائب. فقط كان شاهدا على خرائب وكائنات تقتات على مرتادي الطريق".
بيد أن ما يلاحظ على هذا التقطيع البصري أنه قليل جدا لدى جمال الدين الخضيري ، وذلك بالمقارنة مع الكتاب المغاربة الآخرين المعروفين بهذا الجنس الأدبي الجديد.

تنويع علامات الترقيــــم:

إذا كان بعض كتاب القصة القصيرة جدا بالمغرب (عز الدين الماعزي مثلا) لا يلتزمون بعلامات الترقيم في نصوصهم الإبداعية بشكل من الأشكال، فإن جمال الدين الخضيري يلتزم بهذه العلامات، حيث يضع النقطة، والفاصلة، والفاصلة المنقوطة، وعلامة الاستفهام، وعلامة التأثر، ونقط الحذف كما في قصة:" طريق الخلاص": " بلغ بي المغص أشده. قصدت إحدى الحكيمات علني أجد عندها دواء أفرج به عن كربتي. وما أن حصلت على بغيتي، لم اصطبر أن أنأى بعيدا، فابتلعت ما ابتلعته دفعة واحدة. وجاءني الخلاص قبل أن يرتد إلي طرفي. فإذا بسائل ساخن دبق ينداح مني مخلفا شريطا طويلا كطائرة نفاثة ينز منها خيط دخان يشي بخط مرورها. وأنا في قمة إنتاجي لسلالة شريطي الذي يمتد بامتداد خطواتي، سألني أحد المارة عن أقرب طريق للخلاص. فكان جوابي يرقص على طرف لساني:

اتبع هذا الشريط فإنك لن تضل أبدا، وستجد مرادك عند نهايته."

ويعني هذا أن جمال الدين الخضيري قد بقي وفيا لعلامات الترقيم، ولم يتحرر منها كليا أو جزئيا كما فعل الآخرون من كتاب القصة القصيرة جدا بالمغرب.

الخاصيــة الشذريــة:

تتحول بعض القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري إلى كتابات شذرية مقطعة، ومجزوءات نصية، وكبسولات متدرجة تقطيعا وتشذيرا وترتيبا، كما نجد ذلك واضحا في قصة:"الفارس"التي تتحول إلى قصص مفككة في شكل شذرات مقطعية مستقلة بنفسها:

"1- وجد صفيحة جواد.

2- طار فرحا، صاح جذلا: لم يتبق لي غير ثلاث صفائح وجواد حتى أصبح فارسا."

وتظهر هذه الخاصية الشذرية المقطعية كذلك في قصة:" وتقيأ قطا":

"1- ترنح متعتعا بالسكر.

2- تقيأ ما في جوفه.

3- هب إليه قط يلحس قيأه.

4- صاح باكيا: واحسرتاه، لقد تقيأتُ قطا."

هذا، ويتجاوز جمال الدين الخضيري ، وذلك على مستوى الفضاء البصري والمساحة النصية، كتابة التأسيس الكلاسيكية تجنيسا وتقعيدا ، وذلك بالانتقال فنيا وجماليا إلى تمثل طرائق الكتابة التجريبية انزياحا ومفارقة.

 المستــوى الصرفـــي والتركيبـــي:

يشتمل المستوى الصرفي والتركيبي كل الظواهر اللغوية المتعلقة بالقصة القصيرة جدا صياغة ونحوا ولسانا. ومن ثم، فإننا نستحضر في ضوء ذلك مجموعة من المقاييس والخصائص اللسانية التي تتميز بها القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري، ويمكن حصر هذه الخصائص في النقط التالية:

الخاصيـــة الفعليــــة:

يشغل جمال الدين الخضيري في قصصه القصيرة جدا جملا فعلية متعاقبة تدل على الحركة والتوتر والاضطراب سواء أكانت تلك الجمل الفعلية بسيطة أم مركبة، سواء أكانت مبدوءة بالفعل الماضي أم مبدوءة بالفعل المضارع أم مبدوءة بفعل الأمر، كما يتجلى ذلك واضحا في قصة "الكرة الملعونة":" رمى بكرته بعيدا. ارتطمت بزجاج نافذة الجيران. تهشم الزجاج.هرب الكل. بقي وحده محدقا في النافذة. أطلت المرأة برأسها تسبقها عاصفة من الشتائم. التقطت الكرة وقطعتها نصفين. انشطر قلبه نصفين. خرجت البنت واحتفظت بنصف ما قطعته أمها، وناولت النصف الباقي له منذ ذلك الحين وهو يحاول أن يرتق النصفين، فكان يلوح له السكين متدليا من النافذة نفسها التي مايزال زجاجها مهشما."

ويتضح لنا من هذه القصة أنها - من جهة- تتأرجح بين جمل فعلية ماضية ومضارعة. ومن جهة أخرى، تتأرجح بين جمل بسيطة (رمى بكرته بعيدا- ارتطمت بزجاج نافذة الجيران...)، وجمل مركبة (أطلت المرأة برأسها تسبقها عاصفة من الشتائم- التقطت الكرة وقطعتها نصفين...).

خاصيــــة التراكــــب:

تتراكب الجمل الفعلية في قصص جمال الدين الخضيري إتباعا وتعاقبا وتسلسلا ، مع تسريع الأحداث واحدة تلو الأخرى قصد خلق التوتر السردي كما في قصة:" الكرة الملعونة":" رمى بكرته بعيدا. ارتطمت بزجاج نافذة الجيران. تهشم الزجاج. هرب الكل. بقي وحده محدقا في النافذة. أطلت المرأة برأسها تسبقها عاصفة من الشتائم. التقطتِ الكرة وقطعتها نصفين. انشطر قلبه نصفين. خرجت البنت واحتفظت بنصف ما قطعته أمها، وناولت النصف الباقي له. منذ ذلك الحين وهو يحاول أن يرتّق النصفين، فكان يلوح له السكين متدليا من النافذة نفسها التي ما يزال زجاجها مهشما."

نلاحظ في هذه القصة القصيرة جدا مجموعة من الجمل الفعلية التي تتسارع تراكبا وتعاقبا وتواليا (رمى...- ارتطمت...- تهشم...-هرب...-بقي...- أطلت....). ويعني هذا أن تراكب الجمل بشكل تعاقبي من أهم الآليات اللغوية لتسريع الأحداث السردية.

خاصيـــة التتابــــــع:

تعمد بعض القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري إلى خاصية التتابع لخلق نوع من الحركية الدرامية داخل نسيج القصة كما في قصة:"بائع الذباب":"انتبه فوجد نفسه يبيع الذباب. نش، وهش، ورش. لم يتذبذب الذباب.

قيل له:

 بكم تبيع الذباب؟

غضب. جر العربة المحملة بالسمك ومضى.

كان يلفه الضباب. كان يلفه الذباب."

نلاحظ في هذه القصة القصيرة جدا تتابع مجموعة من الأفعال الحركية الديناميكية، مثل: نش، وهش، ورش، وتساهم هذه الأفعال في تسريع إيقاع القصة وتكثيفها تحبيكا وتخطيبا.

خاصيـــة التسريع:

تتسم بعض قصص جمال الدين الخضيري بخاصية التسريع، وذلك باستخدام أفعال متعاقبة ومتتابعة ومتراكبة ومتسارعة كما في قصة:"أفعى":" سيّج حظيرة. اكترى بدوا. نصب كرسيا واستوى عليه. لم ينقصه غير علم يرفرف ونشيد يُعزف. وضعهما كيفما اتفق. وإذا الحظيرة دولة تسعى. وإذا هي تنقلب أفعى."

توظف هذه القصة القصيرة جدا مجموعة من الأفعال المتسارعة: (سيج-اكترى- نصب-استوى...)، وذلك بغية تسريع الإيقاع السردي تأزما وتوترا واضطرابا .

خاصية الاشتقـــاق:

يلاحظ أن الكثير من قصص جمال الدين الخضيري تتميز بظاهرة الاشتقاق الصوتي والصرفي والدلالي والتركيبي. بمعنى أن الكاتب يتلاعب باللغة بديعا وتوازيا وموسقة، كما يبدو ذلك واضحا في قصته المعنونة:" حالة طوارئ":" جلس في المقهى، كانت ماثلة قبالته بشكل متحد كأنه القدر. تثاءب، فتثاءبت، ابتسم، فافتر ثغرها عن ابتسامة. هم بها وهمت به. جلس أمام مقود سيارته وقبل أن يتم حركة فتح الباب لها، دوّت في المكان صفارات إنذار. توارتْ، وتوارى الكل في لمحة بصر. تحسس قميصه في ذهول فلم ير أنه قُدّ من قُبل ولا من دُبر، فتنفس الصعداء."

هذا، ويتضح هذا الاشتقاق جليا من خلال إتباع كلمات متجانسة صوتيا (تثاءب، فتثاءبت-ابتسم عن ابتسامة- هم بها وهمت به- توارت وتوارى- قد من قبل ولا من دبر- تحسس وتنفس...).

خاصيـــة التــوازي:

يعتمد التوازي على التساوي والتعادل بين الأصوات والمقاطع الصرفية والكلمات والتراكيب النحوية، كما يتبين ذلك واضحا في قصة: " حكاية الطابور" التي تتوازى فيها الأصوات والكلمات والصيغ الصرفية والتراكيب النحوية:" طابور طويل، طويل...

فيه من يفتل شواربه، من يتحسس جواربه، من يرقب عقاربه،...

ترنيمة طقطقة أحذية تسبقها العطور تتمادى في المرور.

تستقر أمام الشباك، تحسر عن نواصي كل ما هو فتاك.

تتمطى الأعناق كخيط دخان نحو الجابي المتناثر بين أشداق الشباك.
صاح أولهم:

 الشباك ما قرعته غير الضاربة برجليها، الناقرة كالناقور، والخارقة الحارقة للطابور.
قالت مزدلفة دافعة بكل نفج فيها:

 أنا أنثى، أنثى أنا...

لعلع آخرهم:

 كل واحد منا في هذا الطابور ينوب عن أنثى ما، حتى لا تتوسل أو تتسول بتفردها وتجردها.."

هذا، ويساهم التوازي بكل أنواعه في إثراء الوظيفة الدلالية، وخلق الخاصية الإيقاعية تصويتا وتنغيما ونبرا وتشاكلا.

خاصيــــة الانزيـــــاح:

يمس الانزياح عدة مستويات صوتية وصرفية وتركيبية وبلاغية. فهناك، دائما تشويش - من الناحية التركيبية - على مستوى الرتبة تقديما وتأخيرا، وذلك بغية تقريب القصة السردية من عالم الشعر، وإرباك القارئ على مستوى الدلالة كما في قصة:" موعظة":

" خرجنا صغارا إلى رحلة.
فرحين كنا، نخبّ.. نتشابك..
هرول نحونا في عباءته يسعى.
عزل عنا حاملات الضفائر.
ألقى من جلاميده ما ألقى.
انفطرنا من جديد نرعى..
زمجر. توعد. أزبد وأرغى.
صحنا جميعا:

 جئنا إلى رحلة وليس إلى نِحلة."

يتبين لنا من خلال هذه القصة القصيرة جدا أن هذا النص السردي قريب جدا من النص الشعري النثري ، وذلك بخاصيته الانزياحية التي مست الجانب التركيبي تقديما وتأخيرا (فرحين كنا- هرول نحونا في عباءته يسعى ...)، والغرض من هذا الانزياح هو تحقيق الوظيفة الإيحائية تضمينا ومجازا، وإبراز الوظيفة الشعرية تأليفا وانتقاء.

خاصيــة التكـــرار:

يعتبر التكرار ميسما للتلوين الإيقاعي والموسيقي والنفسي، ويعد كذلك ملمحا أسلوبيا ونحويا ، يساهم في تقوية الجمل عبر التأكيد والتثبيت ، مع تنويع الملفوظات اللغوية سياقا ومقاما، وتبئيرها دلاليا وحجاجيا وتداوليا، كما يظهر ذلك جليا في قصة:"عاشق الزحام": " يعشق الزحام. يلتصق في الطوابير. يندفع ويتدحرج في الحافلات. يندس في جلبابه صيف شتاء. يداه معتقلتان في جيبه أو بين فخذيه. كلما كثر العفس والعسف، الرهز والنهز، تتلوى أعطافه كشجرة لبلاب. يتمطى... يتخطى... يتلاطم على جبينه البصاق في جنون. تنهض على وجهه كدمات.

مذ عرفته يعشق الزحام، يذرع الزحام، يتنفس الزحام، لا يعرف الانكفاء ولا الاكتفاء".
نلاحظ في هذه القصة القصيرة جدا كلمة:" الزحام" التي يكررها الكاتب مرات عدة كأنها لازمة شعرية.

المستــــوى الســــــردي:

يتضمن المستوى السردي كل العناصر التي تتميز بها الخطابات الحكائية قصة وشكلا أو متنا وخطابا. ومن هنا، يتضمن هذا المستوى إما ثنائية التخطيب والتحبيك وإما ثنائية المضمون (المتن الحكائي) والشكل ( القول الحكائي).

الخاصيــة القصصيـــة:

تشتمل القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخصيري على مقومات الحكي القصصي ، من حبكة (الاستهلال، والعقدة، والنهاية)، وشخصيات، وفضاء زمكاني، ومنظور سردي، وتلوين لغوي وأسلوبي، وتأرجح بين الوصف والسرد كما في قصة: " الكرة الملعونة":" رمى بكرته بعيدا. ارتطمت بزجاج نافذة الجيران. تهشم الزجاج.هرب الكل. بقي وحده محدقا في النافذة. أطلت المرأة برأسها تسبقها عاصفة من الشتائم. التقطت الكرة وقطعتها نصفين. انشطر قلبه نصفين. خرجت البنت واحتفظت بنصف ما قطعته أمها، وناولت النصف الباقي له منذ ذلك الحين وهو يحاول أن يرتق النصفين، فكان يلوح له السكين متدليا من النافذة نفسها التي مايزال زجاجها مهشما."

وهكذا، تتوفر هذه القصة القصيرة جدا على كل المقومات التي يستند إليها فن القصة القصيرة جدا. ومن ثم، تبتعد هذه القصة بشكل من الأشكال عن كل مقومات أدب الخاطرة أو أدب النادرة أو أدب اللغز.

خاصيـــة التحبيـــك:

تخضع قصص جمال الدين الخضيري لخاصية التحبيك السردي القائم على رسم خطاطة سردية متعاقبة ( الوضعية الافتتاحية- وضعية الاضطراب والتأزم- وضعية الانفراج)، كما تستند قصصه إلى برامج سردية وعوامل سيميائية وأفضية وتخطيب وأسلبة سردية كما في قصة:"النزوح الأكبر": " انحسر البحر فجأة وامتدت اليابسة بين بلدين كان يربطهما من قبل بحر ملغوم. لم يشرق الصبح من غد حتى نزح قوم بكامله إلى ما بعد اليابسة.

لم يبق في بلدتي إلا شيح، وريح، وروث حمير، وحاكمها الأبدي. بحث عن نسوانه، وعن المهرج، وعن السيّاف، وعن هامات كانت لا تكف عن الانحناء، وعن أصوات تلهج بالدعاء. لم يجد شيئا إلا الخواء وصرير أبواب تريد أن تنفك من عقالها علها تقتفي أثار أصحابها. امتطى صومعة ونادى فيما تبقى من شجر وحجر:

 بمناسبة النزوح الأكبر، أعلن حظر اهتزاز الجذوع، ونمو الزروع، وتدحرج الأحجار في كل الربوع. وهل آفتنا إلاّ هذا التدحرج المروّع؟!"

ومن هنا، تتوفر هذه القصة القصيرة جدا على حبكة سردية، وإطار فضائي ، وصيغة خطابية مبنية على الوصف ، والمنظور السردي، والتلوين الأسلوبي واللغوي، والتعاقب الزمني.

خاصية التنكيــــــر:

تتميز الشخصيات في القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخصيري بخاصية التنكير. ويعني هذا أنها غير مسماة وغير معرفة صرفيا ولا نحويا ولا شخوصيا، بل تتحول إلى عوامل مجهولة وشخصيات مطلقة ومجردة أو كائنات رمزية وكنائية كما في قصة:" البرتقالة القاتلة":" عم القحط وسادت المجاعة في البلاد. استشرى الجراد وتنافس مع بني البشر في افتراس النبات ولحاء الشجر. ظهر رجل في الزقاق أنهكه الهزال يتمسح بأعتاب برتقالة، ثم سرعان ما دسها في عبه بحركة برقية. تبعه هيكل عظمي على مشارف الموت يجر خطاه بثقل كأنه ينتزعها من صمغ لصيق. يود لو يظفر ببعض القشور أولا وأتبعها بلبها. سقط الرجل الهيكل ريشة هامدة من هول المشهد واستفحال الطوى، وتساقط الرجل الآخر من فرط التخمة."

يلاحظ في هذه القصة القصيرة جدا وجود شخصيات مجهولة نكرة مثل: الرجل الهيكل، ورجل...، ويعني هذا مدى انبطاح الإنسان وجوديا وكينونيا، وضآلة مكانته الاجتماعية ، وانسحاقه أمام متاريس الواقع المتردي والمنحط قيميا وأخلاقيا.

خاصيـــة الاقتضــاب في الوصف:

يتسم الوصف في قصص جمال الدين الخضيري بالاختصار والتركيز والإيجاز والاقتضاب، بعيدا عن كل توسيع وتفصيل وإسهاب وإطناب، حيث يتكئ هذا الوصف على تشغيل الصفات والنعوت، والأحوال، وصيغ المبالغة، و الصور البلاغية، كما هو الحال في قصة" الغانية والملتحي":" قالت وهي تضج بالمساحيق:

 عِظْني يا شيخ

ظل محدقا فيها مأسورا بجمالها الوحشي الصاعق، حتى اعتقدت أنه تاهت منه لفظة البدء. فقال:

 تساوينا في هذا، أحتاج اللحظة إلى من يعُضّني، عفوا، إلى من يَعِظُني مثلك.

عَضّت شفتيها، وانصرفت متمايلة، ثانية أعطافها."

وهناك قصص وصفية أخرى يمتاز فيها الوصف بالاقتضاب والتكثيف والتركيز، حتى الوصف الخارجي الشخوصي يحضر في هذه القصص القصيرة جدا إيحاء وإيجازا كما في قصة":" الحاصد":" طويل القامة. بارز العروق. منحن على منجله طول يومه. خلّف وراءه أكواما من الحصاد. تراءت له أفعى رقطاء تتجه نحوه. استمر في انحنائه ولم يبال بها قط. وما أن غرست أنيابها في ساقه نافثة سمها حتى سقطت ميتة. أخذها وربط بها قبضة من السنابل."
ويعني هذا أن الوصف في قصص جمال الدين الخضيري ليس وصفا موسعا قائما على التفصيل والاستقصاء والإسهاب كما هو الشأن في روايات الواقعيين، بل هو وصف مقتضب وموجز يتسم بالتكثيف والتدقيق والتركيز والاقتصاد.

تنويـــع المنظــور السردي:

ينتقل السارد في قصص جمال الدين الخضيري من الرؤية الداخلية أو الرؤية " مع" إلى الرؤية من الخلف أو ما يسمى كذلك بالمنظور السردي الصفري. وبتعبير آخر، ينتقل السارد من ضمير المتكلم (ضمير الحضور والاندماج) إلى ضمير الغياب(ضمير اللااندماج) كما في قصة "الصحيفة" التي يشغل فيها الكاتب الرؤية من الخلف": "وقف أمام الكشك، وبدأ يتصفح الجرائد المبثوثة أمامه واحدة تلو أخرى بعناية.

طال تصفحه وفارت أعصاب صاحب الكشك. خرج ناهرا إياه:

 ألم تر أن اللافتة مكتوب فيها " يمنع تصفح الجرائد"؟

 لا تؤاخذني سيدي، فأنا لا أعرف الكتابة ولا القراءة.

 غريب.. وما جدوى تصفحك إذن!!

 لكل صحيفته، وأنا أريد أن أرى أعمالي في الصحيفة."

وقد يلتجئ الكاتب إلى استعمال المنظور الداخلي كما في قصة" الرؤوس المضمدة": " دخلت القرية. بدا لي أناسها كلهم برؤوس مضمدة. وددت أن أسألهم هل اقتتلوا فيما بينهم. أرجأت السؤال إلى حين. طال مكوثي في القرية وظلت الضمادات لصيقة بالرؤوس مطوقة لها بشكل حلزوني. كانوا كلما اجتمعوا لاحتساء الشاي يربطون بين الضمادات التي تمتد حولهم كالمشنقة وبين زبد الشاي المنعنع. لكن السؤال الذي يحيرني والذي لم استطع له جوابا هو:
هل يمكن أن يختصر العقل في قعر قدح؟"

ويعني هذا أن الكاتب يتأرجح بين الرؤية المطلقة ذات الراوي المطلق العارف بكل شيء، والرؤية النسبية الداخلية ذات الراوي الداخلي المشارك.

خاصيـــة التعاقـــب الســردي:

تهيمن في القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري خاصية التعاقب السردي تحبيكا وتسريدا، كما يحضر تسلسل الأحداث في قصصه من خلال الانتقال من الحاضر نحو المستقبل كما في قصة:" البرتقالة القاتلة":" عم القحط وسادت المجاعة في البلاد. استشرى الجراد وتنافس مع بني البشر في افتراس النبات ولحاء الشجر. ظهر رجل في الزقاق أنهكه الهزال يتمسح بأعتاب برتقالة، ثم سرعان ما دسها في عبه بحركة برقية. تبعه هيكل عظمي على مشارف الموت يجر خطاه بثقل كأنه ينتزعها من صمغ لصيق. يود لو يظفر ببعض القشور أو بعض الفتات. طفق صاحب البرتقالة في تقشيرها. ازدرد القشور أولا وأتبعها بلبها. سقط الرجل الهيكل ريشة هامدة من هول المشهد واستفحال الطوى، وتساقط الرجل الآخر من فرط التخمة."

ويعني هذا أن هذه القصة تنطلق سرديا بشكل متصاعد من الحاضر نحو المستقبل، ويلاحظ أن الأحداث تتسلسل في هذه القصة القصيرة جدا تعاقبا وسببية وتزمينا.

خاصيــة المحكي الشاعري:

تحضر هذه الخاصية في بعض قصص جمال الدين الخضيري عبر تقاطع صورة المشابهة (التشبيه والاستعارة) مع صورة المجاورة (الكناية والمجاز المرسل) كما في قصة " نكاية بحكاية ما":

" مغرمٌ بحكاية "دارة جلجل".
مغرمٌ بالجارة بلبل.
تفنّنَ في حيّاكة الحكاية لها.
تواعدا على اللقاء عند شطّ حارة الفلفل.
هناك ألفى البلابل بعدد النمل والرمل.
طوّقنه، جرّدنه...، قبع وتقوقع متدثرا باليم.
لا نأمة في البحر، لا ناقة للنحر.

بكى... نكى بالحكاية التي كانت ذات قروح وجروح."

يبدو لنا بأن هذه القصة القصيرة جدا عبارة عن قصيدة شعرية نثرية يتداخل فيها المحكي السردي مع المحكي الشاعري تفضية وكتابة وتصويرا ومجازا.

الخاصيــــة الميكروسردية:

تستند قصص جمال الدين الخضيري إلى فضح الكتابة السردية المتعلقة بالقصة القصيرة جدا. ويعني هذا أن الكاتب ينقر على الميتاسردي، ويبرز مشاكل القصة القصيرة جدا، ويبين مميزاتها الدلالية وقضاياها الفنية والجمالية، ويحدد مقاصدها القريبة والبعيدة كما في قصة:"فقاقيع":"كتبتُ قصة قصيرة جدا. استحضرت فيها أحداثا جساما وأزمنة متداخلة في شكل شذرات وومضات. فما كان من بطلها إلا أن انسل هاربا. وقال إن مكانه في الملاحم وليس في أقصوصة تتبخر أحداثها كالفقاقيع موزونة بأشبار كاتب مخبول. فعقدت العزم ألا أثق أبدا في بطل من صنع يدي، ولن ألبسه- ما أسعفني القلم- جبتي الورقية، ولن أسبغ عليه أي نعمة مدادية."

ويعني هذا أن الخاصية الميكروسردية ترتبط بشكل من الأشكال بالخاصية الميتاسردية. بمعنى أن القصة القصيرة جدا تفكر في مشاكلها وهمومها ووظائفها وخصائصها الفنية والجمالية.

 المستـــوى البلاغـــــي:

يحوي المستوى البلاغي الصور البيانية والفنية والبلاغية كصورة المشابهة (التشبيه والاستعارة)، وصورة المجاورة (المجاز المرسل والكناية)، وصورة الرؤيا (الرمز والأسطورة). ومن ثم، فالقصة القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري تمتاز بعدة خاصيات على النحو التالي:

الصـــورة الومضـــــــة:

تستند الصورة الومضة إلى التلميح والتعريض والتلويح والإشارة والتكثيف، واستخدام الاستعارة والمجاز والتضمين كما في قصة:"لوحة":" زرت معرضا للفن التشكيلي، فجذبتني لوحة تتشابك فيها الخطوط والألوان، ويتخاصم على أديمها الغموض والفصاحة. قرأت فيها كل شيء ولم أستوعب أي شيء. ثم ما برحت أن اكتشفت فيها الشيطان مختبئا، مع كل تحديق فيها يريك وجها من وجوهه المتناسلة."

وتتجلى الصورة الومضة أيضا في قصة :" كلمات"، حيث تتحول الملفوظات السردية والقصصية إلى صور ومضية سريعة تشع بالتلميح والسخرية والتهكم:" اعتاد أن يقول لها كلمات يكاد يقفز لها قلبها من نياطه وتحملها إلى الثريا من قبيل: " أرى البحر يطل من عينيك" و " شعرك جواد جامح". وعندما صمّمت أن تقول له:

 دعني أراك أنت هذه المرة.

توارى في الزحام ممتطيا الجواد الجامح عابرا البحر الذي شغف به في اتجاه الضفة الأخرى. وتطاير القلب وتطايرت نياطه."

ويعني هذا أن القصة القصيرة جدا هي بمثابة صورة وامضة تشع بالمجاز والرمز، وتنتقل من التعيين إلى التضمين إيحاء ورؤيا.

الصـــورة التضـــــــاد:

تقوم صورة التضاد على التقابل بين العناصر الموصوفة داخل القصة القصيرة جدا. ومن ثم، فعبر طريق التضاد والاختلاف والتقابل تتضح الأشياء، ويتبين المعنى كما في قصة:"البرتقالة القاتلة":" عم القحط وسادت المجاعة في البلاد. استشرى الجراد وتنافس مع بني البشر في افتراس النبات ولحاء الشجر. ظهر رجل في الزقاق أنهكه الهزال يتمسح بأعتاب برتقالة، ثم سرعان ما دسها في عبه بحركة برقية. تبعه هيكل عظمي على مشارف الموت يجر خطاه بثقل كأنه ينتزعها من صمغ لصيق. يود لو يظفر ببعض القشور أو بعض الفتات. طفق صاحب البرتقالة في تقشيرها. ازدرد القشور أولا وأتبعها بلبها. سقط الرجل الهيكل ريشة هامدة من هول المشهد واستفحال الطوى، وتساقط الرجل الآخر من فرط التخمة."

تتقابل في هذه القصة القصيرة جدا صورة الرجل الجائع مع صورة الرجل المتخم. وتجسد هذه القصة الكروتيسك التشكيلي والدرامي القائم على البشاعة والقبح والمأساة.

صــــورة الإيحــــاء:}

تتحول قصص جمال الدين الخصيري إلى إيحاءات وتضمينات تتجاوز التعيين والتقرير. ويعني هذا أن قصصه القصيرة جدا تنتقل من الدلالات الحرفية المباشرة إلى دلالات مجازية غير مباشرة، يمكن استخلاصها بواسطة عملية التأويل والاستنتاج والاستكشاف القرائي كما في قصة:"صراخ مركب":" تصاعدت الحناجر هادرة تلعلع في المكان. نظر إليها وهي مازالت ترفع عقيرتها بالشعارات الرنانة الطنانة وسط زغاريد زميلاتها.

قال لها:

- ما رأيك لو ننقل المظاهرة خارج هذه الأسوار؟

دون أن ينتظر ردها جرها من يدها. غير بعيد عن الأسوار، وهما يفترشان العشب تناوبا عن الصراخ واللهاث ورفع الشعارات. فرغم أنها بدت متحشرجة مختلفة، إلا أنها كانت في نفس حدة وقوة الأصوات التي تصلهما من هناك. وفي حمأة احتجاجاتهما الهذيانية سألته:
 ما الفرق بين الصراخ هنا في الداخل والصراخ هناك في الخارج؟

أجابها بصوت أبح:

الإنسان سيد ما هو خارجه وعبد لما هو داخله."

يقابل الكاتب في هذه القصة القصيرة جدا بين الصراخ السياسي الواقعي والصراخ الرومانسي. وبالتالي، تتضمن هذه القصة دلالات إيحائية ورمزية.

صــــورة الترميــــــز:

تتحول مجموعة من قصص جمال الدين الخضيري إلى رموز وعلامات ودوال كما في قصصه التي تندرج ضمن أدب الحيوان، فهي قصص رمزية تذكرنا بكتابات ابن المقفع، وإيسوب، ولافونتين، وأحمد شوقي، كما يتجلى ذلك واضحا في قصة:"سباق تسلح": لجأ القط إلى كوخ العم "توم". استعار منه وسائل حربية تعينه على الإغارة والمطاردة.

اضطر الفأر بدوه أن يجاريه ويستعين بالحليف "جيري" وتجريب أشكال غير مسبوقة من التخفي والهروب."

وقد تتحول بعض الأيقونات السيميائية إلى رموز دالة كأيقونة القناع الذي يتحول إلى رمز للزيف والنفاق والخداع والمكر كما في قصة" قناع":

هو: أودّ أن أشتري قناعا يا حبيبتي
هي: لِمَ، أتنوي أن تمثل في مسرح؟
هو: لا، لكن حتى يبدو وجهي محايدا وأنا أغازلكِ، و...
هي: أتضع قناعا على قناع؟!

صفقت في وجهه الباب وهي تقول:

 في الوقت الذي كنت أنتظر أن تتجرد من أصباغك، تتمترس في قلاعك".
تحمل هذه القصة – إذاً- في طياتها أبعادا رمزية موحية، بمعنى أن هذه الحيوانات رموز لكائنات بشرية ذات مواقف معينة.

صورة المفـــــارقــــة:

تتضمن بعض قصص جمال الدين الخصيري صورة المفارقة التي تتم عن طريق التناقض والتقابل بين القول والفعل؛ مما يسبب ذلك في خلق مسافة جمالية تربك المتلقي، وتخيب أفق انتظاره كما في قصة:" الغانية والملتحي": " قالت وهي تضج بالمساحيق:

 عِظْني يا شيخ

ظل محدقا فيها مأسورا بجمالها الوحشي الصاعق، حتى اعتقدت أنه تاهت منه لفظة البدء. فقال:

 تساوينا في هذا، أحتاج اللحظة إلى من يعُضّني، عفوا، إلى من يَعِظُني مثلك.
عَضّت شفتيها، وانصرفت متمايلة، ثانية أعطافها."

هذا، وتتجلى المفارقة واضحة في العناوين الصادمة للمتلقي ، حيث تخيب أفق انتظاره، وتصدمه ذهنيا وقرائيا بدلالاتها الرمزية ومقاصدها الإيحائية القريبة والبعيدة، كما يظهر ذلك جليا في العناوين التالية:"حب على شاكلة البعير"، و" صراخ مركب"، و" الرجل المنجل"، و" حالة طوارئ"،و"طريق الخلاص" إلى آخر ذلك من العناوين المربكة والمحيرة...

صــــورة الأسطــــرة:

تحضر في قصص جمال الدين الخضيري مجموعة من الإحالات التناصية التي تحمل في طياتها صورة الأسطرة القائمة على التخريف والأسطورة كما في قصة:"انبعاث وحش":"ذكر لي ثقة صدق من إخواننا، أنه في بلاد قريبة من "طيبة"، والتي تحمل اسم "طربيسة"، ظهر من جديد الوحش الذي قتله من قبْلُ "أوديب"، معترضا المارة، نافشا بإزاره، وفاتكا بكل من لا يجيب على لغز محير هو:

ما هو الحيوان الذي ضاقت عليه دائرة سقوفه، فأُجبِر على التنقل من سقف خيمةٍ إلى سقف مظلةٍ، ثم إلى سقف عمامةٍ انطبقتْ عليه مشنقةً؟."

فهذه القصة عبارة عن أسطورة ملغزة تحمل في طياتها دلالات رمزية سياسية ، وتتناص على مستوى المعرفة الخلفية مع أسطورة أوديب قاتل الوحش .

 مستـــوى التقبـــل والتلقـــي:

حينما نريد رصد مستوى التقبل في مجال القصة القصيرة جدا، فإننا ننتقل آليا من لحظة المبدع إلى لحظة المتلقي. وما يهمنا في هذا المستوى الذهني مجمل العلاقات التي تربط القارئ بالنص القصصي القصير جدا لدى جمال الدين الخضيري.

خاصيــــة التشويـــق:

يعمد الكاتب في قصصه القصيرة جدا إلى إرباك المتلقي، وتخييب أفق انتظاره، حيث يقدم له قصة كنائية ملغزة لا يتم حلها إلا في آخر القصة، حيث تصبح هذه القصة القصيرة جدا لغزا محيرا يراد به التشويق الفني والجمالي، ودفع القارئ إلى استخدام عقله وذكائه لاستخلاص المعنى المقصود، وتشغيل كل إمكانياته التأويلية لفهم النص المعطى تفسيرا واستكشافا، كما يتضح ذلك جليا في قصة" الفراق" التي تعامل فيها الكاتب مع سيجارته تعامل الأنثى الغاوية ، حيث قرر تطليقها بعد أن سئم منها كثيرا:" أخيرا قررت أن أتخلى عنها ولا أولي وجهي شطر مضانها. يكفي ما مضى . صراحة كنت مغفلا، واستطاعت أن تكبلني بغواياتها أكثر من اللازم. اقتحمت عالمي، ولم تفارقني أبدا وأنا لم أزل بعد طالبا مغلوبا على أمري، لاأملك إلا ما أسد به رمقي. مع ذلك، كانت تتقاسم معي ميزانيتي الضئيلة، وتنتقل معي في حلي وترحالي. وكانت لا ترفض أن نتناوب عليها أنا وصديق لي. تصوروا...يالخستي مع ذلك بقيت لصيقا بها.آه... كم كان يحلو لها أن ترمي بثقلها على صدري أو على صدورنا وتغرقنا بأريجها المميز. كلما داعبتها بأصابعي وأطبقت عليها بشفاهي تزداد حرائقها وتتقلص بين يدي. وبمجرد أن أنتهي منها أطوح بها بعيدا وأنا نادم على ماقمت به فلا تأبه لذلك. أحينا كنت أطرحها أرضا بقوة وأدعصها برجلين لكنها تأبى إلا أن تلتصق بي، وأعود إليها وأنا صاغر مشدود إلى سحرها الذي لا استطيع عنه فكاكا. وتتشبث بي تشبث الصغير بيد أمه، وتنتحر بين ثنايا أناملي من جديد.أما هذه المرة فلا، فإن إرادتي من حديد، فها أنا ذا أرميها إلى الأبد غير آسف. ولن أندم إذا قلت:

 " إلى الجحيم سيجارتي..""

يفاجئنا الكاتب في اللحظة الأخيرة بأن المطلقة لم تكن سوى سيجارة ملعونة أثرت سلبا على السارد، فجعلته لا يستطيع الفكاك منها، وذلك بسبب الغواية وسحرها الأخاذ.

خاصيــــة الإدهــــاش:

تعتمد قصص جمال الدين الخضيري على عنصر الإدهاش، حيث يربك المتلقي منذ البداية، فيشد من أزره ليخيب أفق انتظاره، وذلك حينما يفاجئه بخاتمة غريبة مقلقة، لم يكن القارئ يتوقعها إطلاقا كما هو الشأن في قصة" المذيعة":" وأخيرا اشترى التلفاز ذا الشاشة المسطحة الرقيقة. علقه على أحد جدران الصالون. أشعله ونادى زوجته كي تشاهد معه نشرة الأخبار المسائية. قال لها وهو يومئ إلى التلفاز الذي ملأ إطاره وجه المذيعة الحسناء:

إنها رائعة حقا
لا أعتقد ذلك.
أنظري كم هو جذاب شكلها
عادي جدا
صوتها يصدح واضحا، أليس كذلك؟
صوت كبقية الأصوات لا تميز فيه.
لكنها الوحيدة التي راقتني..

قامت ثائرة يتطاير الحنق من عينيها وصعقت في وجهه:

أتقولها بكل صفاقة، أناديتني لتغيضني بهذه المذيعة الخرقاء.

لكنني يا عزيزتي كنت طول الوقت أتحدث عن الشاشة وليس عن المذيعة.."

ويتجلى هذا الإدهاش أيضا عند السارد والشخصية والمتلقي على حد سواء كما في قصة"خشب": " قال وهو يرى حرائق تلتهم الجبال والرجال:

 كيف تأتّى لخُشيْبة ثقاب أن تزدرد قارة من الأخشاب؟"

يلاحظ أن السارد والشخصية، وكذلك المتلقي، في حيرة تامة أمام هذا الموقف الغريب، فكيف يستطيع عود ثقاب بسيط أن يحرق مساحات شاسعة من الغابات؟! فهذه مفارقة فنية وجمالية يراد بها إرباك المتلقي العادي، واستفزازه ذهنيا ووجدانيا وحركيا.

خاصيــــة التلغيـــــز:

تتحول بعض القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري إلى ألغاز غامضة تستلزم من القارئ امتلاك ذكاء حاد، والتوفر على فطنة متوقدة، بغية تفكيكها وتركيبها كما في قصة: "بغية مطمورة":" بعدما أضناني البحث عنها قصدت الدرويش لعله ينير لي ما تعتم من سراديبي. وجدته في ركنه المعهود مكدودا يحمل عجزه البادي. دون أن ينتظر مني السؤال، ودون أن يتفحص محياي، بادرني:

 إخالك تبحث عنها.

 أجل.

 صفها لي

قلت بابتهال:

-أناديها وأعاديها، إذا تكسرتْ تيسرتْ، وإذا التوتْ استوتْ، وكلما سردتْ سدرتْ، ومتى ما صاغت غاصت، فلا لهوتُ بجلدها ولا نجوتُ بجلدي.

قال رافعا عينيه نحوي في ذهول:

 ويحك، لن تتبدى لك، بغيتك مطمورة في كتاب."

تتحول هذه القصة القصيرة جدا إلى قصة ملغزة تستلزم من المتلقي تشغيل العقل والذهن والذكاء والفطنة، وذلك من أجل إيجاد جواب حاسم على هذه القصة اللغز.

خاصيـــة الحــذف والإضمـــار:

يلتجئ الكاتب إلى خاصية الإضمار عن طريق استعمال نقط الحذف، وترك الفراغ والبياض، لكي يملأه المتلقي بتأويلاته الممكنة والمحتملة كما في قصة:" حكاية الطابور": " طابور طويل، طويل...

فيه من يفتل شواربه، من يتحسس جواربه، من يرقب عقاربه،...

ترنيمة طقطقة أحذية تسبقها العطور تتمادى في المرور.

تستقر أمام الشباك، تحسر عن نواصي كل ما هو فتاك.

تتمطى الأعناق كخيط دخان نحو الجابي المتناثر بين أشداق الشباك.
صاح أولهم:

 الشباك ما قرعته غير الضاربة برجليها، الناقرة كالناقور، والخارقة الحارقة للطابور.
قالت مزدلفة دافعة بكل نفج فيها:

 أنا أنثى، أنثى أنا...

لعلع آخرهم:

 كل واحد منا في هذا الطابور ينوب عن أنثى ما، حتى لا تتوسل أو تتسول بتفردها وتجردها.."

ويتجلى هذا الحذف والإضمار واضحا في قصة:"تلفاز":" يشغّل جهاز التلفاز. يستغل الوصلات الإشهارية. يتسلل من زجاج البلازما. يباغت معدي البرامج والمذيعين. يختبئ في الكواليس الخاصة بالببغاوات. يتابع دروسا في الإلقاء والمحادثة.. تستهويه الكراكيز المعلقة إلى خيوطها. عندما ينتهي البث، يتم البث في... ويتم البحث في... يضحك من الأعماق. فمنذ أكثر من ثلاثين دورة أرضية نفس الوجوه تعتلي الإطار وتعتلي وتعتلي..."

يسكت الكاتب في هذه القصة القصيرة جدا عن المفهوم والممنوع، ويترك المتلقي حائرا أمام المسكوت ليستكمل المنطوق عبر ملء فراغات البياض.

 المستــــوى الدلالـــــــي:

ينبني المستوى الدلالي على استخلاص الموضوعات الدلالية التي تشتمل عليها القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري.

التنـــوع الموضوعاتي:

يتناول الكاتب في قصصه القصيرة جدا مجموعة من الموضوعات والقضايا الدلالية المتنوعة التي تؤرق الإنسان بشكل من الأشكال. وكان الكاتب ينتقل في ذلك من الذاتي إلى الموضوعي . ومن بين هذه التيمات أو الموضوعات التي اشتغل عليها جمال الدين الخضيري نذكر: تيمة الحب في قصة" الكرة الملعونة"، وتيمة الجوع والتخمة كما في قصة:"البرتقالة القاتلة"، وتيمة الجنون في قصة:" فليعش المجنون"، وتيمة التلوث في قصة:"الهدير"، وتيمة الفن الزائف في قصة:"لوحة"، وتيمة الزيف بشتى أنواعه في قصة:" صراخ مركب" وقصة:"قناع"، وتيمة النفاق في قصة:" الغانية والملتحي"، وتيمة الارتشاء في قصتي:" بائع متجول" و" شفيرة تفيد المرتشي"، وتيمة الفتنة والغواية في قصة:" الغانية والملتحي"، و تيمة الزواج الزائف في قصة"عودة"، وتيمة التحول في قصة:"مجرد حلم"، وتيمة الخيانة والخداع في قصة:"كلمات"، وتيمة السحر والشعوذة في قصة:"قارئة الفنجان"، وتيمة الوجود والكينونة في قصة:"مسح الطاولة"، وتيمة الميتاسرد في قصة:" حمية"، وتيمة الزهد في قصة:" دنيا"، وتيمة الفتوى المفارقة في قصة:"دبابة"، وتيمة الإعلام في قصة:" السلطة الرابعة"، وتيمة الفرقة والحرب في قصة:" داحس والغبراء"، وتيمة التباهي والغرور في قصة:"الكبش"، وتيمة المغامرة في قصة:" الرجل الطائر"،وتيمة الجهل والأمية في قصة:" الصحيفة"، وتيمة الهجرة في قصة:"الرغيف": دار حول الفرن الطيني المترامي في فناء الدار. فتح فواهته وأخرج الرغيف بصعوبة لفرط حرارته.
لفه في قماش. تأبطه وهام على وجهه في اتجاه لا يعرفه. وما كاد يتجاوز عتبة الدار حتى نادته أمه:

 أعد الرغيف..

 إني مهاجر..

 أعد الرغيف واغرق في أي بحر شئت."

هذا، وقد تناول الكاتب أيضا تيمة انحراف الشباب، وانسياقهم وراء المخدرات، كما يتجلى ذلك واضحا في قصة: " الفراق" وقصة :"الطفل المقامر" :" يحلو له أن يقامر في كل شيء وبكل شيء. جرب أشكالا من اللعب.. استيقظ صباحا وجد أمه قد تركت له شايا في إبريق مناصفة مع أخيه. أطل فيه فوجده لا يكفيهما. تحسس جيبه. جذب أوراق اللعب (الكرطة) وقال لأخيه:
سنقامر.. هذا الشاي لن يكرعه إلا واحد منا، بالكاد سيكفيه."

هذا، ويرصد الكاتب أيضا معاناة المدرس في التكيف مع الفضاءات المقفرة كما في قصة:" اكتشاف": " لا قطوف فيها، ولا نذور.

مستعصية الوطء، موغلة في الأحراش.

عندما هبط فريق العمل فيها من عل.

وبعد المسح من السفح إلى السفح.

توصل الفريق إلى الاكتشاف الآتي:

" المنطقة طاردة، ولا يمكن أن يعيش فيها إلا ذئب ومعلم"

ومن التيمات الأخرى التي كان ينقر عليها الكاتب تحبيكا وتخطيبا نستحضر: تيمة الاستبداد في قصة" انبعاث وحش"، وتيمة الاندحار السياسي في قصة: " نعيق"، وتيمة السخرية في قصة:" الرجل المنجل"، وتيمة العبث والغرابة في قصة" عبث"...

تلكم هي ، إذاً، أهم التيمات والموضوعات التي تناولها جمال الدين الخضيري في مجموعتيه القصصيتين القصيرتين جدا:" فقاقيع" و"وثابة كالبراغيث"، وقد قلنا بأن هذه المواضيع يتقاطع فيها ما هو ذاتي مع ماهو موضوعي، ويتداخل فيها ما هو تراثي مع ماهو آني، كما يتأرجح الكاتب فيها بين ماهو محلي وبين ماهو إنساني.

خاصيــــة التنـــاص:

تزخر قصص جمال الدين الخضيري بالمعرفة الخلفية والإحالات التناصية ، حيث يوردها في سياق فني وجمالي أخاذ مرة بطريقة مباشرة ومرة أخرى بطريقة غير مباشرة، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على سعة ثقافته، واطلاعه الواسع على الموروث العربي والعالمي والأدب الإنساني، كما يتضح ذلك جليا في قصة" الأزهار المندغمة" التي يستدعي فيها الكاتب الشاعر الفرنسي الرمزي شارل بودلير صاحب ديوان" أزهار الشر":" رأيته في الحقل يقطف أزهارا. ينتقي ما يقطفه بعناية. يحصد كل زهرة شاذة، غريبة، غير متناسقة... مشكلا باقة جامحة ومتنافرة لكنها بديعة.

اقتربت منه و أجلت فيه بصري، فإذا هو بودلير يهمهم ويقول بانتشاء:

أجمل الباقات هي التي تندغم فيها هذه الأزهار الشريرة."

ويحضر التناص أيضا في قصة" قرد...قرد"، حيث يحيل الكاتب على داروين الذي قال بأن الإنسان أصله قرد:" في حديقة "داروين" القائمة في ضواحي المدينة، سرعان ما وقف الطفل عند أحد الأقفاص وقال صائحا:

 أهذا هو القرد يا جدي؟

قال الجد:

 نعم يا حفيدي..

وقال القرد:

 نعم يا حفيدي.."

ويعني هذا أن قصص جمال الدين الخضيري حبلى بالعلامات التناصية وملامح الذاكرة وترسبات المعرفة الخلفية.

خاصيــــة الفانطاستيك:

تتسم كثير من قصص جمال الدين الخضيري بخاصية الفانطاستيك القائمة على التحول والامتساخ والانتقال من عالم الألفة إلى عالم الغرابة كما في قصة:" الشاشة السرمدية":" منذ سنين الفتنة الكبرى، يحدّقون بعيون حجرية في الشاشة. يهتزون مع البطل الذي يطير من الأرض نحو العمارة الشاهقة. يقهقهون، يتعجبون كيف يحول اتجاه الرصاصة بيده، ويوقف زحف جيش عتي. تتساقط أوراق الخريف عند أقدامهم. يلفظ البحر بواخر العائدين ويحملهم من جديد. تروح الطير وتغدو أسرابا أسرابا. تطوقهم غابات إسمنتية. يهرمون، يدفن بعضهم بعضا. تظل الشاشة مركونة في مكانها. والبطل تمتد خوارقه كحبل غسيل. ويزداد التحديق تحديقا وتدقيقا."

ونجد هذه الخاصية أيضا في قصة" المرأة المعلمة": " تمد المرأة رجليها. تحتل الساحة العمومية. تبسط قماشا شاحبا. تعرض بضاعتها.

تبيع ما لا يباع؛ سواكا يابسا، ومشطا متآكلا، وقطعة ثوب لا زمان ولا لون لها.
تضحك مبرزة أسنانها العوجاء المثرمة. يعفّرها دخان الحافلات. تتمعن الراجلين، وتقيس الزمن بخفقان خطواتهم. وعندما يعج المكان بتأفف الناس من هذا العالم وغلاء المعيشة تضحك من جديد، وتصب كأس شاي من إبريق عتيق. لا بيع ولا شراء منذ عهد عهيد، غير أنها ظلت وفية لجميع الفصول والأجواء حتى أضحت معْلمة من معالم الساحة".

وتبرز هذه الخاصية كذلك في قصة عباس بن الفرناس الذي تحول إلى طائر بجناحين تهكما وسخرية كما في قصة" الرجل الطائر":" كنت في قرطبة. بدا لي حشد من الناس تشرئب أعناقهم نحو الأعلى. خرقت فلولهم وتقدمتهم، وإذا بي أرى رجلا على شاكلة طير ملتحفا بالريش، بادية عليه نزوة الطيش، نبتت على جنبيه أجنحة من الخيش، واقفا على شفا جرف. هالني ما رأيت. دنوت أكثر، فإذا بي استكنه ملامحه. فوجدته صديقي عباس بن فرناس. تيقنت أنه ماض فيما هو عاقد العزم عليه. فقلت على سبيل إثارته:

 يا عباس، ألا تعلم أن الله إذا أراد هلاك نملة أنبتَ لها جناحين.

قال ساخرا:

 يا عرة الأقوام، لن تستطيعوا أن تجنحوا بغير جناح. هكذا، هكذا..
تراجع بعض الخطوات إلى الوراء. هز كتفيه بقوة. سرعان ما طار. اخترق الجو. سما في الأفق حتى ذاب فيه متباعدا. فإلى يومنا هذا كلما سمعت أزيزا في السماء إلا ورأيته هناك محلقا، بجناحيه مصفقا."

ويعني هذا أن قصص جمال الدين الخضيري زاخرة بالإشارات الفانطاستيكية القائمة على التغريب والتعجيب وتحولات الخارق والامتساخ.

خاصيـــة السخريـــة:

تتسم قصص جمال الدين الخصيري بميسم الفكاهة والسخرية، والتهكم من الذات والواقع بشكل بارودي، كما يتجلى ذلك واضحا في قصة:"الصحيفة": "وقف أمام الكشك، وبدأ يتصفح الجرائد المبثوثة أمامه واحدة تلو أخرى بعناية.

طال تصفحه وفارت أعصاب صاحب الكشك. خرج ناهرا إياه:

 ألم تر أن اللافتة مكتوب فيها " يمنع تصفح الجرائد"؟

 لا تؤاخذني سيدي، فأنا لا أعرف الكتابة ولا القراءة.

 غريب.. وما جدوى تصفحك إذن!!

 لكل صحيفته، وأنا أريد أن أرى أعمالي في الصحيفة."

هذا، ويسخر الكاتب من الفنان التشكيلي المعاصر الذي يخربش لوحاته بأشكال غريبة، فيطمسها بألوان متنافرة، ثم يعجنها بصباغات شاذة، ثم يتيه في مذاهب الحداثة والتجديد والتجريد والتجريب كرائد من رواد المذاهب التشكيلية والمدارس الفنية، كما يظهر ذلك جليا في قصة:"مذهب": " فراشة، فراشتان، زقزقات عصافير.

زحف الربيع وامتدت اللوحات الطبيعية.

جاء كائن يدب على اثنين.

أخذ فرشاة. طمس وكنس معالم اللوحات.

أصبح رائدا لمذهب فني جديد يحتذى في أنحاء عديدة من المعمورة."

وهذا ما نراه كذلك في قصة "جباص"التي تنتقد عوالم الفن، وهذه القصة القصيرة جدا هي في الحقيقة في قمة التهكم والسخرية من الفن العابث:" لا يبرح ذلك المكان. يجلس بعباءته التي تبرز بطنه الممتد. يداعب لحيته الكثة بين الفينة والأخرى. وقف عنده جباص. بلل حفنة من جبص وبدأ يمسد اللحية. ابتعد عنه قليلا. راق له فنه وفتح محلا لتجبيص اللحى."

وتبلغ السخرية مداها في قصة" الكائن المسماري"، حيث يسخر الكاتب من عقلية الإنسان المتخلف، فينتقدها انتقادا بشعا بريشته الساخرة اللاذعة:" تكأكأتْ حوله في ممر المطار المفضي إلى الطائرة عناصر شتى من الشرطة. كلما مر من حاجز ما إلا ودوت صفارات إنذار. جربوا أجهزة عدة كانت ترد دائما بالصراخ. عزلوه جانبا. جردوه من أوراق التوت. كشفوا عما في بطنه من قوت. دققوا التفتيش. اكتشفوا أن أحذيته مرتقة بمسامير. هبوا نحو خيمة الإسكافي المشرعة في الخلاء. صفدوه، واختفى للأبد."

وتتجلى السخرية المثيرة للضحك في قصته:"الكبش": اشترى كبشا أقرن أملح. مر بأكواخ الصفيح. تريث برهة. أخرج الكبش من صندوق سيارته. نظر فيه بزهو.. التفّ حوله رهط من الناس ارتسمت في عيونهم استجداءات الشحاذين. تمعنهم مليا وقال:

هلاّّ أخرجتم خرفانكم حتى يقدموا البيعة لكبشي؟"

ومن هنا، يتضح لنا بأن جمال الدين الخضيري كاتب ساخر ينتقد الواقع بكل تناقضاته الجدلية انتقادا إيحائيا ورمزيا ، وذلك بطريقة كوميدية ساخرة تنم عن الروح المرحة الموجودة لدى الكاتب نفسه.

الخاصيــة التراثيــة:

تتسم كثير من القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري بالخاصية التراثية، حيث تتميز كتاباته بالأسلبة التراثية تناصا وتهجينا ومحاكاة وحوارا كما في قصة:" منفاخ العلوم": لما كنتُ قليل الاستطراد والاسترسال عاجزا عن ملء كل الثقوب وسلك مختلف الدروب وتسويد البياض، خمّنتُ أن العلة كامنة في عدم توفري على مفتاح العلوم. فقصدت أحد المتمرسين في ملء هذه الثقوب والجيوب كي يعيرني مفتاحه. وما عرضتُ عليه حاجتي حتى استلقى على قفاه من شدة الضحك وقال:
شاخ المفتاح شاخ، أعز ما يُطلب في وقتنا وأكثر ما يُكتب مستقى من منفاخ العلوم."
وتتضح النزعة التراثية جلية في توظيف أخبار الحمقى والمجانين كما فعل الجاحظ، دون أن ننسى استخدامه للغة تراثية رصينة وجزلة ومتينة فحولة وغرابة وقوة؛ مما يجعل من قصص جمال الدين الخضيري تتجاوز مرحلتي التجنيس والتجريب إلى مرحلة التأصيل كما في قصة:" ماخط الماء":

:1-

أحمق يمْخط الماء

زريّ قميء مأسور بالحكّ والمعْك

ألمحه من شرفتي يمرق كشهاب راجم نحو النافورة الآسن ماؤها.

يطيح وينداح فيها بردا وهجيرا. تساءلتُ:

- أي هوج رياح طوّحت بالمسكين؟!

يصيح غبّ كل غوص فيها بصوت ممطوط:

 وأخيرا وجدتُه.. وجدته

وعندما تشبثتُ بتلابيبه، برجاء استفسره عن فعله هذا، أجاب:

 كلما وجدتُ شخصا يفهمني، لا تسعني نفسي فأقفز في هذه النافورة.

2-

تبعتُه ذات يوم، مددتُ له سيجارة وقلتُ:

 أريد أن أفهمك..

عبّ نفسا عميقا منها فخيّمتْ غيومها على الخليقة كلها، ووضع سبابته على أنفه وقال:
 صه، أنابيب الفهم شآبيب الغم.

3-

خلتُه أخرس من كثرة ما أخاطبه ولا يعيرني سمعا، أتعقبه ويتجاهلني، وفي الزحمة التي تسربلتُ فيها سمعت أنفاسا حرّى تهتفُ في أذني:

 إذا ما سحّ العقل شحّ الكلام.

وبناء على ما سبق ذكره، فجمال الدين الخضيري ينتقل من الرؤية الساخرة الكوميدية إلى الرؤية التأصيلية القائمة على توظيف الكتابة التراثية صياغة ودلالة وتناصا.

المستــوى الخطابـي و التـــداولـــــــي:

نعني بالمستوى الخطابي والتداولي كل ما يتعلق بلسانيات النص والخطاب، وما يتجاوز الجملة إلى النص اتساقا وانسجاما. كما يتناول هذا المستوى ما يتعلق بالمقاصد التداولية ونظرية أفعال الكلام.

خاصية الاندماج القرائنـــي:

ثمة قصص قصيرة جدا يحضر فيها الكاتب تلفظا وسياقا، وذلك عن طريق استعمال ضمير التكلم وفعل المضارع وأسماء الإشارة وظروف المكان والزمان. ويشكل هذا ما يسمى بحالة الاندماج كما في قصة:"الفراق": " أخيرا قررتُ أن أتخلى عنها ولا أولي وجهي أبدا شطر مضانها. يكفي ما مضى. صراحة كنت مغفلا، واستطاعت أن تكبلني بغواياتها أكثر من اللازم. اقتحمتْ عالمي، ولم تفارقني أبدا وأنا لم أزل بعد طالبا مغلوبا على أمري، لا أملك إلا ما أسد به رمقي. مع ذلك كانت تتقاسم معي ميزانيتي الضئيلة، وتتنقل معي في حلي وترحالي. وكانت لا ترفض أن نتناوب عليها أنا وصديق لي. تصوروا.. يا لخستي مع ذلك بقيت لصيقا بها. آه.. كم كان يحلو لها أن ترمي بثقلها على صدري أو على صدورنا وتغرقنا بأريجها المميز. كلما داعبتها بأصابعي وأطبقت عليها بشفاهي تزداد حرائقها وتتقلص بين يدي. وبمجرد أن أنتهي منها أطوح بها بعيدا وأنا نادم على ما قمت به فلا تأبه لذلك. أحيانا كنت اطرحها أرضا بقوة وأدعصها برجلي، لكنها تأبى إلا أن تلتصق بي، وأعود إليها وأنا صاغر مشدود إلى سحرها الذي لا استطيع عنه فكاكا. وتتشبث بي تشبث الصغير بيد أمه، وتنتحر بين ثنايا أناملي من جديد. أما هذه المرة فلا، فإن إرادتي من حديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى