معه في قلب الليزر من تونس إلى وادي السيليكون
على عتبات خيمته الشعرية...
شاعر هو ,ليس ككلّ الشعراء ,بروميثيوس جديد يسرق من اللّيزر باقة نور يهبها لكلّ البشر ...يتنفّس شعرا...يتكلّم شعرا ...يبتسم شعرا ...ينام و يصحو شعرا...يعشق الرياضة أيضا ,و لكن رياضته يوغا شعريّة ,"امتاز" منذ البدء على غيره من الشعراء بحزن راق لم يقتله ,بل جعله ينتفض مثل طائر الفينيق معلنا على الدوام "حالة الطوارئ" حتّى استحالت حالة التمرّد عنده صفة لازمة و علامة فارقة "فأرسل الذئب في العبارة" و صنع من " ثاني أكسيد التاريخ" ...باقة من الأزهار و الرياحين "مبرمجا للوردة",مشفقا على "الفراشة " من قسوة " الديناميت" حالما دائما ب"بلاد ما بين اليدين" _يدينا لا أيديهم_ وفيّ دائما لاسطرلابه كلّما ناداه قدره – القصيد: أينك يا يوسف المسافر ؟ و حين يتعبه السّفر ,يستلقي في "خيمته " ليمارس في غفلة من الضجيج يوغاه الشعرية هو الشاعر التونسي يوسف رزوقة الذي حصد عديد الجوائز العربية و قد تميّزت نهاية سنة 2004 و بداية سنة 2005 بأن حملت لشاعرنا أكثر من تتويج فقد وقع تتويجه في موفّى ديسمبر 2004 في عمّان بحصوله على جائزة الملك عبد الله للآداب و الفنون عن مجمل أعماله الشعرية ,إضافة إلى حصوله على درع مجلة "ديوان العرب" تقديرا لإسهاماته البارزة في خدمة الثقافة العربية كما توّجته جريدة "الشعب " التونسية المستقلّة في 14 جانفي 2005 كأفضل شاعر تونسي من خلال استفتاء شعبي .
ورد في تقرير لجنة التحكيم في جائزة الملك عبد الله الثاني للإبداع والفنون 2004 و المؤلفة من الدكتور أحمد الضبيب و الشاعر الكبير عبد المعطي حجازي و الدكتور عبد القادر الرباعي :"الشاعر يوسف رزوقة حداثي تجريبي ,يدهشك شعره لأنّه يستفزّك لكي تراجع توظيف الكلمة الشعرية ,المثير في شعره وهو يمزج الشعر بالنثر ,و العلاقات اللغوية في شعره غير متوقّعة ,كما أن المعنى عنده بعيد يحتاج إلى تأويل ,هو مهموم بالمكان الذي تمثّله الثقافة العربية في هذا العصر ,لذا كانت اللّغة المحور الأوّل الذي يدور عليه شعره ...متأثّر بالحداثة الفرنسية لكنّه يعمل على إقامة حوار ايجابي معها ...يعالج قضايا السّاعة وفق رؤية نهضوية ,راقية و له إسهامات جليّة في تجديد الشعر العربي واستغلال أوثق لطاقات اللغة العربية و ابتداع لأساليب فنّية ذات تقنية عالية ...يمثّل تيّارا حداثيا مخصوصا ...حداثة جامحة يتخطّى صاحبها المألوف إلى الغريب و السّهل إلى الصّعب ,لا يقف في التجديد عند حدّ ,و إنما هو دائم البحث عن المدهش والعجيب ,الأمر الذي دفعه إلى أن ينحو في تجديده منحى بعيدا..."
لكل ذلك وقع تكريم الشاعر يوسف رزوقة والاحتفاء به في ولاية المهدية بساحل البلاد التونسية _الموطن الأصلي للشاعر_ بإشراف والي المكان و بمبادرة من المندوبية الجهوية للثقافة و المحافظة على التراث ,وذلك يوم 14 جانفي /يناير 2005 حيث أقيم حفل أنيق كان يوسف رزوقة نجمه المتألّق بوجهه البشوش و ابتسامته الدائمة . وقد حضر الملتقى/الحفل أصدقاء الشاعر و ثلة من السياسيين و الأدباء و الإعلاميين لتكريم الشاعر الملهم يوسف رزوقة الذي أتحف الجمهور ببعض من كتابه الشعري الجديد "أرض الصفر" . و قد تخللت اللقاء مداخلات نقدية في شعر الشاعر ,و اختتم الحفل الشعري بتقديم و إلي المهدية شهادة تكريم للشاعر اعترافا بجهده و تميّزه .كما قدّم إليه الباحث و القاص كمال الرياحي درع مجلة "ديوان العرب" الذي تسلّمه بالنيابة عن الشاعر في القاهرة ..فاستنشقنا عبق التاريخ ,,وشعرنا بامتداد جسر الخلافة الفاطمية من جديد ,من القاهرة إلى تونس,جسر ثقافي يعبّده فاطمي جديد ,هو الشاعر يوسف رزوقة و على هامش هذا التكريم التقينا الشاعر و كان هذا الحوار :
– يوسف :اسم و رمز ,يوسف:ضمير المتكلم و الشاعر فيك ,ويوسف الآخر ,التاريخي و الرسالي وبينهما القصيدة.....
– يلذّ لي التنافذ و التحاور مع يوسف :اسما و رمزا ويلذ لي ,في مقاربة سيميائية ,أن اعقد بينهما علاقة مشابهة بين البورتريه و الواقع ....و لعل في السياق اليوسفي المتوارث كنص عظيم أكثر من إيحاء تغنمه القصيدة الحديثة إن بشكل أو بآخر ...
– يتردّد اسمك ,والحمد لله,في عديد الأوساط الثقافية العربية,و لعله بعد الشابي ,أهم اسم لشاعر تونسي حقق شهرة واسعة خارج بلاده حضورا توّج مؤخرا بجوائز و بدعوات احتفائية و تكريمية ....
بماذا يشعر يوسف رزوقة الذي ينشد الشهرة منذ الطفولة و يحلم "ببراستيج الشاعر" ,حيال هذا التتويج؟
– أنشد الشهرة منذ الطفولة ؟لم أنشدها لذاتها أو لذاتي ...بل نشدتها لسواد عيني قصيدتي باعتبارها رسالة مشفّرة وعليها أن تبلغ قارئها والذي كتبت من أجله ,أينما كان ...و ماهذا التواجد الذي أكون قد حققته عربيا أو أوروبيا إلاّ محاولة مني لإرضاء القصيدة و من ثمّة صاحبها لتبليغ رسالة ما إلى جمهور مستهدف رأيت من الضروري أن أتواصل معه ,على نحو شعري ,مخصوص ...إلى أي مدى أفلحت؟ليس مهما ,ما يهمني الآن و هنا هو النّص القادم ,و ما هذا التتويج الذي طالني مؤخرا إلاّ مهماز رمزي يخزني كي أواصل المغامرة باتجاه ماذا ؟لا أدري ..
– و أنا أرى الآن أمامي يوسف رزوقة طفلا يلهو و يعبث بالكلمات ,و كله أمل و توق و ..جنون ,عالمه القصيدة و لا ملاذ سواها, يستفزّني السؤال التالي :كيف استطاع هذا الشاعر أن يكون ضد نفسه ولفترة طالت سنوات خارج الكلمات ؟
– يحدث هذا ...و قد حدثتني نفسي فطلّقت الشعر سنوات (عشر سنوات بأكملها) بسبب امرأة... كانت جميلة كقصيدة لم يكتبها شاعر و مع ذلك ,حين تناهى إلى سمعي كلام منها يستكثر على شاعر مثلي أن يكون له شأن في مواقع أخرى ,غير شعرية ,استهجنت رأيها و جمالها و انقطعت عن اجتراح الشعر حتى أفقت ذات جنون من غيبوبتي و عدت إلى الشعر أي إلى نفسي ....لكن بوتيرة إبداعية نازفة لكأنّها الثأر من السنوات العجاف ....
– في استفتاء أجرته جريدة " الشعب" التونسية بتاريخ 14 يناير 2005 ,تمّ اختيارك "أفضل شاعر " في تونس لسنة 2004 .ماذا يعني لك هذا التتويج الآخر ؟
– و أخيرا دخلنا "بورصة القيم" مثل نجوم السينما و الكرة و غيرهما ... وهذا جميل بشكل ما وإلى حد ما ...ما دام فيه "بروبو غاندا" ما للشاعر و لقصيدته ..ذلك أن من حق الشاعر اليوم - و خلافا لسياسة الزهد المتّبعة لدى البعض من شعرائنا ذوي المواهب المتواضعة و الفقر المدقع رؤية و حضورا – أن يحتل صدارة الأحداث ويكون فاعلا رقم 1 في أي مشهد هو طرف فيه ... ثم إذا حصل شاعر مثلي ,في استفتاء شعبي كالذي أجرته "الشعب " التونسية على 800 صوت من ألف صوت فهذا يعني أن الشعر حي في الذاكرة و أن للشاعر الحديث صوتا و صدى لدى قرائه المحترمين ...
ماذا يعني لي هذا التتويج ؟هو خطوة دعائية لي ,أثمّنها في بعدها الرمزي و أراها إلى جانب عديد "الإكسسوارات " الاشهارية الأخرى ,ضرورة للشاعر الذي لم ينل حظّه كما ينبغي من التكريس الإعلامي اللازم والمكثف و الذي طال البعض من شعرائنا الكبار ,عبر وسائط دعائية مختلفة كالانضواء تحت قضية ما ...
– في قصيدتك المطوّلة "أرض الصفر" تشنّ حربا على الشعر القديم و نقده و تقيم محاكمة قاسية للأوّلين و كأنّك تتمثّل ما قاله المعرّي :
وإنّي و إن كنت الأخير زمانه ****لآت بما لم تستطعه الأوائل
ألا ترى أنّك بتوظيف رموز الشعر القديم قد قمت بإحيائه من حيث كنت تنوي قتله ؟و هل يمكن فعلا قتل الأب أم يظلّ قتله أمنية تطلب فلا تدرك؟
– و في ذلك متعة التلاقح ,تقاطعا,مع وهج الجذور ,بل ما أرمي إليه من وراء هذا التوظيف الصّدامي هو بيت القصيد ,حتّى يكون لي هذا التراث معي و ضدّي ,الحريق الذي لا بد منه كي نضيء معا ,في ليلنا العربي الدّامس ,على نحو لا ينفصم مع الإيقاع المتسارع و المعولم لعصرنا هذا ...
أما الأب في بعده الرّمزي فهو كامن فينا و نحن نحاول قتله في القصيدة حتى يترك فسحة حلم و حبّ و حياة للقادمين و للهاتفين بمدينة جديدة لا هيمنة فيها لغير الحرية .
– يؤاخذك بعضهم ,شعراء و نقادا , ومن بينهم صديقك الشاعر عبد الله مالك القاسمي على كثرة استعمال المصطلحات العلمية و التقنية و يرون في ذلك إضعافا من شعريّة القصيدة ...لكنّك تصرّ على موقفك التوظيفي ذاك ...ألا ترى فيه ما يجانب الشعرية أو يتنافى معها أم أنّ لك رأيا آخر ؟
– من حقّهم أن يؤاخذوني و من حقّي كشاعر من هذا الزمان أن أمضي في طريقي الشائكة...ذلك أن السؤال الشعري الراهن يقتضي منّا الآن و هنا تعاطيا جديدا مع الواقع و متغيرات المرحلة ...و لا يعقل أن يظلّ الشاعر في هذه الألفية الثالثة يراوح في مكانه القديم و في زمانه التقليدي ,العتيق,بالرؤية ذاتها و بالأدوات الفنّية ذاتها و بالنوستالجيا المريضة ذاتها ...لقد انفجر العالم من حولنا و معه انفجرت مفاهيم و مصطلحات و عقول ...و حتى القلوب طرأت عليها تقلّبات و انقلبت بدورها أمّارة بالانقلاب ...فلماذا لا ينقلب الشاعر الحديث ليسمّي الأشياء بأسمائها و يسوّغ ما يبدو مصطلحا علميا أو منجزا تكنولوجيا في محاولة منه لتشفير العالم من جديد ...هو في رأيي عمل شعري خطير وشائك ,,,,لكنّ"شعرنة" هذا المعطى و تسويغه أدبيا ,عبر المخاتلة الفنّية و الانزياح و الإحداث و التخريج إلى غير ذلك ,قد يفضي إلى الطريق السالكة نحو قصيدة قادمة ,تحقق أدبيتها من ظلال الواقع المستجدّ و من الوشائج اللغوية الجديدة القائمة.
– أقول "أكتب لأقتل الموت و مشتقّاته ,فالكتابة عندي ضمير مستتر تقديره أنا هنا "...ألا يختزل هذا الموقف طموحا ما ,ترجمه في السنوات الأخيرة هذا الحصاد الهائل من الإصدارات الشعرية ؟
– هذه الشاهدة قالها لي السيميائي الايطالي أمبرتو إيكو في الثمانينات و نحن نذرع أروقة متحف "باردو" ضاحية تونس العاصمة و قد تمثّلتها لاحقا على سبيل التماهي و التلاقح و الالتقاء في الهوى ذاته ... ذلك أنّ المبدع يصبو دائما إلى الحياة في أسمى تجلياتها و يزعجه الموت في بعده المتعدّد من هنا .تكون الكتابة إجهازا على الخواء و توقا إلى امتلاك حياة ما و تحقيق جدارة الحضور في مشهد ما...و لعلّ هذا الإحساس المتنامي بالحياة جعلني ,أبادر في السنوات الأخيرة بتكثيف نزفي الشعري , مع وعيي الشديد بعدم استسهال الشأن الإبداعي ...
– وتقول في موضع آخر " الشاعر لا يبلغ سنّ اليأس الشعري و لو تقدّم به العمر قرونا فهو دائم التفجّر و التحفّز و الخصوبة ...."
و هو كذلك في رأيي مادام الشاعر يترجم بالكلمة و الحركة و الحياة الضاجّة فيه عذاب السؤال لديه ,ففي أيّة مرحلة شعرية أنت الآن ؟...
– لعلّها التطلّع إلى القصيدة القادمة ,كيف تكون؟ بأي حبر سأكتبها ؟و إلى أي مدى ستصيب قارئها المتخيّل بالصدمة ( إن وجدت)؟...
– " أنا أكتب لأحبّ نفسي" قلت هذه العبارة في بوح ما ... فهل تعتقد أنّ من أحبّ نفسه سيحبّه الآخرون عاجلا أم آجلا راغبين أم مكرهين؟؟...
– وهو كذلك و في ذلك تحقيق للتوازن الشخصي الذي تنشده القصيدة وما هذا الامتلاء بالذات إلا مرآة عاكسة لحالة شاعر يسوق نفسه نموذجا /نصّا مفتوحا على الآخر ... و ما على الآخر إلا أن يتكيّف مع دفقها أو أن يتنكّب عنها ...
و هذا الأخر ليس مطالبا بان يحب الشاعر الذي يجبّ نفسه ,لا عاجلا و لا آجلا ,لا راغبا و لا مكرها ...بل عليه أن يرى نفسه وو جهه و قناعه في المرايا المتعاكسة ...وقتها فقط,سيحس أن الشاعر الذي يكتب ليحب نفسه ,كان على حقّ...
– هل مازلت على رأيك من أن " للشاعر سلطة على شعره و بوسعه أن يوقف الشيطان متى شاء و أن يستعيض عنه بالسلطان ,سلطان الحكمة,حكمة الاحتكام إلى قوانين المدينة الراهنة " على خلفية أن "سلطة الشعر في الشاعر ماهي إلا ضمير مستتر تقديره فعل مجزوم بلم "؟
هل مازلت ترى ذلك و قد انقلب الشيطان سلطانا و أنت الأسير؟ و استحوذت الكلمات عليك :هاجسا و كيانا ؟...
– إلى حد ما ...ذلك أن للشاعر سلطة هي شعره و شيطانه المتنمّر و المتوثّب دائما ...أما سلطان الحكمة فإلى حد ما ,يمكن أن يخدم الشاعر الحديث ( هذا إن لم يخذله بطرحه الحكمي ,المفرغ من كل نسغ إبداعي حي ) فعلا ,لقد انقلب الشيطان سلطانا و لم يعد لي من خيار سوى الإذعان الكامل لسطوته ,و مبارزته من ثمة بالكلمات .
– أنت من القائلين بعدم " مفهمة" القصيدة أي أن لا تسمّي الوردة بل نترك النص يشيع رائحتها بين السطور..." وهنا تلتقي مع سانت بوف حين يقول "ليس الشعر في أن تقول كلّ شيء بل هو أن تحلم النفس بكل شيء"
بصراحة,ألا ترى انّك تجانب هذا التمشّي لتنخرط أحيانا كالطفل في لعبة المفاهيم و ما يشابهها ؟
– و لكن الشاعر الماكر يعي هذه التخوم و بوسعه أن يلعب بالمفارقات عبر استعمال عديد المفاتيح المتاحة و الممكنة كالقناع و ثخونة المقول الشعري و تسويغ ما يبدو و ذا مسحة مفاهيمية ,جافة ..و حده الشاعر الماكر يخبر قانون اللعبة أن يلعب وان يقول عصره و يسمّيه دون أن يسقط في ,,,الواقع...
– "أظن أن الوقت قد حان نصّا لنرتقي بالإنسان إلى مرتبة الحيوان حتى يكون غابة بكرا و حشا جميلا كما كان ...بمعنى آخر ,حتّى لا تحل الآلة في الحالة فيحل بالتالي الكائن الميكانيكي في كل شيء ...لقد دمّرتنا الثقافة حتى بتنا حمارا أوتوماتيكيا بربطة عنق"
إلا ترى في ما قلت تناقضا مع الشاعر فيك و المؤمن حدّ النخاع بالحداثة و مشتقّاتها ؟
– هذا لا يتناقض مع ما تقول به الحداثة .... وهل تتعارض مقولات الحداثة مع به يكون الإنسان إنسانا في تورّطه اليومي مع حلم جميل في أن يرى نفسه في غابة ,بين الوحوش الجميلة ,على ضفاف نهر يجري ...
بل أن الإنسان هنا و الآن ,إنسان الحداثة و ما بعد الحداثة هو المطالب بأن يرتقي بنفسه إلى مرتبة الحيوان أي أن يعود إلى الينابيع الأولى والى حالة الاطمئنان الأعظم ,حتى يحقق توازنه المفقود ويكتشف ذاته بمنأى عن طاحونة الشيء الهستيري و الفوضى العارمة .
– "هل كان أبو القاسم الشابي سيكون لو انّه ظل معنا في هذا العصر الهستيري ,حيث الكلمة الأولى فيه للصورة الملونة "
و تضيف" نحب أبا القاسم الشابي بسبب واحد و هو انه, رغم شهرته, لم يفعل فينا كشعراء فلا صدى لنصّه في نصوصنا .."
لماذا كل هذا الهجوم على أبي القاسم الشابي ؟
– هو ليس هجوما و لن يكون كذلك ..ذلك أن أبا القاسم الشابي شاعر عربي كبير و نحن نحبّه ,بصدق ...و ليس لنا من مبرر لنهاجمه ما دمنا نشاطره الإحساس بعبقرية المكان و بما في القصيدة من قيم جمالية و شعرية مشتركة ...
وليس من باب المبالغة إذا قلنا أن الشابي ,على أهميته و ذيوعه ,لو يؤثّر في الأجيال الشعرية التونسية ,فهو نسيج وحده و له أسلوبه الغنائي ,المخصوص ...و هو بالتالي ,لم يكن النخلة التي تغطّي الواحة ,بمعنى انه لم يغمط حق أي شاعر تونسي في التحليق عاليا و بعيدا ...
لكن يلذّ لنا وهذا مشروع جدا ما دمنا نحبه أن نقتله في القصيدة حتى يظل على قيد الحياة قريبا منا ,بعيدا عنّا ...و هنا تكمن المعادلة الصعبة ...
– في "يوغانا: كتاب اليوغا الشعرية " ( احدث إصداراتك الشعرية ) محاولة منك لتمكين الكائن في مكانه ,كما تقول,ضمانا "لبراستيج" الشاعر و إعلاء لسلطانه ...فهل ترى جدوى في ذلك ,حقا؟
– بالتأكيد ,نحن في فضاء اتصالي ,معولم , في حاجة ماسة إلى الشعر :فن العربية الأول و نسغ الوجدان الإنساني المتأكسد بفعل الهبوب الخارجي لعديد الآفات المحتملة ...بل نحن في أمس الحاجة وأكثر من أي وقت مضى إلى الكلمات .بها نتطهّر من أدران هذا العصر و فيها نقيم لنا خيمة الاطمئنان الأعظم و عبرها نحقق وجاهة الحضور لمجابهة شراسة الواقع و تحدياته و ضغوطاته المختلفة ...
– جاء في كتابك الشعري "يوغانا"
"و مضى إلى قلب الضجيج
و لم يكن يعنيه إلا أن يكون بنفسه
في الآخرين ,لنفسه..."
ألا ترى في هذا نرجسية مفرطة لعلّها الرومانسية الجديدة في ثوب حداثي؟
– النرجسية حالة إبداعية بامتياز ,و مايبدو لك ضربا من النرجسية هو في الواقع إيثار يجسّده هذا التماهي مع الآخر ,من أجل أن يتحقق المعنى بين الوجه و قناعه ,بين الصوت و صداه,...
– في إحدى قصائدك الأخيرة تصف " النقّاد بآكلي لحم القصيدة و عبدة الموز المستورد و اللحم المفروم"
لم كل هذا التحامل على النقّاد ؟الم ينصفوك؟
– بل أنا أعني النقدة ,أولئك الجالسين بأريحية تامة على ربوة اللاّواقع ,يعيشون الاغتراب في أبشع تمظهراته و لا يكرّسون إلا القديم الذي كرّسه الأوائل ,يسقطون على الإبداع الجديد نظريات و مناهج لا يخبرون مفاتيحها و يقنعون بترديد أطروحاتهم الببغائية على نحو لا يخجلهم و لكنه يخجل التاريخ و الأحفاد القادمين ...
أما بخصوص إنصاف النقاد من عدمه ,لي ..فلا أنكر أني حظيت بزخم نقدي لا يستهان به لأعمالي الشعرية ,وطنيا و عربيا ...
– وتقول أيضا " و أقم ما حييت على أرض ,خارجها,داخل الكلمات"
أهي الإقامة في الكلمات إذن ...لعلّك ترى في الشعر آخر الحصون لزمن الدمار الشامل؟
– و هو كذلك ...فالشعر هو الملاذ و هو الحصن الأخير الذي (قد) يقينا هذه الدمارات الشاملة...لكن كيف ؟وحده قلب الإنسان الراهن ينبض لمثل هذا الفردوس..
– في "يوغانا"دعوة ضمنية بل علنية إلى الاجهاز على الماضي ...
هل تعتقد انه من السهل أن يرمي الإنسان بأكثر من عشرين قرنا ليحتفل بغد مجهول ؟
– يهمنا الإجهاز على الوجه المظلم للماضي ...أما الوجه المضيء ,فهو يلازمنا ,في الذاكرة ,ينبوعا لا يجف و غدا معلوما ...
– يبدو يوسف رزوقة وهو يتعامل مع الانترنت مثل طفل مفعم أملا و توقا إلى غد أجمل ...فما أشبهه وهو ينشر قصائده بموقع الكتروني ما ,جذلان,تلتمع العيون منه التماعا بذلك الطفل البعيد ,القريب الذي كان يرسل قصائده إلى الجرائد و المجلات و ينتشي فرحا حين يراها منشورة بشكل أو بآخر ..
كيف استطاع ابن القرية أن يجعل من العالم كله زردة (قريتك الساحلية ) جديدة فلا يتيه في زحام قرية ماكلوهان؟..
– في قرية ماكلوهان (أو القرية الكونية) كان لا بد من كسر الحواجز و تحقيق بلاغة الحضور لا على هامش الواقع الأشياء ,بل في صلب حرائق المرحلة ...
من هنا , تعيّن على شاعر القرية النائية أن يدنو من الحريق و أن يكون فيه فلا يحترق تناغما مع قانون الحياة و توقا إلى نقطة ما ,في أفق ما,على نحو ما ...
– قلت مرة " نلتقي في الزحام فلا نلتقي و التقينا أخيرا فهل نلتقي ؟" لتضيف " جميل أن نلتقي في الاختلاف "
ما نلحظه حرصك الدائم على الاختلاف نشدانا للفرادة :انزياحا و تجديدا و مغامرة و سؤالا شعريا ...
وسؤالنا: هل ننتظر فيك ومنك شاعرا آخر غير الذي نراه اليوم فيك ؟
– ممكن جدا , فالواحد منا قدره أن يسافر في اللحظة مرارا وان يتغيّر من حال إلى حال ,و من قصيدة إلى أخرى
أما أن يراوح في نقطة بعينها , باسم الثبات على المبدأ أو ما شاكل , فذاك محض هراء و نوم في تمام المستنقع ... لذا يمكن أن يكون لي أو لقصيدتي القادمة موعد مع شيء أريده استثنائيا جدا من باب الحلم المجنّح و المشروع في آن .أليس كذلك؟
– هو كذلك .و نتمنى لقصيدتك مزيدا من التأنّق و التألّق و الجنون حتى يُمكّن الكائن في مكانه و يظلّ الذئب راكضا في العبارة .