مع الأكاديمية التونسية ام الزين المسكيني
– الجزء الأول: بداية من هي الدكتورة أمّ الزين المسكيني؟
– انّ هذا السؤال «من» هو من أكثر الأسئلة قبولا للإجابات السريعة، أي الجاهزة سلفا قبل طرح السؤال نفسه.. وبعيدا عن الهروب من الأسئلة باللجوء فورا إلى الإجابات.. دعني أقف معكم قليلا عند "من؟" حين تصبح مورّطة بالفلسفة.. ودعنا نتذوق سويّا بعضا من مهارات الفلاسفة في أرجاء السؤال أو تجميده أو إبطائه..حيث لا مجال للتعجّل ولحثّ الخطى أمام سؤال قد يدفع بنا إلى متاهة أو هاوية أو خطّ مسعور لا مخرج منه....ههنا تكفّ «من؟» عن أن تكون مجرّد أداة استفهام يومية كي تصير براديغما فلسفيا هو علامة على تحوّل من سؤال «ما هو» «الميتافيزيقي» إلى سؤال «من» «الجينيالوجي» ..أي من سؤال يدّعي إمكانية وجود حقائق في ذاتها مطلقة و واضحة و متميزة..الى سؤال لا شيء وراءه و لا خلفه غير التأويلات والأرشيفات والوثائق الرمادية..
ماذا يخفي سؤال "من" حينما يتعلق الأمر بشخص بعينه؟ أي بشخص ماثل أمامك بجسد يحتل حيزا في منظوريتك و يهبك بذلك عالما ترتبط به على نحو لحمي تماما؟ هل وراء هذا ال"من"ً الذي تفترض سلفا أنّه مجهولا إلى حدّ هذا السؤال بالنسبة لك، ذات ميتافيزيقية أم هُويّة ثقافية أم هًوية مدنية، أم صيرورة حيوية؟ أي هل أنت كوجيتو أم ذاكرة أم أنت مواطن في الدولة المدنية؟ من أنت بعد "موت الانسان " و نهاية الذات و العودة الإشكالية إلى الهويّات و الأصوليات > المسعورة؟
يبدو أنّ السؤال "من" ههنا لا يخصّ شخص بعينه الاّ حين يتعلّق الأمر باستنطاق بوليسي..بل صار مشكلة معقّدة تخصّ حضارة برمّتها هي التي ننتمي إليها جميعا و كأنّنا نندفع جميعا نحو حتف واحد و قدر واحد..و لا أحد يتنبّأ إن كان في الأمر سيرا نحو مستقبل مغاير أم نحو ماض أكثر جرح..و ربّما ليس ثمّة مستقبل أصلا..بل ثمّة صيرورات و كثافات و خطوط هروب و مناورات و سياسات...
وليكن..فانّ سؤال "من" يخفي في طياته كل ضمائر النحو اللغوية منذ أنا إلى هم و هنّ مرورا بأنت و أنتم و نحن و هو و هي..بعضها غائبة و بعضها حاضرة.. بعضها تجمع و أخرى تُفرد و تفرّق.و عليه بإمكان سؤال "من " أن ينفصم و يتعدد فيوحي أحيانا بالحاضر و يخفي أحيانا أخرى الغائب..أمّا حينما تجد نفسك مسؤولا بذات نفسك عن سؤال يخصّك أنت بما أنت "أنا " ستكون وجها لوجه أمام مرآة لا تخصّك أنت فحسب لأنّ كل الآخرين سينظرون إلى مرآتك بموجب دخولك للتوّ في الإجابة عن سؤال من تكون "أنت "كما ترى نفسك
بنفسك؟..حذار..فانّ كل شكل من القول في هويتك الخاصة قد يكون حينئذ ضربا من الانتحار الرمزي إذ عليك أن تدخل في نوع من العراء التشكيلي المحض..ستسعى في كل الحالات إلى إرضاء "نرسيس" القابع فيك وراء المرآة..و ستتفنن في رسم الصورة التي ترضيك عن نفسك..و ستحلم دوما أن تكون وفيا لتلك الصورة...و في كل الحالات ستنتهي إلى الإحساس مهما كنت ما أنت بأنّك "أنا" على سبيل ضرب من العدوى مع "أناوات"أخرى تشبهك أو تحاكيك أو تزاحمك في الانتماء إلى هذا الضمير اللغوي..و أنت في آخر المطاف مجرّد ضمير لغوي ما دامت اللغة هي مسكنك الوحيد و مجازك الأوحد للعبور إلى العالم..
ولو استشرنا الفلاسفة قليلا لكان بوسعنا أن نشير إلى أنّ عُمر السؤال عن "من" في الفلسفة ليس طويلا.فقد بدأ مع نيتشه و انتهى مع دولوز..و رغم ذلك بوسعنا أن نحصي عدّة دلالات للأنا حين أقول "أنا ":أوّلا، مع سقراط و شعار "اعرف نفسك بنفسك ".ثانيا، مع ديكارت "أنا أشكّ، أنا أفكّر..أنا أوجد بقدر ما أشكّ..".ثالثا، مع سبينوزا أنا جسد، أنا رغبة، لا فصل بين الجسد و النفس لأنّ "ماهية الإنسان هي الرغبة"..رابعا، مع كانط : أنا فينومان و نومان معا..أنا ذات ترنسنتندالية تملك شروط إمكان وجودها بقدر قدرتها على المرور من حقل الطبيعة إلى حقل الحرية..خامسا ، "الأنا عينه بما هو آخر" للفيلسوف الفرنسي ريكور. سادسا : أنا بما هو غيرية جذرية (دريدا..ليفيناس..).سابعا ، مع دولوز و غاتاري، ليس ثمّة أنا و لا الآخر.ثمّة دوما اللاشخصي أو الضمير الرابع.. أو الريزومات أو الفرديات المترحّلة..ليس ثمّة من عرق و لا سلالة و لا هويّة..ثمّة العدوى..و الريح..و الرغبة...كلّ منّا هو بدوره كثير.بعواطفه و صيروراته...و رغباته و موتاته..و الفرديات التي يحملها على خطوط الهروب..و شعبه الذي ينمو داخله أو يتألّم أو يثور أو سوف يأتي..بقدر توفّرك على رغبات القدرة على الحياة..ثامنا، ليس ثمّة أنا و لا آخر و لا ضمير رابع..بل ثمّة دوما الجموع حيثما ثمّة فعل إبداعي من أجل مقاومة الصحراء و القحط الأنطولوجي الذي أصاب الإنسانية الحالية..(مثلما نجد ذلك لدى نيغري..)
خلاصة القول أن ثمّة في سؤال "من؟" الذي يمكن ان يُطرح يوميّا على أيّ كان، الكثير من الانفعالات المتناقضة..ثمّة النرجسية و ثمّة الحلم..ثمّة الكذب و الادعاء..ثمّة الوفاء و ثمّة الغدر..و ثمّة جروح نخفيها بضمّادات لغوية..و ثمّة خيبات أمل في أنفسنا..و هزائم و تفاصيل نجمّعها في كلمات مقتضبة مخافة أن تفضحنا المرآة و أن تنثرنا على قارعة طرق لا تؤدي....و الفظيع هو أنّ سؤال "من يخفي أيضا الموت أو شكلا مريعا من الموت..كلما عجزنا عن أن نصير ما نريد..
– من تكون أم الزين بنشيخة المسكيني؟
– تونسية الجنسية والوطن..أمّ لثلاثة أبناء...أصيلة جزيرة قرقنة..أستاذة جامعية في اختصاص الفلسفة بجامعة تونس..متحصّلة على شهادات "الكفاءة في البحث" (1990) ببحث جامعي حول جماليات أدورنو باللغة الفرنسية، و التبريز في الفلسفة (1993)، والدكتوراه باللغة الفرنسية بأطروحة حول فلسفة كانط( 2000).. و التأهيل الجامعي في اختصاص الجماليات (2012)..صاحبة كتابين :كانط راهنا أو الانسان في حدود مجرّد العقل،(بيروت 2006.).و الفنّ يخرج عن طوره أو جماليات الرائع من كانط إلى دريدا (بيروت 2011)..و هي الآن بصدد الانتهاء من كتابها الثالث في الجماليات المعاصرة..و لها أيضا رواية تحت الطبع بدار جداول للنشر ببيروت.. و رواية ثانية قيد الكتابة..و ديوان شعر في الطريق إلى النشر.. و مقالات و مشاركات في ملتقيات..باللغتين الفرنسية و العربية...إضافة إلى أكثر من خمسين مقال صحفي بجريدة المغرب و جريدة صوت الشعب على سبيل المصاحبة النقدية للثورة التونسية و لأهم ما حدث من ملابسات و مؤامرات و صفقات للشعب التونسي في ظلّ ما يعرف بالانتقال الديمقراطي..أو ما سُمّي من جهة أخرى بالثورة المسروقة أو المغدورة..
لكن لا أعتبر أنّ شهاداتي العلمية في الجامعة و لا حماستي الثورية خارج الجامعة تكفي لوحدها للتعريف بمن هي "أم الزين بنشيخة المسكيني"، فأنا أعتبر أنّ شخصيتي الفلسفية و حتى الشخصية جدّا تدين في تكوينها و صقلها الى زوجي المتفلسف العربي فتحي المسكيني الذي رافقني في مسيرتي الفلسفية بالإرشاد و النصح و التوجيه الأكاديمي..بدونه ربما كنت شخصا آخر..علّمني محبّة الفلسفة و محبّة الثقافة العربية و المراهنة على بناء العقل العربي المعاصر و الإيمان بالإنسان العربي..
– باعتبارك من رائدات الدراسات الجمالية في العام العربي ,ما هي الاتجاهات والنظريات المعاصرة للاستطيقا؟
– لقد حاولت طيلة سنوات اشتغالي على حقل الجماليات كتابة و تدريسا و بحثا أن أعيد المرور بأهمّ الخرائط الممكنة لهذا الاختصاص و ذلك ليس لمجرّد الاطلاع عليه و بناء معرفة دقيقة به بغية الإحراز على ديبلوم جامعي فقط..بل كان هدفي هو أن أجرّ أهم نظرياته و مكاسبه و إشكالاته إلى أفق اللغة العربية..إيمانا منّي بضرورة المراهنة على إثراء الذائقة الجمالية العربية..
وانّ أهمّ ما ظفرت به و راهنت عليه هو الإحاطة بما سمّيته "المنعرج الجمالي للفلسفة المعاصرة "، و ذلك مثلما نتحدّث عن منعرج تأويلي أو منعرج لغوي أو منعرج عملي..و قد تبيّن لنا أنّ ثمّة تساوق و تواشج عميق بين ولادة الحداثة كمشروع تاريخي و كمشكل فلسفي معا و ولادة براديغم الجماليات منذ بومغارتن مرورا بكانط و هيجل و نيتشه وصولا إلى أدرنو و دريدا و دولوز..وبوسعنا أن نتحدّث عن ضربين من الجماليات مثلما أنجز ذلك كانط في النقد الثالث بتاريخ 1790: جماليات الجميل و جماليات الرائع..جماليات الجميل التي تولد على نحو فلسفي حاسم في تحليلية الجميل من كتاب نقد ملكة الحكم لكانط..و تتواصل مع روّاد الجميل بخاصة هيغل وياوس و غادامير و مرلوبونتي..و جماليات الرائع :منذ قراءة خاصّة جدا أنجزها ليوتار لتحليلية الرائع الكانطية يقع اكتشاف للرائع الجمالي بوصفه ما تبقى من الجماليات بعد أفول الجميل عن سمائها..و انّ أول من جعل الجماليات تغير من وجهتها و تلتفت عن الجميل هو أدرنو الذي جعل من القبح أفقا مغايرا للنظرية الجمالية..حيث لم تكن أشعار بودلير في زهور الشرّ من أجل الجميل.. و لم يكتب كافكا من أجل الإمتاع و الذوق..و لم تكن موسيقى بيتهوفن أو مسرح براشت أو رسومات بيكاسو تنتمي إلى الجميل بل إلى المريع و القبيح.. و كل أشكال الحيف و اللامعقول الذي تنشره مكنة الحضارة الحديثة..حيث تحول كل شيء إلى بضاعة..و باختصار شديد إن الفرق بين الجميل و الرائع هو الفرق بين فنّ يوجّه الواجهة و يبرّر الواقع و آخر يصلح للاحتجاج و فضح اللامعقول و الظلم و واقع الهيمنة..هو الفرق بين "فرحين بما يحدث " و بين من لا يرتضي بالهوان..و قد اتخذت من النوع الثاني من الجماليات أي جماليات الرائع و المريع أفقا لأبحاثي و تدريسي و كتاباتي...
إلى جانب ثنائي الجميل و الرائع ثمّة طبعا الخطّ الفلسفي الخارج عن براديغم الجماليات وهو خطّ فلسفات الأثر الفني..و قد بدأت مع بنيامين و هيدغر (1936) و انتهت مع دريدا الذي يفكك فكرة الأثر نفسها معيدا بذلك الى ما هو "خارج عن الأثر"،أي الصمت و الغياب و الموت و اللامعنى و الهامشي و الغريب و الآخر..و كل المعاني المهجّرة من مواطنها، حقّها في كتابة انفعالاتها بعد نهاية حضارة الكتاب و الذات و المؤلف و القارئ...الخ..
إلى جانب هذه الخطوط الثلاثة للجماليات المعاصرة علينا إضافة خطّ رابع هو خطّ الجماليات التحليلية التي تجعل من الفنّ أساليب لصنع عوالم أخرى (بخاصة لدى غودمان).. وخطّ خامس هو خطّ جماليات التهكّم لرورتي التي توجّه كلّ الشأن البشري برمته توجّها جماليا شعريا ما بعد ميتافيزيقي ما بعد رومنسي و ما بعد فلسفي أصلا..إضافة إلى خطّ سادس هو الذي تنجزه اليوم مؤلفات جاك رنسيار في ضرب من استطيقا السياسة حيث لا فاصل بين الجمالي و السياسي، و ذلك في سياق الاشتراك في المحسوس و خلق ذاتية جمالية سياسية مغايرة تعيد توزيع المحسوس بشكل عادل و تخترع القدرة على أن يصير الجميع "أيّا كان " دون أيّ تمييز بين الناس عرقي أو هووي أو طبقي أو نخبوي و ذلك في ضرب من الطوباوية الشيوعية ما بعد الماركسية..
– لماذا لا تلقى الدراسات الجمالية والفنية اهتمام كبيرا من لدن الباحثين العرب في الفلسفة المعاصرة؟
– صحيح أنّ الجماليات بقيت مجرد اختصاص أكاديمي حكر على الجامعة..لكن هذا لا يعني أنّ الباحثين العرب لم يهتمّوا بها اذ ثمّة بعض الدراسات و الكتب التي فتحت الباب منذ زمن لهذا الاختصاص في الثقافة العربية..و رغم ذلك فيبدو أنّ الباحثين العرب اهتمّوا كثيرا بمسألة التراث و العقل العربي و مسألة الانتماء و ذلك بهدف البحث عن إمكانيات إرساء فلسفة عربية معاصرة، دون الاصطدام بفهم معين للهوية و باضطهاد للعقل مرة أخرى بعد أشكال المحن التي عاشها المفكّرون في هذه الثقافة منذ زمن ابن رشد و ابن باجة وصولا إلى اغتيال المهدي عامل و حسين مروة و ناجي العلي و محنة نصر حامد أبو زيد..و كثيرون آخرون..و يبدو أنّ الاشتغال على الجماليات كان يبدو بمثابة الترف الفكري..في حين ينبغي التنبيه على أهمية هذا الميدان بما هو على علاقة خطيرة بالذوق و الأحكام الجمالية و الفن و إمكانية الإبداع و حرية المبدعين..وخلق قيم التواصل و العيش معا، خاصة اليوم حيث يبدو الفنّ في محنة لأنّه متّهم اليوم أكثر من أي وقت مضى بأنّه مزعج للمقدّسات..و ذلك في ظلّ ردّة خطيرة و عودة مسعورة للهويات...
– هل يمكن أن يكون الفن ببعده الجمالي والتحرري هو خلاص الإنسان كما خلص إلى ذلك ادورنو؟
– لا أفضّل الحديث عن دور الفنّ في لغة الخلاص لأنّها لغة لاهوتية في معنى اللاهوت السلبي..لكن يجدر أن نتحدّث عن دور الفنّ في لغة معارك الحرية و المدنية التي تعيشها البلاد العربية بعد صعود الإسلاميين إلى الحكم خاصة في تونس و مصر..فالفنّ هو جزء من امكانية الدفاع عن قضايا المواطنة و الاشتراك في العالم و الدفاع عن الحريات..و ينبغي أن ننتبه الى المخاطر التي تهدّد حقل الإبداع بعامة في ثقافة مهدّدة بقيم الاتباع و الايمان و النقل..و التحريم و التكفير و الاساءة الى المقدّسات..انّ ميدان الفنّ و الابداع يبدو في خطر طالما لم نكن قادرين على تحصين حقوقه و حقّه في الوجود..المطلوب من المنتمين الى هذا الميدان النضال من أجل فرض حقّ المخيّلة في تخييل الواقع والاّ مات الانسان العربي كمدا من واقع مهدد بالجمود، ومهدّد بأن يبقى واقعيا الى حدّ الفجيعة... انّ الفنّ بوسعه أن يساهم في اختراع فضاءات عمومية من أجل محبّة الحياة..أي أن يخترع مشترك حرّ مرح مغاير لمشترك جماعة الملّة..
بالإضافة إلى اهتماماتك الاستطيقية تهتمين كثيرا بكانط فكيف نجعله أكثر راهنية؟
أنا أعتبر أنّ فلسفة كانط لا تزال راهنة بالنسبة لمجتمعات لا زالت فيها الحداثة هشّة و مهدّدة نتيجة عودة المشروع الاسلاموي مرة أخرى على الركح السياسي..و يمكننا القول بأنّ علاقتنا بالحداثة لا تزال اشكالية جدّا..فهل علينا أن نواصل مشاريع التحديث التي انخرطت فيها البلاد العربية منذ الاستعمار ثمّ مع الدول الأمنية التي تحولت الى دكتاتوريات؟ أم علينا أن نعود إلى أصولنا الهووية؟ و هل بوسع الشعوب أن تختار بين أن تنتمي الى لحظة الحداثة و قد صارت قدرا تاريخيا للإنسانية برمتها و بين أن تخرج عنها؟ و هل من الضروري أن نكون في الحداثة؟.. أم بوسعنا أن نقبع في هوياتنا المنطوية على ذاتها؟ و بالنسبة الى خيار مدني ديمقراطي يعيد الى الشعوب العربية حقوقها و كرامتها خاصة بعد الثورات العربية، أعتقد أنّ كل اعتراض على الحداثة انما يؤدي حتما الى التطرف الديني ضدّ الدولة المدنية...
الجزء الثاني: اسمح لي ان انتقل بك إلى المجال السياسي، بعد نجاح الثورات العربية في إسقاط الأنظمة الاستبدادية, فهل نحن قادرون على بناء دول ديمقراطية تعددية.؟
هذا سؤال من الصعب أن أتنبّأ باجابة دقيقة في شأنه..أمّا بالنسبة لقدرة الشعوب العربية على بناء دول ديمقراطية..فهي دوما قادرة كلما أرادت ذلك..لكن يبدو أنّ ملفّ الديمقراطية في الوطن العربي ليس بيد الشعوب فقط..بل هناك جهات خارجية و خرائط سياسية و مناورات و صفقات و مؤامرات على الإنسان العربي... انّ مسألة الديمقراطية بعد الثورات العربية،صار بيد الحكومات أكثر من كونه بيد الشعوب..و يبدو أنّ علاقة الحكومات الصاعدة على الركح بملفّ الديمقراطية علاقة غامضة و غير بديهية، بل ثمّة ما يدعو إلى القول بنوع من العلاقة الانتهازية بكل ّ المكاسب التحديثية و المدنية..و رغم ذلك يبدو في تقييمي أنّ الحركات الديمقراطية و الأحزاب التحديثية و المجتمع المدني قادرة دوما على الدفاع عن حقّ الشعوب في تسيير مصيرها بنفسها..ليس هناك خريطة واضحة للشعوب العربية لكن ثمّة الكثير من النضال و المقاومة تنتظر كل من يراهن على دول ديمقراطية مضادة للديكتاتورية و الطغيان..
– لكن سيدتي هل من الممكن قيام دولة ديمقراطية بدون ثقافة سياسية حداثية ,تؤمن بقيم الاختلاف والتعددية؟
– الديمقراطية تقوم في جوهرها على التعددية و ثقافة الاختلاف..لذلك نحن مطالبون بثورة ثقافية طويلة الأمد للتدرب على قيم الديمقراطية..ليس غريبا أن نصطدم في مجتمعاتنا بدغمائية الايديولوجيات و بالتعصّب الديني و بعقلية الحزب الواحد..تنقصنا ثقافة الديمقراطية و ثقافة حق الاختلاف..لكن هل سننجح في اكتسابها كرؤية حضارية و في تبنّي مجتمعاتنا لها؟ تلك هي المشكلة الأساسية..و بعيدا عن التفاؤل و التشاؤم يبدو أنّ ثقافة الديمقراطية و التحديث و الاختلاف سوف تبقى لمدّة طويلة ثقافة نخبوية لا يصل صداها الى الشعوب الاّ على نحو باهت...
– مادور الفلسفة اليوم في معارك التنوير والتحرر؟
– أمّا عن الفلسفة فستواصل الدفاع عن الحرية و عن ثقافة العقل و سوف تواصل مراهنتها على بناء قيم المواطنة والكرامة و المساواة.. لكنني أعتقد أنّ الفلسفة لا تملك أيّ دور خاص..ذلك أنّ الفلاسفة قد كفّوا منذ زمن طويل عن أن يكونوا صنّاع مدن فاضلة..فبوسعك أن تجد الفيلسوف اليوم يبرّر الحكومات و بوسعك أن تجده في حزب غير حزب العقل..انّ مفهوم الفلسفة صارمفهوما عائما و زئبقيا..و من الأجدر ربّما أن نستغني عنه أصلا..مثلما كتب دولوز ذات مرّة قائلا : " ينبغي الخروج من الفلسفة و القيام بأي شيء يمكّن من إنتاجها من الخارج، لقد كان الفلاسفة دوما شيئا آخر، و لقد عرفوا دائما نشأتهم انطلاقا من شيء آخر"........
انتهى..أم الزين بنشيخة المسكيني...