مــريميــة
((كان ياما كان)).
وكانت جالسة على الأرض مستندة إلى الحائط، وكنت مستلقيًا على جنبي، رأسي مرتاحة على فخذها، ووجهي إلى بطنها، رائحتها العبقة، وأصابعها التي تتخلل شعري تخلق أجواء الحكاية.
((ولا يحلو الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام.. هذا الظلام لم يكن، ولم يكن الشكل القبيح، ولا الصوت القبيح، ولا الكذب، ولا الطعم المر.. تعرف؟ حتى القلب الأسود لم يكن موجودا)).
أصعد إليها، أجد ابتسامتها، وحضنها الدافئ، أتقدم منها صامتا، أجلس إلى جوارها، أول ما تضع ذراعها على كتفي:
ـ مريم.. مريم احكي لي.
((كانت الدنيا بيضاء ناصعة، وكانت السحب، والجبال المكسوة بالخضرة، والخضرة، وكان كل اليوم نهارا، والقمر من الشمس على مرمى حجر)).
يوميا، أول ما أسمع أذان المغرب من الجامع القريب أجري إلى أختي الكبرى، تفتح مرآة الدولاب الكبير، وتخرج الشماعة السوداء معلقا عليها البدلة البنية التي أحضرتها مريم لي.
أرتدي البدلة، وتصفف لي أختي الوسطى شعري، وتضع لي زيت شعر من زجاجتها، أنظر في المرآة وأصعد جاريا، فأسمع صوت الصغرى:
ـ لا تقل لها يا مريم هكذا.. قل يا عمة.
((ولم يكن فوق هذه الأرض الكبيرة الكبيرة إلا رجل واحد.. واحد فقط)).
ـ مريم احكي لي.. احكي لي.
تصمت، وتشرد بنظرها.
ـ ما لك يا مريم.. كل مرة تبدين حزينة.
قالت ـ وهزت رأسها ـ: صغير.
ـ سأفهم.
تنهدت، ثم تكلمت طويلا عن عيني الولد، وعن ساعدي الولد.
((النساء كن كثيرات، نساء سمراوات، شقراوات.. طويلات، قصيرات.. كلهن حسناوات، وطيبات)).
تكلمت أيضا عن صمت الولد.
قالت: فهمت؟
ـ كلا.
قالت: صغير.
ـ يا مريم.. أحفظ هذه الحكاية، كل مرة تحكينها لي.
((في كوخه البعيد، في قمة الجبل العالي اختار الرجل مقامه.. يقطع الأخشاب، يرققها، ثم يصطنع لنفسه ألوانا كألوان الزهرة، والشجرة، والسحابة السائرة.
يجلس ليرسم، فتبين الزهرة كالزهرة، والشجرة كالشجرة، والسحابة كأختها التي في السماء)).
على الحائط صور كثيرة لمريم معلقة داخل أطر ذهبية، صورها وهي صغيرة بالأبيض والأسود.
تبدو جميلة في الصور، أتحير وأظل أفكر أهي أجمل في الصور أم في الحقيقة.
((عندما يريد أن يأكل أو يشرب.. يرسم غزالة، وعين ماء، وعنقودا من العنب، ثم يبتهل، فيخرج له اللحم الطيب، والماء العذب، ويمد يده فيتناول قوارير الشراب المعتق)).
واصلت كلامها عن الولد، قالت وحده القادر على أن يحمل إليها الفرح.
ـ يا مريم.. أعرف حكاية الولد، أريد حكاية أخرى، ألا تعرفين حكايات أخرى؟
احكي لي حكاية الجني، أو حكاية القصر الذي فيه ملك وفيه سجن وفيه بستاني.. حفظت حكاية الولد.
لم تهتم بكلامي وتابعت حديثها، تململت وألقيت برأسي على صدرها معترضا وغاضبا.
ـ سأمضي.
قالت ـ وأراحت رأسي على فخذها ففردت جسمي ـ: لو قلتَ ذلك غضبتُ منك.
((النساء كن يعلمن بوجوده في قمة الجبل، ويعلمن أنه لا يعلم بوجودهن، فصرن يتسللن إليه وهو نائم يتأملنه، ويتفرجن على لوحاته.
بعد أن يرجعن تتحسس كل واحدة النور الذي نبت داخل صدرها)).
تأخذ نفسا عميقا، فينضغط وجهي في بطنها، وتتهدهد رأسي المستنيمة على فخذها مع الهزات الخفيفة المتتابعة.
((كن يعلمن أنه لا يعرف ما المرأة، ولا ما فم المرأة، ولا ما شعر المرأة)).
كمن يبتسم، أو كمن يذكر ألما تعيد رأسها إلى الوراء، يسقط الضوء على رقبتها التي تزداد بياضا يتحرك مع الكلام.
((في مرة تسللن إليه، وجدنه قَلَب وجوه كل اللوحات إلى الجدار، ورأين لوحة جديدة أخفاها بين صدره والفراش، عليها بطول الجسد رسم لوجه فتاة)).
توقفت عن هدهدة رأسي عندما لمحتْ نظرتي العاتبة، داعبت أناملها شعري، وجانب وجهي.
قالت: سأحكى لك.
ابتسمتُ.
قالت: انتبه حتى تفهم.
((عندما رجعن اكتشفت كل واحدة داخل صدرها نقطة سوداء تأكل النور)).
صمتتْ طويلا، صمتُّ أنتظر أن تبدأ الحكاية.
((تساءلن طويلا، ولم تعرف إحداهن من تكون الفتاة في اللوحة.
صعدن إليه، تمددن حوله وهو مأخوذ، فردت واحدة شعرها على آخره فكان الليل، وكشفت واحدة نهدها، فتلون الليل نهارا بشمس وسحب، وعندما غنت التي تخجل عندما يمتدحون صوتها، غردت الطيور و...)).
ـ وماذا فعل؟
تنهدتْ حتى أحسست بصيف شديد:
ـ ليتني أعرف.