الأربعاء ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
الشخصية الروائية على ضوء
بقلم جميل حمداوي

مقاربات النقد العربي القديم والحديث

تــوطئـــة:

من المعروف أن مقولة الشخصية من أصعب المقولات التي لم تجد لها نظرية الشعرية بصفة خاصة ونظرية الأدب بصفة عامة جوابا شافيا وحلا ناجعا. وبالتالي،لم يستطع النقد الأدبي إلى حد الآن أن يصل إلى نتائج مقنعة وكافية في هذا المجال سواء على مستوى الدال أم المدلول أم المرجع؛ وذلك بسبب زئبقية الشخصية ومطاطية مكوناتها، واختلاف الدارسين في استعمال المفاهيم والمصطلحات، والخلط بين الشخص والشخصية، والسقوط في مفهوم المطابقة بين الشخصية والمبدع محاكاة وانعكاسا وتماثلا وإحالة، إلى أن جاءت اللسانيات والسيميائيات والبنيوية السردية لتقديم الشخصية باعتبارها مقولة نحوية ولسانية وعلامة سيميائية من خلال تفكيك السرود، وتركيبها تحليلا وتأويلا. بيد أن مقاربة الشخصية الروائية في إطار الدراسات النقدية الحديثة والمعاصرة مازالت تتخذ أشكالا صورية مجردة كونية (البنية العاملية)، وذلك على الرغم من خصوصية الفاعل أو الممثل على المستوى النصي والدلالي، وذلك حينما يدمج داخل الرواية حسب سياقات نصية وثقافية معينة، وقد تصبح هذه الأشكال الكونية العامة مع توالي الأزمان والعقود بمثابة خطاطات جامدة وعقيمة، وتحتاج إلى من يعمق مفاهيمها الإجرائية نظريا وتطبيقيا، ويثري تطبيقاتها عن طريق الإضافة والتطوير والتنقيح والتعديل، واقتراح مشاريع نقدية وتصورات سيميائية جديدة للسير بمفهوم الشخصية الروائية نحو آفاق جديدة. إذاً، كيف كان النقد العربي ينظر إلى الشخصية الروائية؟ وماهي أهم المقاربات النقدية التي تناولت الشخصية الروائية؟ وماهي خصوصياتها النظرية والتطبيقية؟ وماهي أهم الاقتراحات التي يمكن التمثل بها لمقاربة الشخصية الروائية مقاربة شاملة تحيط بكافة الجوانب على مستوى الدال والمدلول والمرجع؟

الشخصية الروائية ومفهوم المطابقة:

لقد تعددت مقاربات الشخصية الروائية في النقد العربي الحديث والمعاصر منذ العقد الثالث من القرن العشرين، وتراكمت أبحاثها في المغرب في الستينيات، بيد أنها كانت تنظر إلى الشخصية التخييلية في عالم الرواية على أن لها معادلا موضوعيا في الواقع المجتمعي، ويعني هذا أنها لم تميز بين الشخص والشخصية، لأن الشخص إنسان حي واقعي من لحم ودم، بينما الشخصية بمثابة كائن ورقي إبداعي وتخييلي. لذا، كان النقاد يخلطون بين الشخص والشخصية،" فتم خلق وعي ملتبس بمفهوم الشخصية تحت ضغط التاريخ والبيوغرافيا، وتشاكلت الشخصية ككائن متخيل عبر الكتابة وعبر خالق هو حقا شخصية إنسانية، مع الشخصية التاريخية والإنسانية داخل المجتمع. وفي هذا الصدد مثلت الرواية التاريخية والسيرة الغيرية والسيرة الذاتية منطلقات أساسية لهذا الوعي، كما هو الشأن في روايات جورجي زيدان وكتابة السيرة بنوعيها عند أمثال: طه حسين والعقاد في الشرق العربي... فأصبح القارئ أمام تراكم جعله يعتقد أن الشخصية القصصية لابد أن يكون لها مقابل في الواقع المعيش"1.

والمقصود من هذا أن النقاد التقليديين كانوا يطابقون بين الشخصية الروائية والكاتب المبدع، وذلك انطلاقا من مبدإ المحاكاة وأثر الواقع2، ولاسيما في روايات السيرة الذاتية والكتابات البيوغرافية (ترجمة الغير) والروايات التاريخية، وقد سبب هذا الخلط بين الشخص والشخصية في مغالطات واهمة، ومحاكمات باطلة، تضرر منها الكثير من المبدعين والكتاب والمثقفين؛ وذلك بسبب الإسقاط الإحالي، والتأويل الانعكاسي الاجتماعي أو النفسي أو الأخلاقي.

ومن الأسباب الأخرى التي كانت وراء مطابقة الشخصية الروائية لمبدعها تصريحات الروائيين أنفسهم بذلك، وكذلك العناوين الروائية الدالة على شخصيات واقعية بطريقة توهم أنها تماثل كائنات حقيقية من لحم ودم مثل: روايات نجيب محفوظ كرواية " أولاد حارتنا"، و"الشحاذ" و" اللص والكلاب"، و" يوم قتل الزعيم"... ونجد في الرواية المغربية " لمعلم علي" و" دفنا الماضي" لعبد الكريم غلاب، و" الطيبون" لمبارك ربيع، و" المرأة والوردة" لمحمد زفزاف...،" بالإضافة إلى قيام الروائيين بمحاولة إيهامية يعملون فيها على استجماع " كل" الصفات التي يمكن أن تخلق تشاكلا بين الشخصية كتقنية وبينها كإنسان، يكثفون من الصفات الجسدية والخلقية والفكرية والنفسية، وكأننا أمام شخصية بلحم ودم."3

وهكذا، فقد ساهم النقد القديم فعلا سواء أكان نظريا أم تطبيقيا في الخلط بين مفهوم الشخص الواقعي والشخصية الورقية الخيالية، وهذا الخلط جاءنا من التقليد النقدي القديم الذي " عودنا على النظر إلى الشخصية كما لو كانت خلاصة من التجارب المعاشة أو المنعكسة، أي مزيجا من افتراضات المؤلف. وهذا الفهم هو الذي أدى في كثير من الأحيان بالقراء والنقاد إلى المطابقة بين المؤلف والشخصية التخيلية خصوصا في روايات ضمير المتكلم..."4

وباختصار، فقد ساهم الفكر والنقد الأدبي، على الخصوص، في بلورة ذلك الالتباس، إلى جانب التاريخ والكاتب، فانتشرت مقولات فكرية تحول الشخصية الحكائية إلى نموذج إنساني، مثل مقولة"عقدة أوديب" في علم النفس عند فرويد، وهي مقولة توهم أن " أوديب" نموذج إنساني أكثر من الإنسان نفسه..."5

ومن هنا، فالخلط بين الشخص والشخصية بين نقاد الرواية قد سبب في ظهور النقد الروائي التقليدي الذي ظل لمدة طويلة إلى يومنا هذا يحاكم المؤلف أو المبدع على ضوء حالة الشخصية الروائية الاجتماعية والأخلاقية، أو يقومها حسب وضعياتها النفسية الشعورية واللاشعورية، وذلك من خلال قواعد المطابقة والمقايسة والإحالة والانعكاس والمحاكمة الغيابية.

المقاربات التقليدية والشخصية الروائية:

نعني بالمقاربات التقليدية تلك المناهج النقدية التي تعتبر الشخصية إحالة مرجعية. فتلتجئ، بالتالي، إلى علم الاجتماع وعلم النفس في دراسة الشخصيات الروائية من خلال مقياس المحاكاة والإسقاط والمطابقة والانعكاس، وعقد التماثل الجدلي بين الشخصية الروائية والكاتب المبدع. فإذا أخذنا على سبيل المثال النقد المغربي يظهر لنا " أن النقاد أنفسهم في المغرب، على شاكلة غيرهم، قد ساهموا في خلق هذا الالتباس، فاعتبر بعضهم، ممن تناولوا روايات عبد الكريم غلاب وربيع مبارك ومحمد زفزاف... أنها روايات سيرة ذاتية باعتبار الشخصية فيها هي الكاتب، الشخصية تمثل الكاتب والكاتب يمثل طبقته... وعلى الرغم من أن كثيرا من الروايات المغربية كسرت هذا الالتباس كروايات أحمد المديني وبعض روايات محمد زفزاف ومحمد عزالدين التازي...فإن هذا التصور الإيهامي بوجود شخصية إنسانية تتحرك على الورق مازال مستحوذا..."6

ويعتبر أحمد اليابوري رواية " المعلم علي" في كتابه:" دينامية النص الروائي" ذات صلة قوية بالسيرة والسيرة الذاتية.7 ويعتبر رواية" لعبة النسيان" لمحمد برادة سيرة ذاتية تعكس بيئة الكاتب ومحيطها الضيق، وفي هذا الصدد يقول أحمد اليابوري:" ورأيت شخصيا في فترة معينة " أنها تتأرجح في بنيتها العامة بين السيرة الذاتية والرواية" ؛ لكن بدا لي بعد قراءتها من جديد، أنها لا تختلف عن جل الروايات المغربية، حتى لا نقول العالمية في انطلاقها من التجربة الشخصية، ومن موقع الذات للإطلال على الواقع بعوامله، وشخوصه، لتبني فضاءها الروائي الخاص".8

علاوة على ذلك، يحاول أحمد اليابوري في دراسته لرواية" المرأة والوردة" لمحمد زفزاف، ورواية " بدر زمانه" لمبارك ربيع، ورواية " اشتباكات" للأمين الخمليشي، تطبيق بعض المفاهيم الإجرائية للتحليل النفسي في مجال السرديات، من أهمها تلك التي قدمها فرويد في نظريته حول الجهاز النفسي ابتداء من سنة 1923م، وذلك لمحاولة الإجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة باللاشعور مقترحا التمييز في الشخصية بين الهو والأنا والأنا الأعلى، كما تمت الاستفادة، مع بعض التصرف في آن واحد، من إضافات (بيلمان نويل)، ومن البحث الذي أنجزه برولوت في الربط بين مستويات الشخصية ومحافل السرد.9

هذا، ويستنتج الناقد بعد عمليتي الفهم والتفسير أن الهو والأنا والأنا الأعلى أصوات سردية تتمظهر في النص الروائي، من خلال المواجهة بين مبدأي: الواقع والرغبة في " المرأة والوردة" و"اشتباكات" لمحمد الأمين الخمليشي، وبين الأسطورة والإيديولوجيا في " بدر زمانه" لمبارك ربيع، علما بأن الحلم يكاد يصير جزءا من واقع خرافي في الرواية الثانية10.

وهكذا يقول اليابوري عن رواية" المرأة والوردة" لمحمد زفزاف، وذلك باستخدام مفهوم المطابقة الحرفية والمباشرة التي تربط الشخصية الروائية بمبدعها وخالقها:" تبدو الشخصية الساردة صورة للكاتب الذي كثيرا ما يحاول إقناعنا، من حين لآخر، بأن كل ماحكاه يتصل بحياته الخاصة: شاب بوهيمي طالب سابقا، ناقم على أساتذته، تطابق صورته على غلاف الرواية صورة البطل في الرواية."11

هذا، وتحاول الناقدة المصرية اعتدال عثمان مقاربة رواية يوسف إدريس:" البيضاء" و" قصة حب" على ضوء النقد السوسيولوجي(البنيوية التكوينية)، مستعيرة مفهوم (البطل الإشكالي) من جورج لوكاش ولوسيان كولدمان، وذلك رغبة في البحث عن تجلياته وتمظهراته في روايتي يوسف إدريس، وذلك في مقالها القيم:( البطل المعضل بين الاغتراب والانتماء) 12، وتقول الباحثة المصرية:" والبطل الروائي صورة خيالية تخلقها بنية الكاتب الفكرية متضافرة مع موهبته، وتستمد وجودها من مكان معين وزمان معين، وتعكس علاقات البطل المتشابكة في العمل الروائي ظروفا اجتماعية وسياسية واقتصادية بعينها، تؤثر تأثيرا حيويا في تحديد هوية البطل ومصيره".13

إذاً، فالناقدة تنظر إلى الشخصية الروائية بمنظار انعكاسي على غرار الكتابات الماركسية والإيديولوجية العربية، والتي يمثلها كل من: محمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس، وغالي شكري، ومحمد برادة، وإدريس الناقوري، وحميد لحمداني، وحسين مروة، وجورج طرابيشي، ونجيب العوفي، وعبد القادر الشاوي، وأحمد اليابوري، الخ...

وعليه، فالمقاربة التقليدية كانت تربط الشخصية بكاتبها ومبدعها بناء على منطق الإحالة والمحاكاة كما في الدراسات الاجتماعية الساذجة، أو على ضوء الإسقاط النفسي كما في المقاربات السيكولوجية، أو بناء على الانعكاس الواقعي كما في المقاربات الواقعية الجدلية أو الأبحاث السوسيولوجية، أو بمراعاة خاصية التماثل الجدلي كما في البنيوية التكوينية.

المقاربات الحديثة والشخصية الروائية:

نعني بها المقاربات اللسانية والبنيوية والسيميوطيقية التي تناولت الشخصية في الرواية العربية باعتبارها علامة سيميائية ومقولة نحوية ولسانية14. ومن الأعمال الأولى في هذا الصدد نجد:"الألسنية والنقد الأدبي" لموريس أبو ناضر، والذي قارب فيها رواية " طواحين بيروت" لتوفيق يوسف عواد، وذلك من خلال تمثل البنية العاملية عند كريماس( الذات- الموضوع- المرسل-المرسل إليه- المساعد- المعاكس)، إلا أن الكاتب يخلط بين الفاعل والممثل والعامل، فيستعمل العامل Actant بمفهوم الفاعل والممثل Acteur، بينما العامل في الحقيقة هو الذي ينجز أدوارا عاملية على مستوى التركيب السردي من البنية السطحية، في حين نجد الفاعل أو الممثل هو الذي يقوم بأدوار موضوعاتية معجمية (تيماتيكية) على مستوى الخطاب، وقد يقوم بأدوار عاملية على مستوى السرد، وبهذا يكون الفاعل حلقة وسطى بين المكون السردي والمكون الخطابي، وإن كان الأفضل في اعتقادنا استخدام مفهوم الفاعل بدلا من الممثل؛ لأن هذا المفهوم يحيلنا مباشرة على الإنجاز والفعل والعمل.

وعليه، فموريس أبو ناضر كما قلنا سابقا يخلط منهجيا بين العامل والفاعل والممثل كما في هذا الشاهد النصي:" إن الممثل acteur كما يتبين، نصوغه، انطلاقا من وصف الوظائف التي تشكل هيكل القصة، من دون الأخذ بالاعتبار طبيعة الممثل. فقد يكون حيوانا أو إنسانا أو جنيا أو يكون فكرة، أو شيئا ما. كما أن صياغة الممثل لا تتم بناء على العواطف أو الميول التي تدفعه إلى القيام بهذا العمل أو ذاك، وإنما على أساس الأعمال التي يقوم بها، وما يترتب على هذه الأعمال من نتائج داخل السياق العام للقصة.

لكن تحديد الممثل في جزء من القصة قد يبدو سهلا، أما تحديده على صعيد القصة ككل فليس بالأمر السهل. ذلك أن الممثلين في القصة موضوع الدرس يشغلون دوائر أعمال متعددة. فالمعاكس في القصة كمثل على ما قدمناه يسيء للبطل، يعاركه، يلاحقه، أي إن المعاكس كعامل بنيناه على أساس قراءتنا الكاملة للقصة، وهو يتجسد فيها من خلال عدة ممثلين تختلف هوياتهم، ولكن وظيفتهم واحدة، وهي الإساءة.

إن تعدد الممثلين في القصة يربك التحليل، ويجعل عملية الإمساك ببنيتهم الأساسية أمرا عسيرا. لذلك، نلجأ إلى خفض عددهم، وتحويلهم إلى عوامل كي يتسنى لنا الكشف عن البنية المذكورة، الكشف عن عالم المعنى الذي يظللهم."15

ونذكر أيضا في إطار الدراسات النقدية المعاصرة التي قاربت الشخصية الروائية باعتبارها علامة سيميائية دراسة سمير المرزوقي وجميل شاكر، وهي تحت عنوان:" مدخل إلى نظرية القصة"16، وقد طبق فيها الدارسان المقاربة السيميائية على مجموعة من النصوص السردية والحكائية كالحكاية الفرنسية " اللحية الزرقاء" لبيرو، والحكاية الشعبية التونسية:" سبع صبايا في قصبايا"، وأقاصيص " بيت سيء السمعة " لنجيب محفوظ، ومقتطفات من رواية " برق الليل" للبشير خريف، ومسرحية " السد" لمحمود المسعدي. وهناك دراسة جزائرية أخرى لدليلة مرسلي وأخريات تحت عنوان:" مدخل إلى التحليل البنيوي للنصوص"، وهذا الكتاب بيداغوجي التوجه، وقد أنجز في الجامعة الجزائرية في شكل عمل جماعي في شعبة اللغة الفرنسية،17 ويتسم هذا الكتاب التطبيقي بالضعف على مستوى التعريب و الترجمة، وسوء استعمال اللغة العربية كتابة وصياغة، ويتميز هذا الكتاب العملي أيضا بالركاكة التعبيرية؛ مما أثر سلبا على عملية الإفهام والتبليغ.

ولا ننسى دراسات سيميائية قيمة أخرى حاولت دراسة الشخصية الروائية سرديا، وذلك من خلال شكلنة الدلالة، والبحث عن آليات انبثاق المعنى كما في كتاب " سيميائية الكلام الروائي" لمحمد الداهي الذي حاول دراسة رواية" برج السعود" لمبارك ربيع، ورواية"ذات" لصنع الله إبراهيم، و" شطح المدينة" لجمال الغيطاني، و"الضوء الهارب" لمحمد برادة، على ضوء سيميائية الكلام، مستفيدا في ذلك من سيميائية العمل وسيميائية الأهواء، مع تقسيمه لدور الفاعل إلى الدور العاملي والدور التيماتيكي والدور الانفعالي والدور التلفظي للفاعل الروائي.18

ولا ننسى أيضا دراسة عبد المجيد نوسي " التحليل السيميائي للخطاب الروائي"، حيث قدم الدارس مقاربة كريماصية في تحليل رواية" اللجنة" لصنع الله إبراهيم سردا وخطابا، وذلك بالتركيز على البنيات الخطابية والتركيب والدلالة19، وفي هذا الصدد نستحضر أيضا عبد الرحيم جيران الذي حاول بدوره أن يقارب نفس الرواية على ضوء سيميائية التركيب والخطاب. أما عبد اللطيف محفوظ فقد انطلق من تصور سيمائي في مقاربة روايات نجيب محفوظ كما في كتابه:" آليات إنتاج النص الروائي"20، في حين حاول سعيد بنكراد مقاربة رواية " الشراع والعاصفة" في أطروحته الجامعية" تحليل سردي وخطابي لرواية حنامينه(الشراع والعاصفة)"21، ونستحضر في هذا الإطار أيضا عبد المجيد العابد الذي تناول الشخصية الروائية سيميائيا وأيقونيا كما في دراسته الجادة:" مباحث في السيميائيات"22، و نستدعي كذلك كتاب" بنية الشكل الروائي" لحسن بحراوي الذي استفاد فيه من سيميولوجية الشخصية كما لدى فليب هامون فصنف الشخصية في الرواية المغربية على ضوء ثلاثة نماذج: نموذج الشخصية الجاذبة (نموذج الشيخ/ نموذج المناضل/ نموذج المرأة)، ونموذج الشخصية المرهوبة الجانب (نموذج الأب/ نموذج الإقطاعي/ نموذج المستعمر)، ونموذج الشخصية ذات الكثافة السيكولوجية (نموذج اللقيط/ نموذج الشاذ جنسيا/ نموذج الشخصية المركبة).23

وما يلاحظ على هذه الدراسات الحديثة في مقاربة الشخصية الروائية أنها تعتمد على الانتقائية والتوفيقية والتلفيقية، فمثلا عبد المجيد نوسي يجمع بين نظرية العوامل لكريماص ونظرية الكوارث لروني طو، ومحمد الداهي يجمع في دراسته بين سيميائية العمل وسيميائية الأهواء وسيميائية الكلام. كما نجد تباعدا منهجيا بين الفرش النظري العميق والتحليل التطبيقي الذي يسقط في غالب الأحيان في البساطة وتحصيل الحاصل، ناهيك عن الخلط بين المفاهيم والمصطلحات السيميائية، ولاسيما المتعلقة بالعامل والفاعل والممثل في أغلب الدراسات السيميائية، وخاصة عند موريس أبو ناضر. زد على ذلك النظرة التجزيئية في التعامل مع بعض المفاهيم المنهجية والمصطلحات الإجرائية، وذلك عن طريق اقتطاعها من سياقها الإبستمولوجي الخاص بها، واستثمارها في سياقات أخرى منافية كما في كتاب"مدخل إلى نظرية القصة" لسمير المرزوقي وجميل شاكر، علاوة على تغريب المصطلحات والمفاهيم السيميائية واللسانية، وتعريبها بطريقة مشوهة أو ترجمتها ترجمة حرفية بعيدة عن القواعد العربية الصحيحة في مجال الاشتقاق والتوليد والنحت والتعريب. كما تتخذ بعض الكتابات السيميائية طابعا بيداغوجيا في شكل تمارين بسيطة ينقصها العمق والدقة الكافية كما هو حال كتاب" الألسنية والنقد الأدبي / في النظرية والممارسة" لموريس أبو ناضر أو كتاب " مدخل إلى نظرية القصة " لسمير المرزوقي وجميل شاكر... ويلاحظ أيضا أن أغلب هذه الكتابات السيميائية العربية لم تساهم في طرح مشاريع سيميائية جديدة تنضاف إلى ما أتى به كريماص أو كورتيس أو جاك فونتاني، باستثناء بعض الأبحاث والدراسات التي تعد على الأصابع كالعمل القيم الذي أنجزه محمد الداهي:" سيميائية الكلام"، وذلك حينما أسس لسيمائية جديدة خاصة بالكلام والتلفظ والإقناع والحجاج، وفي ذلك يقول الباحث المغربي محمد الداهي:"تقر سيميائية العمل بوجود مسافة بين الذات والعالم، وتستلزم البعد المعرفي لبرمجة مشروع الذات من أجل تحقيق المبتغى. في حين أن سيميائية الهوى تهتم بالحالة النفسية وما يعتريها من مشاعر وانفعالات وأهواء. ولما يشعر المرء ويحس تنعدم المسافة بين الذات والعالم. إن العالم بوصفه حالة للأشياء ينسخ في حالة الذات، أي إنه يدمج من جديد في فضائها الداخلي والمفرد. ويندرج مشروعنا في إطار افتراض وجود حالة كلامية تتدخل للصدع بما يوجد في الحالة النفسية، وبيان تحركات الذات وبرامجها في الواقع. قد نتوهم أنها حالة وسطى بين الحالة النفسية وحالة الأشياء، وتتحدد أساسا من خلال الثنائية الأصلية: الصمت/ النطق. وبما أننا نتعامل مع الكلام بوصفه فضاء يحتاج إلى إعادة بنائه سيميائيا، فإن علاقته بالحالتين السابقتين تتشخص على النحو التالي:

هوى←كلام←فعل

فعل←كلام← هوى

فعل←هوى←كلام"24

وثمة دراسات سيمائية أخرى جادة قي العالم العربي كدراسات الباحثين الجزائريين: عبد الحميد بورايو حول الحكايات الشعبية (كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة)25، والسعيد بوطاجين الذي قدم مجموعة من الأبحاث السيميائية حول السرد بصفة عامة والرواية بصفة خاصة.

q اقتراح جديــد لدراسة الشخصية الروائية:

حينما نريد دراسة الشخصية الروائية دراسة علمية وموضوعية، فلابد من تحديد المقاطع النصية والمتواليات والفقرات التي تتوزع إليها الرواية وصور الشخصيات، وذلك اعتمادا على معايير طبوغرافية وأسلوبية وفضائية ودلالية وعنوانية وشخوصية. وبعد ذلك، نحدد بنية الأفعال والحالات والتحولات على ضوء البنية العاملية. و من ثم، ننتقل إلى تحديد صورة الفاعل على ضوء أدوراه التي يشغلها داخل النص الروائي، وذلك بالتركيز على الدور العاملي، والدور الموضوعاتي، والدور الانفعالي الاستهوائي، والدور الكلامي ( ثنائية الصمت والنطق)، مع تحديد التشاكلات السيميولوجية والدلالية التي تتحكم في صور الشخصية المعجمية، وإرساء المربع السيميائي لمعرفة البنيات الأصولية التي تتحكم في تحريك الشخصية على مستوى الجهات والبرامج السردية، وتطويعها دلاليا على مستوى السرد والخطاب.

ولكن لا نقف في دراستنا عند هذا الحد، بل لابد من مقاربة الشخصية على مستوى الدال والدلالة، فنركز اهتمامنا على عملية التصنيف العلاماتي للشخصيات الروائية كما فعل فليب هامون، وذلك حينما صنف الشخصيات السردية سيميائيا إلى الشخصيات المرجعية، والشخصيات الواصلة، والشخصيات التكرارية. وبعد ذلك، نبحث أسلوبيا في صورة الشخصية عبر استخلاص آليات التشخيص الروائي كتحليل اسم العلم، والتمييز بين الضمير الشخصي وغير الشخصي، ودراسة الوصف الشخوصي من خلال أبعاده الخمسة: البعد الفيزيولوجي، والبعد النفسي، والبعد الأخلاقي، والبعد الاجتماعي، والبعد الأيقوني، وتبيان تقنيات الوصف من نعوت وصفات وأحوال وتمييز ومفاضلة وبلاغة وإيحاء ورمز. ثم، ننتقل إلى رصد طبيعة المنظور السردي الذي شغله الكاتب في تقديم الشخصية، و عرض الطرائق المباشرة وغير المباشرة في تقديم الشخصية من قبل الراوي أو من قبل الشخصية ذاتها أو من قبل الشخصيات الأخرى، وتحديد موقع الشخصيات الرئيسية والثانوية داخل الرواية، وذلك بغية معرفة أهميتها البؤرية، وتبيان قيمتها الوظائفية والوجودية، والتمييز بين الشخصيات النامية والثابتة، ورصد مقدار المعلومات التي تقدم حول الشخصي، وتوضيح مصدر هذه المعلومات، مع رصد جميع المميزات التي تميز الشخصية البطلة أو الرئيسية بالمقارنة مع الشخصيات الأخرى. ومن الأفضل كذلك أن ندرس في البداية صورة الشخصية في مقاطع منعزلة، إلى أن نستجمع دلالاتها داخل الصورة الكلية للرواية، فننكب بعد ذلك على دراسة صورة الشخصية لغويا ونحويا وبلاغيا وصرفيا ودلاليا وتداوليا، وذلك لمعرفة مظاهر فنيتها وجمالها، واستجلاء منازعها الإنسانية.

وينبغي في الأخير أن نربط تلك الصور الدالية والدلالية بالمرجع الواقعي والاجتماعي والتداولي، وذلك بالبحث عن رؤية الشخصية للعالم، والتساؤل عن الجديد فيما تقدمه هذه الشخصية الروائية على المستوى الفلسفي والواقعي والإنساني.
تركيب استنتاجي:

يتبين لنا، مما سبق ذكره، بأن النقد العربي كان يدرس الشخصية الروائية في بداية انطلاقه منذ العقد الثالث من القرن العشرين دراسة تقليدية ساذجة قائمة على التشبث بمفهوم الإحالة المرجعية، حيث كان يطابق بين الشخصية الروائية ومبدعها أو كاتبها، وذلك بالاعتماد على مفهوم المحاكاة المباشرة والمطابقة النفسية أو الواقعية أو تمثل مفهوم التماثل الجدلي أثناء ربط الأدب بواقعه فهما وتفسيرا.

بيد أن الدراسات البنيوية الشكلانية والسيميائية الحديثة والمعاصرة بدأت مؤخرا تدرس الشخصية الروائية على ضوء مفاهيم جديدة تحيلنا على النحو والصرف واللسانيات والعلامة السيميائية. إلا أن هذه الدراسات العلمية الجادة مازالت لم تقدم لنا إجابات مقنعة وحلولا إجرائية ناجعة نظريا وتطبيقيا لمقاربة الشخصية الروائية من جميع جوانبها، أي من خلال الإحاطة بالدال والمدلول والمرجع.
الهوامش:
25 - محمد أقضاض: (الشخصية الروائية بين المنظور الكلاسيكي والمنظور الحداثي" أيها الرائي" متنا)،مجلة فضاءات مغربية، العدد:الأول، شتاء 1995م، ص:85؛

2- رولان بارت وآخرون: الأدب والواقع، ترجمة: عبد الجليل الأزدي ومحمد المعتصم،، تينمل للطباعة والنشر، مراكش، الطبعة الأولى سنة 1992م؛

3- محمد أقضاض: (الشخصية الروائية بين المنظور الكلاسيكي والمنظور الحداثي" أيها الرائي" متنا)، ص:86؛

4 - حسن بحراوي:بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،المغرب، الطبعة الأولى سنة 1990م، ص:212؛

5 - محمد أقضاض: (الشخصية الروائية بين المنظور الكلاسيكي والمنظور الحداثي" أيها الرائي" متنا)، ص:86؛

6- محمد أقضاض: (الشخصية الروائية بين المنظور الكلاسيكي والمنظور الحداثي" أيها الرائي" متنا)، ص:86؛

7- د. أحمد اليابوري: دينامية النص الروائي، منشورات اتحاد كتاب المغرب،الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1993م، ص:36؛

8- د. أحمد اليابوري: دينامية النص الروائي، ص:56؛

9- د. أحمد اليابوري: دينامية النص الروائي، ص:67؛

10 - د. أحمد اليابوري: دينامية النص الروائي، ص:68؛

11- د. أحمد اليابوري: دينامية النص الروائي، ص:70؛

12- اعتدال عثمان: ( البطل المعضل بين الاغتراب والانتماء)، مجلة فصول، مصر، المجلد الثاني، العدد:الثاني، سنة 1982م؛

13- اعتدال عثمان: ( البطل المعضل بين الاغتراب والانتماء)، ص:91؛

14- راجع: توفيق الزيدي: أثر اللسانيات في النقد العربي الحديث، الدار العربية للكتاب، الطبعة الأولى سنة 1984م؛

15- د.موريس أبو ناضر: الألسنية والنقد الأدبي / في النظرية والممارسة،ص:63؛

16- سمير المرزوقي وجميل شاكر: مدخل إلى نظرية القصة، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر، الدار التونسية للنشر، الطبعة الأولى سنة 1985م؛

17- دليلة مرسلي وأخريات: مدخل إلى التحليل البنيوي للنصوص، دار الحداثة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1985م؛

18- د. محمد الداهي: سيميائية الكلام الروائي، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 2006م؛

19- د. عبد المجيد نوسي: التحليل السيميائي للخطاب الروائي، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2002م؛

20- د. عبد اللطيف محفوظ: آليات إنتاج النص الروائي، منشورات القلم المغربي، الطبعة الأولى سنة 2006م؛

21- د.سعيد بنكراد: تحليل سردي وخطابي لرواية حنامينه(الشراع والعاصفة)، أطروحة جامعية مرقونة بكلية الآداب مكناس، 1991م؛

22- د. عبد المجيد العابد: مباحث في السيميائيات، دار القرويين، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 2008م؛

23- حسن بحراوي:بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،المغرب، الطبعة الأولى سنة 1990م؛

24- د. محمد الداهي: سيميائية الكلام الروائي، 34؛

25- راجع: عبد الحميد بورايو: التحليل السيميائي للخطاب السردي، دار الغرب للنشر والتوزيع، الجزائر، الطبعة الأولى سنة 2003م، ودراسة القصص الشعبي في منطقة بسكرة، الطباعة الشعبية للجيش، الجزائر، الطبعة الأولى سنة 2007م؛ وكتاب: المسار السردي ونظام المحتوى، دراسة سيميائية لنماذج من حكايات ألف ليلة وليلة، إشراف الدكتور عبد الله بن حلي، نوقشت سنة1996م، معهد اللغة العربية وآدابها، جامعة الجزائر، أطروحة مخطوطة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى