الأحد ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم توفيق عابد

موسى حوامدة: رفض التدجين لعنتي و شجري لم يعد أعلى

يمتشق سيف القصيدة ويرفض التنازلات في المواقف، وقصصه القصيرة ودواوينه ترنو إلى الحق والتذكير بتحديث الأفكار، ويحارب بفروسية مذهلة المقولات التاريخية والدينية لاغتصاب الحق والحقيقة والحقوق.

هذا باختصار موسى حوامدة الشاعر والكاتب والقاص الذي يثير الغبار والاندهاش في نتاجاته الأدبية ابتداء من مجموعته القصصية ’’خباص الضايع’’ إلى ديوانيه الأخيرين ’’شجري أعلى’’ و’’من جهة البحر’’، ورغم معاناته التي وصلت الى أروقة المحاكم ومشواره الذي لم يكن مفروشا بسجادة حمراء بقي عنيدا شامخا كعناد قريته ’’السموع’’ في محافظة الخليل.

استنطقناه على طريقة الصحفي المحقق وقال لـ "دنيا الاتحاد’’: ’’لن استكين ولن أركع مهما كان الثمن وسأبقى مدافعا بقلمي وقصائدي عن الحقيقة والحق؛ فليس من المعقول الاستسلام كما يجري الآن لمنطق مقولات تاريخية لتسويق الأمر الواقع في وطن الأجداد والأباء’’.

الحديث مع موسى حوامده صاحب ’’أسفار موسى - العهد الأخير’’ الديوان الذي جعله نقيضا للتوراة والذي ترجمت بعض قصائده للإنجليزية والفرنسية والألمانية والرومانية كان ساخنا ولم يكن سهلا، فهو لا يقبل أن يكون في المنطقة الرمادية أبدا أو متفرجا على الأحداث بل مشاركا ومشاكسا وفي المقدمة غالباً.

ـ بداية اسمح لي بطرح سؤال قد يكون محرجا حول شخصيتك التي تثير التساؤلات؟

ـ أنا ابن فلاح فلسطيني ولد وعاش ومات في قرية شهدت مثل غيرها من مدن وقرى فلسطين الهيمنة والنكبة والاحتلال، لكن الطفل الذي لم يهرب مني بعد، شهد تهدم مسقط رأسه مرتين على يد الجيش الاسرائيلي، فقد درست في خليل الرحمن والتحقت بالجامعة الأردنية وسجنت هناك وهنا حيث أعيش الآن. واكتشفت أن ضياع فلسطين لم يأت بالصدفة او بسبب وعد بلفور فقط، فهناك تداعيات بعيدة عبر التاريخ انهالت على رأسي فكلما كنت أفكر بزرع شتلة بين صخور حقلنا كانت تصدني تواريخ ومستوطنات وعصي وهراوات. وأحسست كثيرا أن علي أن أنظف الوسخ والعفن وتزوير العصور اذا أردت أن أسكن في غرفة على قمة جبل في بلدتي.

وبصراحة أقول إنني عاجز عن معرفة نفسي، ربما أكون غيمة لم تتشرب الأرض مياهها، أو ذرات من جبال الخليل والقدس، أو حفيد الفارابي أو السهروردي أو الحلاج المقتولين، ففي داخلي عشرات الأشخاص والذكريات والأبطال والهزائم لذا فأنا مجرد فكرة عابرة لن تتوقف عن التلاشي.

وقعتُ ... فتهتُ

ـ لماذا هربت من فيء القصة الساخرة إلى جنون القصيدة؟

ـ وقعت في جب الشعر وحاولت العثور على شيء من الماضي الذي يتناسل أمامي فتهت اكثر، وبحثت عن شيء يحمل جسدي فوق غيوم الحرية ويعلي شجري فوق سحاب القصيدة فلم تحتملني، وأسلمت عنقي للجلادين. لم أرتكب معصية تليق بالجنون أكثر من محاولة التعرف على داخلي وما هذا الذي نقرأ ونجتر!

فقد وقعت في غواية الريح قبل اليابسة حتى إذا ما رفعت يدي احتجاجا على طريقة تزفيت القلوب وحشو الرؤوس انفجرت أوكار لا يعنيها التفكير بل تريد تطبيق قواعد السير والمرور على فضاء الشعر والأسئلة وصهيل الخيول. هكذا وجدت أن العفن في دم الكلمات نفسها وان الطريق المتبع للنجاة من خمر الشعر هي عقلنة الجنون وتحنيط الوعي. أنا ركام من حقائق مزيفة ودعاوى من طرف واحد ووجهات نظر لا تتبع المنطق، لذا وقعت في شرك الحياة نفسها وتعثرت بالغيوم التي تطلع من رأس البحر ولا تريد سكب مائها مجانا فوق سفوح قاحلة وغابات عارية.

ورغم ذلك أقول إن الخضرة التي تسري في عروقي ما تزال تنبض وتخضر وتقوى، واليوم صارت شجرا متجذرا وان لم ترتفع بعد عالياً كما يليق بالسماوات والقصائد لكنها لم تجف ولم تنكسر فتربتي لا تزال صالحة للزراعة.

شجري ليس من حديد!

ـ بصراحة بعد معاناتك ووقوفك أمام المحاكم أما زال شجرك الذي تتباهى به عاليا؟

ـ بكل صدق وصراحة لقد صار أقوى وأعمق لكنه لم يعد عاليا، فمجموعتي من جهة البحر كدت أسميها ’’تهاوت أشجار السماء’’ لأنني لست مستعدا لدفع فواتير من لحمي أكثر مما دفعت ليظل شجري عاليا تناله الحجارة حين تلوذ به العصافير، فقد تهاوى شجري بين يدي فليس هناك ربيع دائم او خريف مقيم لكن روح الشعر التي تسكن الطين تواصل ضخ مائها في عروق الشجر الذي إن سلم من الحاقدين والجهلة سينمو بحرية فالقصيدة لا تفصّل حسب جسد المشتري. ولو كان شجري من الحديد لما هزته الريح لكنه طبيعي يتأثر بالشمس والمطر ولأنه شجري فلا ينبت الا بيدي، وفي ترتبتي وحقولي ولن أتخلى عنه مهما كانت خسارتي. وما زلت أقول بصوت مرتفع أن أهمية الشعر ليست بعذوبته وجماليته فحسب بل بإدهاشه وتحريضه وانطلاقه الى فضاءات جديدة رغم الحواجز.

ـ ما الذي حققته من القصيدة وخاصة بعد ديوانك ’’من جهة البحر’’؟

ـ القضية بالنسبة لي ليست تجارة تخسر او تربح، فقد حققت بعد هذه الدواوين بعضا من بحثي عن ذاتي وربما لم اكتشف شيئا بعد لكنني ما زلت احمل النار التي يفر منها كثيرون. ولا أسعى لهؤلاء المرجفين من سطوة القصيدة فالقلة التي تعرف حرارة اللهب أنفع من كثرة لا تقيم وزنا للاشتعال، فالأمر لن يوقفني عن حمل قبسي لأن قدري أن اقبض على النار وليس من مهامي توزيعها في الساحات العامة.

ـ ديوانك ’’أسفار موسى’’ يرد على الوعد التوراتي الذي استلب فلسطين ما هو تعليقك؟

ـ هذا صحيح تماما. ربما هي محاولة لتشكيل وعد شعري فأنا أعارض بقوة أن تقدم بلادي على طبق من ذهب لأي شعب غيري، وليس من حق أحد أن يستلبني (فلسطيني) لأن أحدا مر منها او أقام فيها، أذكرْ لي نبيا واحدا لم يتنزل في أرضي. كلهم حتى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام اختارها أولى قبلته وسرى وعرج من القدس فلماذا أخذوا حريتي لمن مروا واستباحوا فضائي وجبالي؟

أريد وطنا عاديا مثل بقية أوطان البشر كي انعم بشمسه وسهوله وبحره، فمن حقي أن اخلق توراتي الجديدة وامنح نفسي كل الوعود التي تعيد مسقط الشمس لي... فهل يمكن أن نرى الجغرافيا كما هي لا كما يظنها غيرنا... أنها مجرد ارض عادية لشعب بسيط تجري محاولات اقتلاعه بألف وسيلة ووسيلة.

ـ كيف تنظر إلى موقعنا في الأردن وسط الساحة الثقافية العربية؟

ـ لا أدري على من يعود ضمير الجماعة في ’’موقعنا’’، على كل لا يحتاج الأمر إلى تعليل وشرح فالعرب أنفسهم لا يضعون الثقافة في أدنى درجات الاهتمام الرسمي ولا حتى الشعبي. رسميا هناك وزارات ثقافة لغرض (تقييف) الثقافة على المستوى السياسي ومن وجهة نظري هي أشبه بمكاتب دعاية وإعلان، ولو كانت الثقافة مرتبطة بوزارات الإعلام مباشرة لكان ذلك أفضل ولاستطعنا أن نفسرعملها ومغزى الاهتمام أحيانا ببعض النشاطات الثقافية من باب الإكسسوار والديكور. أما شعبيا فالوعظ والإرشاد يطغى على الساحة والناس يحتقرون في أعماقهم الثقافة والفن ويتعاملون معهما كشيء نشاز أو جالب للشر والنحس، ويحبون ثقافة الصورة والإعلان والفيديو كليب والمسلسلات التلفزيونية، ويظنون أن ذلك يشكل ثقافة بديلة، ومع طغيان الأنترنت ومواقع المنتديات الكثيرة يعتقد البعض خطأ أن الإنترنت هو بديل مناسب للكتاب ويشكل وسيلة للتثقيف!

وفي كل الاحوال نحن ظاهرة صوتية نحب الخطاب العالي والعشائري، وفي العمق أهملنا كل المشاريع الثقافية والتنويرية التي كان يمكن لها أن تبشر بمولد عصر نهضة معين وبالتالي ليس مستغربا أن تكون الثقافة مهمشة وذليلة وتابعة أو منبوذة. وهذا الوضع ينطبق على الأردن وفلسطين وعلى باقي أقطار الوطن العربي وإن كانت هناك بعض الخدوش المتميزة هنا وهناك لكن ذلك لا يشكل ولن يشكل عصرا جديا أو مفيدا، لذلك يعود الكثيرون للماضي ظانين أنه وسيلة لشحن الهمة بينما يصبح الماضي سجانا ولا يطلق سراح المسجونين فيه.

على من تقرأ مزاميرك؟

ـ الملاحظ أن الصراع حسم لمصلحة السياسيين ضد المثقفين، ماذا تقول؟

ـ هل كنت تراهن على انتصار المثقفين؟! كيف يمكن لهم ذلك وجزء كبير منهم ينكمش بين يدي السلطة وتحول إلى موظف ومنافح عن سياساتها؟ وكيف يمكن لما تبقى من مثقفين حقيقيين أن ينتصروا ضد دول تأسست على القمع والمنع والحرمان وازدراء الثقافة وإقصائها. وحتى لو كانت المعركة مع المجتمعات والأصل ان تكون بها ولها لكنها في عالمنا تصير هكذا فأنت تود مواجهة السلطة فتسقط في براثن المجتمعات العشائرية والمجهلة فتصبح بين المطرقة والسنديان، خاصة إن كنت تؤمن أن رسالتك موجهة بالدرجة الأولى لمجتمعك وللناس الذين تتحول بين أيديهم الأفكار إلى أعمال وسلوك ويقودون التغيير، أما وقد صرت هدفا للطرفين فعلى من تقرأ مزاميرك يا داود؟ ولمن تتلو نشيد إنشادك؟ لا أبالغ اذا قلت لم يهزم المثقفون فقط بل لم ينجحوا في معركة واحدة ولكن الهزيمة لم تكن لهم وحدهم بل لكل فئات المجتمع، فليس انتصارا حين تقمع مثقفا بل النصر حين تطلق له نوافذ التعبير وتجعله يتفيأ ظلال الحرية.

ـ يصفك البعض بالمشاكس وتغرد دوما خارج السرب، بماذا تعلق؟

ـ لا احب السير مع القطيع حتى لو كان جهة النهر المقدس، فالإجماع دائما سطحي والنفور من العبودية أمر طبيعي لمن يملك مساحة من الخيال على الأقل، لذلك لا أقبل التدجين ولم أعود نفسي عليه ولم أنسرب ولو مع خلية نحل منتظمة فما بالك بالواقع الفوضوي والمتردي الذي نعيشه، هل يشبه شيئا حتى من نظام النحل وحده؟ كما أنني طبعت على ذلك منذ الصغر ولعلها لعنة حلت علي من فعل يدي لكني لا أشكو منها بل أحملها بثقة كما تعهد بروميثيوس بحمل النار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى