الاثنين ٤ أيار (مايو) ٢٠٢٠
بقلم أحمد بلحاج آية وارهام

مِنْ طَبِيعَتِهِ إِفْسَادُ مَا يَقَعُ تَحْتَ يَدَيْهِ

تحت سقيفة من الهدوء جلستُ، متأمِّلاً أعماقي في مرآة الغروب، وكأنني نَسْرٌ منهَكٌ من التَّحْوِيم في الأعالي بأجنحةِ الخيبةِ.فقد قضيتُ يومي كله متململاً، ضجِرا، متألِّماً، شاكّاً في أنفاسي وفي وجودي، متسائلاً عن غاية جلوسي هنا، وما الذي يبقيني فيه؟! هل يكون طعْمُ الوحدة مُشتَقّاً من طَعْم الوهْم؟! عاجزٌ أنا عن تَخيُّلِ كيفَ سأحتملُ حالتي هاته.

بدأتُ بالبكاء، واستَنَدَتْ روحي على روحي، خوفاً من الارتعاش المُشتعِلِ بالانفجار، وخُيِّلَ لي أن الحياة بلا حُبٍّ شَرابٌ مَسمومٌ لا حاجةَ لي به، ومع كل ما لَديَّ من مالٍ أحسَستُ بأن تقديري لذاتي قد اختفَى، وبأن الأشياء تنظرُ إليَّ بإشفاقٍ، ثم تَزْورُّ عني مُخرِجةً ألسنتَها استهزاءً، وارتَفعَ نشيجي، وأدركتُ أنه أيّاً كان عَددُ أصابعِ عقلي، فإني لن أكتب إلا بأصابع يدي نكايةً في هذا العقل القِرْدِ الذي أَوْصَلَني إلى ما أنا فيه الآن (قلتُ ذلك بصوتٍ مرتفعٍ كعمودِ دُخانٍ صاعدٍ في السماء.)

 العقل القرد؟! ما هذا أيها الرجل؟ أقَبَّلَتْكَ في شرودك لوثَةُ فاتنةٍ فاغمةٍ؟!

وانتبَهْتُ؛ على صوت الصديق الذي كان يُجالسُني في السقيفة؛ إلى نفسي،وتمتمتُ:

 إن الأمر لكذلك،ولا تجادلْنِي في الذي أَوْرَدَنِي هذا المَوردَ.

 دائماً تُغْرِبُ.

 إنما العقلُ القِردُ هو الذي يُغْرِبُ.

 وما هو هذا العقل أيها المُثْخَن بالحِكمة؟!

 إنه هو ذلك الجزء الذي لا يعرف أبدا الراحةَ في داخلنا،يَنطُّ كقرد من غُصنِ شيءٍ، إلى غُصنِ شيء آخرَ، ومِن النقيض إلى النقيض، لا يكُفُّ عن الثرثرة، ولا يَرضَى بأمرٍ ولا عنه، هو دائما خائفٌ ومترقبٌ ومتلهفٌ، من طبيعتِه إفسادُ ما يقَع تحت يديه، وإطلاقُ الأحكام من غير تَروٍّ، لا يُعجبُه شيءٌ ولو كان أجملَ من الجمال، فهو نهرٌ من النقد والرفض جارفٌ، يقتنع بنفسه، لا بسواه، ويرى أن الحق معه أينما تحرَّك وقفز.ألا تر ى أن الحياة تحت ظل كائن كهذا تصير أصغر وأضيقَ وأبأس؟!.

 معك كل الحق،واعذرني إن تركتُ صحبةَ مَنْ عقلُه كهذا العقل، ثم سلَّم ونهضَ مُردِّداً:

(إِذا جُهِل السؤالُ،فإنَّ فيما
تَراهُ إِجابةً عِلْمُ السؤالِ
رأيتُ عَمىً تَكَوَّن من عماءٍ
وأين هُدى البيان من الضَّلالِ
إذا عاينْتُ ذَا سَير حثيثٍ
فذاك السيرُ في طلب النوالِ
ألَا إنّ الكمال لمن تَرَدَّى
بأرديةِ الجلال مع الجمالِ
فيَفهمُ ما يَكُون بغير قولٍ
ويَعجَزُ فهمُه عند المقالِ
لو أن الأمرَ تضبطُه عقولٌ
لأصبَح في إِسارٍ غَيرِ والِ
وقَيَّده اللبيبُ وقَيَّدتْهُ
صروفُ الحادثات مع الليالي
فإن الأمر تقيِيدٌ بوجهٍ
وإطلاقٌ بوجهٍ باعتلال)*

فخمَّنْتُ أن الوسوسةَ بدأتْ تأكله،وأنه لن يتذَّوَّق فاكهة النوم، فالكثيرون منا ينامون عندما يتعبون، والكثيرون ينامون لينسَوْا عالمَهم المؤلمَ، أو ليذُوبوا في أحلامٍ لا أرجلَ لها. ولكنَّ مَنْ نفَشَ فيه ماعزُ الوسوسة لن يغتسل بالنوم قطُّ.

وكلما نمْنا بعُمقٍ أكثر زادت قُدرتُنا،ليس على معرفةِ ما نُريده فحسب، بل وعلى السعي إليه بإرادةٍ أقوى، وشكلٍ أوضح،دون أن نَتَسَوَّلَه من أحدٍ، فالحياة ليستْ منحةً إلا من الخالق، وعلينا أن نُدرك أننا لسنا متسَوِّلين فيها تحت أي ظرف. وإذا كنا نمضي عبْر سنواتِ وجودِنا على هذه الأرض إلى الأحبَّة والأصدقاء والأقرباء، فليس معنى ذلك أننا نشْحذ منهم شيئاً، حتى عندما يُصيبنا القلقُ والضيقُ، وإنما غايتُنا أن نتأكد أنهم أسوياءُ، وأنهم غيرُ مَرضَى، وأن أسلوبهم في الحياة هو الذي يُثْبتُ ذلك، فالتصرف بأساليبَ مريضةٍ هو الذي يُصَيِّرنا مَرْضَى..مَرْضَى الجشعِ الذي يُسيِّرنا بالعقلِ القِرْدِ، فنخضعُ له وهو مُمْعِنٌ في ثَقْبِ أرواحنا دون هوادة، الأمرُ الذي نُصْبِح معه من دون الشعور بالأمان والرضا، وساقطين في هُوة اليأسِ، بعد تحقيقِ ما دَفَعَنا إليه من أهدافٍ، ومُستَحمِّين في فراغٍ عميقٍ قارسٍ كبُحيرةِ العدمِ. وبقَدْرِ ما يَقلُّ رضانا يَزيدُ يَأسُنا.

خرجتُ من السقيفة، فألفيتُ صاحبي رابضاً بالقرب منها، رمَقَني بحِدةٍ، ووضعَ كفَّه على كَتفِي،فشعرتُ بدِفْءِ المحبَّة يسري في جسدي،وقلتُ له:

ـ تعالَ نتعاونْ على فَكِّ ذاتَيْنا من أَسْرِ هذا العقل القرد، فنحن معتقلان لديه، حتى ولو تظاهرْنا بغير ذلك، فكُلُّ شخصٍ فيه عقلٌ قردٌ، وإن لم نعمل على إخراج هذا الطاغية من رؤوسنا سنكون كمن( يبكي من العطش وهو في وسَط الماء).

ـ انشغلنا عنه بالتحدُّث عن عالَمِ الشكل،وعالَمِ الفراغِ، وعالم البَشَر، ونَسِينا مفاعيلَه المستترةَ فينا، والمتلاعبةَ بنا. ولم ننتبهْ إلى أن كل الأشياء تنتهي إلى فَراغٍ، وأن كل فراغٍ يَتَحوَّل إلى شكلٍ، وبينهما نسعى ظانِّين أننا سنَقْتَرِن بالسعادة، وما هي إلا معاناةٌ تَتَشَمَّسُ في دواخلنا.

ـ حقا،لقد رَكِبَنَا وَهْمُ امتلاكِ العقل، فتُهنا في غابةِ الأشياء.

عانقتُ صاحبي كأني لن أُعانقه مرة أخرى، وكأننا لن ننظر إلى ما وراء الحياة، حيث لا يمكن أن نخسر أي شيء. وعندما نفهم هذا، ونُوقِف التعلقَ بذواتنا يختفي العقلُ القِردُ، وتَبدَأُ المُعاناةُ في الانحسار.

انظرْ إلى الربحِ والخسارةِ بعينيِ العَدَمِ، لا بعينيِ الوجودِ، واعْتَبرْهُما لا مِنْ ذاتك، وتخَلَّ عنهما إلى الأبد، تَكُنْ في الكون أسعد.

*ابن العربي الحاتمي: الديوان الكبير، تحقيق ودراسة وتعليق: عبد الإله بن عرفة، ط1، دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت 2018م،227/4


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى