الأربعاء ٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٨
بقلم وديع العبيدي

نحو علم اجتماع عربي..

(1)

علم الاجتماع -اصطلاحا-، هو بحث ودراسة تعنى برصد الظواهر الاجتماعية العامة والخاصة، وتحري دوافعها ونتائجها وانعكاساتها على المديات المختلفة. فالعلم النظري هو محدث، ولكن الظواهر الاجتماعية قديمة.

وإذا اعتبرت بعض الظواهر محدثة، فأن الاجتماع البشري/ الحيواني قديم جدا. ومعنى (قديم) –هنا- هو: غير معروف، ولا يمكن التكهن به. والمجال الذي يتعرض لقدمية الأشياء والمعارف هو ما يعرف بالميثولوجيا، كما عرّفها الأغريق وتعرف عربيا بعلم الأساطير.
وتختلف الأساطير من لغة إلى أخرى، ومن ثقافة لغيرها، لكن خيطا سرّيا يربطها، ومصدرا مشتركا، تكاد تصدر عنه، بقصد أو غيره. وفضلا عن عناية القدماء من الأغريق وغيرهم بتلك الأساطير، فأن تلك الأساطير والتصورات القديمة عن الغيبيات وغير المدرَكات، هي في حالة صيرورة ومتوالية زمنية، سمح لها بالتجمع والتبلور في صورة [الدين/ الاعتقاد الديني] في وقت ما.

ان تحول (الاسطورة) إلى [دين] لم يوقفها عن النمو والتبلور، ولكن [مؤسسة الدين العليا] هي التي حظرت تطوره، خشية تهلهله – إطارا (و) نسيجا-. فضلا عن دور الكهنوت في ترسيخ اركانه واحاطته بدعائم ومحاظير، تدين من يجترئ على الإضافة والإنقاص، وتعاقبه بأشدّ العقوبات الدنيوية والأخروية.

لا يمكن البتّ في زمن انحطاط (الدين) وميله للجمود، ولكن الغالب انه حدث في مرحلة متأخرة عقب ظهوره، وتبلور سلطة الكهنوت ونظامها المالي القهري. وكان لمثل هذا الحظر والردع أثره في أمرين ملموسين: أحدهما ظهور الطوائف والمذاهب الفرعية داخل الدين الواحد. والآخر: ظهور ديانات جديدة، تشترك مع الدين السابق وتختلف جزئيا.

ولابد للدين الجديد من سلطة قوية تحميه من ردع السلطة الدينية السابقة. وهذا ما يدفع/ يجعل الديانات الأحدث، أشد بأسا مع التطور. وبالمقابل، كلّما خفت الروادع، كان المجتمع الديني أدنى للمرونة والتسامح.

في الأسطر الأخيرة من شريعة حمورابي، عبارة تقول: كلّ من يسيء لما هو مدون أعلاه، أو يحاول التبديل أو الإضافة أو الحذف، يزيد (الإله) من الويلات على ذلك الشخص، ومن عمل بها، يباركه (الإله).

هاته العبارة لا تظهر -بوضوح- في شريعة موسى التالية لها، ولا في كتب الأنبياء الملحقة بها في كتاب (تاناك). ولكنها متضمنة ذلك بأشكال أخرى، سواء في روادع التوراة والوصايا العشر، أو إنذارات الأنبياء ودراما التاريخ اليهودي، التي يتم تفسيرها وتبريرها كعقوبات –الهية- جراء عصيانهم الشريعة.

لكن فقرة حمورابي الأخيرة، تظهر بوضوح في خاتمة آخر أسفار الإنجيل/ العهد الجديد، وهو سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي، آخر كتبة الإنجيل. وسفر الرؤيا هو آخر ما تم كتابته من أسفار الإنجيل القانونية بحسب مجمع مقدونية في عام (355م).

الأساطير القديمة استمرت في التوارد والتوارث والتواتر بصورة مشاعية في مجتمعات العالم القديم، سواء في وادي الهند والسند أو وادي النهرين أو الشام أو وادي النيل. والأسطورة الرافدينية لم تكن جامدة خلال توارثها، وإنما اختلفت وزادت ونقصت، باختلاف المكان والزمان.
ولا يجوز لعلماء الحفريات القول: ان الأسطورة السومرية هي هاذي، بالتمام والكمال، بلا تغيير أو تطور. الصحيح القول: أنها كما وصلت إلينا، أو كذا تم استلامها في تاريخ معين. والمؤكد أن صورتها في البدء لم تكن كما هي الآن.

ونعرف أن (سومر) لا تعني (أور) المدينة أو المملكة في جنوب نهاية الفرات؛ وإنما هي تسمية للعصر الذي شغلته بين الألف الرابعة والألف الثانية قبل الميلاد. وأن مدنا وممالك سومرية وجدت في مواقع كركوك وسنجار وحوض بحيرة وان، تعود للعصر السومري وتشترك معها في معظم الدلالات.

وسوف تنمو أسطورة الخليقة السومرية في عهد بابل ويصير اسمها: (إنوما إليش) ويتدخل فيها قلم سرجون الأكدي. والتغير الأبرز يظهر في اللغة، وينعكس في أسماء الآلهة والمواقع والتبريرات، التي قد تجعلها أدنى لعالم الأرض منها للسماء.

ومثل ذلك يصحّ على العثريات الآشورية، التي تجسد زمنا وثقافة، تنيف على ألفي عام عن نسخة المنشأ. بل ان الاسطورة السومرية نفسها، عابرة ومستعارة بدورها من الحضارة العُبَيدية السابقة لها زمنيا، والمشتركة معها في المكان الجنوبي.
وسواء في اليهودية أو المسيحية أو الإسلام، يمكن رصد المشتركات العقائدية والطقسية، العابرة والمستعارة، من الأساطير الرافدينية والكنعانية والمصرية السابقة لها زمنا، والمشتركة جغرافيا.

(2)

الأسطورة [myth- story] كانت الترجمة الأولى للوغوس الاغريقي [المحرك الأولLogos/] . وللأسطورة نسخ متعددة من أقصى الشرق وجزره، إلى أقصى الأمريكتين والقطب الشمالي، وقدماء سكان حوض المتوسط.

أن المنطلق الأول للأسطورة – كما المعتقد الديني- هو [المجهول]، الذي لا يُدرَك ولا يُرى ولا يُمكن بلوغه [The Unknown, The unseen, The Untouchable]. والأسطورة وأهلها القدماء جدا، يعود لهم الفضل في نسبة العالم المادي الملموس، إلى عنصر غائب وراء الوجود.

ولا أجزم شخصيا بمسؤولية القدماء – سومريين أو من سبقهم- عن إطلاق لفظ الجلالة: [إله/ الله]، أو حتى [مالك/ ملك/ ملاك]، لذلك العنصر المجهول/ الغائب دائما. بقدر ما تدخل ثقافة المغامرين الغربيين، في تمرير معتقداتهم التوراتية.

لقد أطلق الكنعانيون مسميات [ايل، بعل] على رموزهم الدينية، وأطلق المصريون مسميات [رع، سيد] وغيرها، وهو ما يصح على الرموز الدينية الرافدينية والاغريقية والرومانية. والواضح ان الفاظ [Theo, Deu] الغريكو- لاتينية، مترجمة عن التسمية الكنعانية [بعل/ Baal] الذي يرمز له بهيئة (ثور).

وهو ما يصح على (هرمس): إله المعرفة عند الرومان، المستعار من (مثرا) في ميثولوجيا فارس. وربما كان اشتقاق لفظة (دين) من [Deu] اللاتينية = (إله) ، و[Theology] الاغريقية = (لاهوت/ ديانة).

يهمنا من ذلك أمران، أن الإنسان القديم لم يتكفل بمسؤولية الوجود: [الكون والطبيعة والإنسان]، فنسبها لقوّة خارقة خارج الطبيعة. علما ان ثقافات أخرى، نسبت (نفسها) أو (محيطها المادي)، إلى أصل قديم، مثل [الطوطم/ Totem]، تم اعتباره الجدّ الأقدم أو الروحي للقبيلة/ الجماعة. وربما كانت الثقافات الطوطمية، تنتسب إلى مرحلة زمنية، أكثر سبقا من ثقافات الميث.

ففي شبه جزيرة العرابيا، آثار لبعض القبائل الطوطمية/ الطوطم القبلية، بينما لا أثر لها في العراق أو الشام، التي تطورت معتقداتها، وتجاوزت مرحلة الطوطم القديمة الى مرحلة [الإله المجهول]. وفي أميركا الجنوبية وأفريقيا عقائد طوطمية وطقوس عبادة بدائية، لم تتبلور إلى أنظمة دينية ناضجة.

بقايا الطوطمية تحتل –أيضا- مكانا في نسيج التوراة وسياقها القصصي والديني، من خلال اعتبار [ابرام/ ابراهيم] الجدّ الأكبر أو الروحي للعبرانيين، بل اعتباره الجدّ الأعلى – بمنظورهم- للبشرية عامة: [أجعل عهدي بيني وبينك، وأكثّرك جدا، وتكون أبا لجمهور من الأمم. فلا يدعى اسمك بعدُ أبرام، بل يكون اسمك (ابراهيم)، لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم، وأثمرك كثيرا جدا وأجعلك أمما، وملوك منك يخرجون..]-(تك 17: 2- 6)

بحسب جينولوجيا التوراة، يكون [ابرام/ ابراهيم] هو آخر (آباء) البشر، في سلسلة: [آدم- شيث- آنوش- قينان- مهللئيل- يارَد- أخنوخ- متوشالح- لامَك- نوح]-(تك 5): ومن بعد الطوفان: [نوح- سام- أرفكشاد- شالح- عابر- فالج- رعو- سروج- ناحور- تارح- ابرام]-(تك 11)
ويلحظ منها حرص جينولجست التكوين على دلالات الأرقام، جاعلا سلسلة ما قبل الطوفان (عشرة) أجيال، وسلسلة ما بعد الطوفان (عشرة) أجيال. تبدأ الأولى بـ(آدم) وتنتهي بـ(نوح): [آدم ينوح!]. وتبدأ الثانية بـ(سام) وتنتهي بـ(أبرام): [سام يبرم].

وفضلا عن أرشيف الآلهة والأصنام والأوثان والرموز ذات الدلالات أو التأثير الروحي، ثمة في ثنايا التوراة حجرا: [أوريم (و) تمّيم] التي كانت تستخدم في (الاستخارة) أو عِرافة الغيب. ولا يتم انتقادها أو النهي عنها من قبل إيليا والأنبياء، الذين تركّز اهتمامهم على تجريم عبادة البعل والزواج من الكنعانيات ونساء صور.

وكان من صلب التعليم الجديد: (المسيحية) تفنيد فكرة الطوطم التوراتي ونسفها، مقابل التأكيد على الفضيلة. فيخاطب يوحنا المعمدان بني زمانه: [يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي. فاصنعوا ثمارا تليق بالتوبة!.. ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم لنا ابراهيم ابا. لأني أقول لكم: ان الله قادر ان يقيم من هذه الحجارة أولادا لابراهيم. والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر. فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدان تقطع وتلقى في النار]- (لو3: 7- 9)
ويحاجج يسوع اليهود المختالين بنسبهم فيقول: [أنا أتكلم بما رأيت عند أبي. وأنتم تعملون ما رأيتم عند أبيكم. أجابوا وقالوا: أبونا هو ابراهيم!. قال لهم يسوع: لو كنتم أولاد ابراهيم، لكنتم تعملون أعمال ابراهيم. ولكنكم تطلبون ان تقتلوني، وأنا انسان قد كلمكم بالحق. هذا لم يعمله ابراهيم. أنتم تعملون أعمال ابيكم... أنتم من أب هو ابليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالا للناس من البدء، ولم يثبت في الحق، لأنه ليس فيه حق. متى تكلم بالكذب، فانما يتكلم مما له، لأنه كذاب وأبو الكذاب!]- (يو 8: 38- 44)

فالتراث من هذا المنظور، يكون جيدا باستقاء دروسه وتطوير ما يحسن منه، كامتداد حضاري وقومي. ولكن الاعتزاز المجرد به، والخيلاء الفارغة، وجعله ذريعة لفعل السوء واالتمادي في الانحطاط الاخلاقي، فذلك يعود سبّة، ورواجا للشرور*.

تجدر ملاحظة هنا، عناية الكاتب بـ(الفضيلة)، عبر التركيز على (البشرية الفاضلة) التي تتجنب الشرّ وتسعى لحياة البرّ. فتركيز الكاتب على (ذرية شيث) لا يلغي وجود (ذرية قايين)، كما أن تركيزه على (ذرية سام) بعد الطوفان، لا يلغي (ذرية حام ويافث).

فالفضيلة والبرّ والسمو الروحي/ الاخلاقي، هي ديدن أصيل في الاجتماع البشري منذ القدم حتى عصر التنوير. فلا يمكن الحديث عن الانسان خارج معيارية (العقل)، و لا معيارية للعقل خارج الفضيلة. وليس ثمة هنا مجال تفصيل تداخل ثالوث: [عقل- روح- ضمير] والثلاثة في واحد!.

(3)

يذكر ان عوالم الآلهة السومرية او ما قبلهم، كانت تحت مياه البحار والمحيطات، كما يفهم من رحلة جلجامش لمقابلة اوتونبستي المدعو (الملك الخالد) أو (ملك الخلود)، وهي تسمية أرضية لا تشير الى [ألوهة]. وملك الخلود هو أيضا (ملك الفردوس الأبدي) الذي يقابل (عالم الجحيم) المشار إليه في الملحمة ايضا.

ان مفصلية [طوطم- اسطورة] تبين أمرين: أولهما: ان المسبّب الأول/ (المنشئ/ الخالق) يوجد خارج العالم المخلوق، وثانيهما: امكانية التعبير عنه واستنطاقه وتمثيله بهيئة احد المخلوقات القوية والنافعة: (الثور!).

في الفلسفة الأغريقية العريقة عرف الفلاسفة الذين عنوا بالميتافيزيك بالسوفستائيين. وكان سقراط الحكيم، يزعم ان إلهة الحكمة في معبد دلفي، هي التي تلهمه الحكمة والأفكار، وهو ما يقابل فكرة (الوحي) في ديانات أخرى.

لكن الملاحظة الرئيسة ترد عند بلاتون في (نظرية المثال) معتبرا الوجود الأرضي مجرد صورة/ انعكاس لأصل الهي موجود في السماء. وقد ضمّن يسوع الجليلي هاته الفكرة في منطوق (الصلاة الربانية): [ليأتِ ملكوتك!.. لتكن مشيئتك!.. كما في السماء كذلك على الأرض!..]- (متى 6: 10)

العالم الأرضي – بحسب بلاتو- ينبغي له أن يكون على صورة المثال السماوي، أما الإنسان الأرضي فينبغي له أن يكون/ (ينمو) الى شبه ذاك الذي هو (يسوع المسيح)، بحسب تعبير بولس الطرسوسي. [1كو 11: 1، 15: 49، 2كو : 10، غل 2: 20، 3: 26- 27، 4: 19، أف 2: 5- 10 رو6: 8]

[إن نقض بيت خيمتنا الأرضيّ، فلنا في السموات بناء من الله، بيت غير مصنوع بيد بشر. في هذه أيضا، نئنّ مشتاقين، على أن نلبس فوقها مسكننا الذي في السماء... نحن واثقون كل حين، وعالمون أننا ونحن مستوطنون في الجسد، فنحن متغربون عن الربّ. لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان. فنثق ونسرّ بالأولى، أن نتغرب عن الجسد، ونستوطن عند الربّ. لذلك نحترص أيضا، مستوطنين كنا أو متغرّبين، أن نكون مرضيين عنده!]- (2كو5: 1- 2، 6- 9)

فكرة بلاتو تركت المسافة شاغرة بين السماء والأرض، فجاء يسوع ليجمع بينهما في شخصه وفي صورة صليبه: [الذي نزل هو الذي صعد أيضا، فوق جميع السموات، ليملأ الكلّ]- (اف 4: 10)

جماع فكرة بلاتو عن الملكوت السماوي، وفكرة بولس عن مثال المسيح، تؤلف تفاصيل فكرة (الفردوس)/ حلم الإنسان، سواء في نسخته الدينية [ملكوت/ جنة] المدفوعة للحياة الثانية: ما بعد الموت!.. أو الفردوس الأرضي البلاتوني أو المسيحي، أو الشعري [الفردوس المفقود لفرجيل].

ومنذ بلاتو والمسيحية وفرجيل، عنى كثير من المفكرين والأدباء بوضع تصوراتهم وأفكارهم حول حلم الإنسان الفردوسي أو العالم المثالي أو الإنسان السوبرمان، وصولا إلى حلم مستقبلي يتغير فيه الناس والحياة الأرضية إلى نموذج من السلام والتعاون والتآخي، لا تكون فيه حرب أو حزن أو ظلم أو استغلال.

وتجد تلك الاشارات عند أشعياء بن آموص: [يقضي بين الأمم، وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككا، رماحهم مناجل!. لا ترفع امة على أمة سيفا، ولا يتعلّمون الحرب في ما بعدُ!]- (اش2: 4)

[إلى أن يُسكب علينا روح من العلاء، فتصير البريّة بستانا، ويحسب البستان وعرا. فيسكن في البرية الحقّ، والعدل في البستان يقيم. ويكون صنع العدل سلاما، وعمل العدل سكونا، وطمأنينة إلى الأبد. ويسكن شعبي في مسكن السلام، وفي مساكن مطمئنة، وفي محلات أمينة. ]- (اش32: 15- 18)

وتتكرر تلك الرؤية في (اش 35) وفي (اش 65: 25) يضيف: [الذئب والحمل يرعيان معا، والأسد يأكل التبن كالبقر. أما الحية فالتراب طعامها. لا يؤذون ولا يُهلِكون في كل جبل قدسي!].
وحول تلك الثيمة – البينية البشرية- يقول احمد شوقي مندّدا بالحرب:

ما ضرّ لو جعلوا العلاقة في غدٍ... بين الشعوب مودّة وإخاءا

* الحيّة/ الأفعى: حيثما ما وردت في العهد القديم أو الجديد هي: إسم/ رمز لأبليس: أداة الغواية والخطية والانفصال عن روح الله!.

(4)

الانسان المثالي (و) المجتمع المثالي (و) العالم المثالي، كانت مغزى حركة التنوير، وتحرير عقل الانسان وتهذيب فكره ونفسه وسلوكه، لتيسير أرضية مشتركة – ستاندارد- للحياة الانسانية، يعرف فيها كلّ حدوده وحقوقه وواجباته، ولا يتجاوزها.

ومن واقع تلك الأفكار والتصورات الفكرية والأخلاقية، ولدت مواثيق حقوق الإنسان وأهداف الثورة الفرنسية/ (1797م). وليست أفكار [الإنسان والمجتمع المثالي] غير ترجمة إنسانية علمانية، لفكرة الملكوت والفردوس، بله إعادته الى حاضنتها الفلسفية البكر.

ثمة أمرا يجمع بين (الوجود) و (العقل) هو (العلّية). وكانت العلّية – من عِلّة/ تعليل فلسفي- هي شاغل الفلسفة الأول. فلا يكفي القول ان ثمة: (منشئا) للكون، وأن العالم مخلوق بفعل فاعل محدد، وإنما شغل الفلسفة هو المغزى/ السبب/ الغاية من وراء ذلك. وقول [الأغريق السفستائيين- الديانات- توما الأكويني] بوجود العلة العظمى والمحرك الأول والمنشئ لكل شيء، الذي لا يسبقه شيء ولا يتقدم عليه، لا يتضمن (الغاية- المغزى- القصد الالهي) من عملية الخلق.

وقد أوجز الفكر القديم نظرته الوجودية كما ترد في سفر (الجامعة) لسليمان الحكيم: [باطل الأباطيل، الكلّ باطل. ما الفائدة لإنسان من كلّ تعبه، الذي يتعبه تحت الشمس/.. ما كان فهو ما يكون، والذي صنع هو الذي يُصنع، فليس تحت الشمس جديد. إن وجد شيء يقال عنه:

أنظر!.. هذا جديد. فهو منذ زمان كان في الدهور التي كانت قبلنا. ليس ذكر للأولين، والآخرون أيضا الذين سيكونون، لا يكون لهم ذكر، عند الذين يكونون بعدهم]- (جا 1: 2- 3، 9- 11)
[قلت في قلبي من جهة أمور بني البشر، أن الله يمتحنهم ليريهم أنه: كما البهيمة هكذا هم!. لأن ما يحدث لبني البشر، يحدث للبهيمة، وحادثة واحدة لهم. موت هذا كموت ذاك، ونسمة واحدة للكل، فليس لإنسان مزية على البهيمة، لأن كليهما باطل. يذهب كلاهما إلى مكان واحد. لأن كلاهما من التراب، وإلى التراب يعود كلاهما]- (جا 3: 18- 20)

عندما تشتغل الفلسفة ويجتهد الفكر، فلا بد ان تكون الإجابة مادية ملموسة ومعرفة عملية واضحة. في أسطورة الخليقة البابلية، تتحدد وظيفة الانسان بتقديم الطعام للآلهة. وهذا هو منشأ فكرة القرابين والذبائح التي تقدم للآلهة/ الإله، على مذابح الدين.
وقد انتقلت الفكرة البابلية إلى الأسطورة الكنعانية، ومنها للموسوية التي أضافت إليها فقرتين أخريين: أولهما تخصيص (باكورة) كلّ شيء للمعبد، وثانيهما: فكرة (العشور) المستحدثة عن أصل سابق.

فكرة العشور والعطايا ومشتقاتها، هي الأساس الذي قامت عليه فكرة الاستغلال، والتي تتسبب في نمو طبقة الإقطاع الذي يستولي على ريع الأرض، سارقا لجهود وعرق المزارعين ولاحي الأرض.

والكهنوت/ الإقطاع الديني يستولي على عشور ممتلكات السكان ومداخيل أعمالهم، وبقية الضرائب الدينية المقننة، مقابل بيع (صكوك) الغفران والبركة. ان رجل الدين، أو طبقة رجال الدين عموما، تشرعن لنفسها كل أنواع العطايا والهدايا والهبات، بمسميات دينية واجتماعية واقتصادية، دون أن تمارس عملا حقيقيا، ما عدا الوعظ أو رئاسة المجمع.

وعند تأمل أسفار [الخروج – لاويين- عدد- تثنية] تجد اصرارا مسبقا على بناء سلطة عليا تشكل وسيطا بين السماء والأرض، أو تتسلط على البشر بذريعة دينية. فدخول هارون: (شقيقه الأكبر) معه سيجعله نائبا له ووكيلا عنه في غيابه، ثم قائدا من بعده، يرثه أبناؤه جيلا بعد جيل تحت مسمى [لاوي: سبط الكهنوت] الذي لا يملك ولا يعمل وتكون له حصة في تعب الجميع وممتلكاتهم.

ان رجل الدين لا يجيب على أسئلة العقل بالعقل، وانما يجيب على أسئلة الدين بالدين. والدين يحرم البحث في اللاهوت والكيفية والغائية، ويكتفي بجواب هلامي مضبّب عن سبب الخلق، تلخصه عبارة (حكمة إلهية) عند البعض و(الله أعلم) عند غيرهم.

وفي هذا الحاجز الفكري بين وجود الانسان وجهله السبب أو الغاية من خلقه، ترسيخ عبودية الانسان. ويقول يسوع الجليلي في هذا: العبد لا يعرف ما يعمل سيّده، ولكن الإبن يعرف ما يعمل أبوه!.

ورغم ان المسيحية، تستخدم تعبير –بنوّة الهية-، وتعتبر المؤمنين ابناء اله بالتبني، لكنها تستمر في استخدام نفس التعليم الديني المتمثل بتفوق حكمة الله على عقل الإنسان المحدود. وهي تتناسى في ذلك جملة مفاتيح معرفية، كالروح القدس والاتصال الإلهي، وحضور الله الساكن في قلب الإنسان، وتلبيته كل حاجاته وأسئلته.

ولكن السنوات الألفين الماضية لم تقدم إجابة غير تقليدية لذلك.

وإذا كانت البوذية والزرادشتية، عرضت لموضوع معاناة البشر، واختلاف أقدارهم ومصائرهم مما هو خارج إرادتهم؛ فالفكر الديني عموما لا يسمح بذلك، مؤكدا على الخضوع والقناعة والصبر والشكر في كل شيء!.

علم الاجتماع، والمختلف عن (فلسفة الاجتماع) يعني بما يصدر عن الإنسان، ولا يتعرض لأسئلة الماهية والكينونة والوجود، مما يُعتبر نقصا فكريا بنيويا، في اكتمال مفهومه.

(5)

ينسب الى ارسطو انه أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، ونقل مجالها من دراسة الميتافيزك، لدراسة عالم الحواس. أرسطو نفسه كان معلما للاسكندر المقدوني، مؤسس اول امبراطورية غربية عالمية.

لكن أرسطو بأفكاره ومنطقه، صاحب دور كبير في بلورة الفكر الديني ومؤسساته ودفاعياته. فبقدر كونه معنيا بحياة الانسان ومعاملاته الاجتماعية، كان مؤسسا للفلسفة الواقعية الاجتماعية، فضلا عن الفلسفة الوضعية.

مشكلة أرسطو هي تمرّده على معلمه بلاتو، وزرايته بأفكاره. ومشكلتنا مع أرسطو أنه جعل (الأخلاق) نتاجا للمجتمع السائد، بينما كانت عند بلاتو نتاج رؤية سامية/ سماوية!. وبذلك كان أرسطو، هو مؤسس الوضعية التاريخية، والبراغماتية الرأسمالية، قبل عشرين قرنا من شيوعها المتأخر.

ان الانسان المتخلف ينتج سلوكا متخلفا، والمجرم له سلوك اجرامي، والمجتمع المتوحش له قيم وعادات وأخلاق متوحشة. فما مغزى دراسة قيم وتسلكات واخلاقيات المتوحش والمتخلف والمجرم والنصاب، إن لم ترصد الخطأ وتعدله وتبني انسانا ومجتمعا سليما؟..

هل هي المقارنة بين الأخلاقيات والمجتمعات، وتدوين جدول بياني لتسلسل المجتمعات حسب تسلكاتها اليومية، وما هي العبرة في وجود الجدول هذا؟.. هل هي المباهاة وتصنيف الشعوب والبلدان، وبالتالي، توزيع السلطات والصلاحيات في مجلس الأمم حسب الأفضل أو الأسوا؟..

الشرائع الدينية توسمت أنظمة اجتماعية فكرية وسلوكية ألزمت به أتباعها، والانظمة السياسية والدستورية قننت تصوراتها وفرضتها على شعوبها، لكن الفردوس أرضي والمدن الفاضلة لم تظهر للوجود، ورغم مزايا التمدن، فأن التكنولوجيا منحت الوحشية صفات وقدرات أكثر من وحشية الطبيعة.

هذا ما حاولت فلسفة التنوير تداركه!.. والسعي الجاد لصياغة مستقبل انساني يتجاوز أشنات الماضي، ويضع حدّا معقولا للسلبيات التاريخية الممثلة بالظلم والألم والاستغلال والتمييز وعقدة التفوق.

لكن التيارات السياسية البرجوازية والرأسمالية، التي لا تقدر على تجاوز أطماعها ورغباتها المريضة في السيطرة والتفوق، عملت على تسخير بعض الطروحات لصياغة منظومات فكرية تخدم أراضها وتمكنها من استغلال الغير واسعبادهم، باسم التنوير والتحديث، مانحة نفسها صفة (استعمار) من (عمران وتمدين)، غشاوة لممارسات الهيمنة والنهب وإبقاء الشعوب في مرتبة أدنى منها، كما تكشف اليوم على كل صعيد.

وكلما ساد الانحطاط وتمادى اليأس والقنوط من صلاح البلدان ومات الأمل، زادت تبعية الشعوب للبلدان الأقوى والجهات الأقدر على تسيير الأمور والتحكم بالعالم. وشرّ المصيبة ان الجماعات الطفيلية لا تتوانى في تبرير مواقفها والدعاية لمن يستغلها ويستعبدها.

كانت المسيحية أول ظهورها أدنى للبلاتونية، سواء في معالجة ثيمة طبيعة –لاهوت- اليسوع، ومدى صلته بالأب، حيث برزت تيارات أو وجهات نظر متعددة، دفعت الكنيسة المصرية للحدّ من الاجتهاد والتزام تعليم محدد على يد أثناسيوس، ونفي بقية الاتجاهات خارج مصر.

وتعرف قرون وقف الاجتهاد المسيحي بالحقبة المظلمة. وعندما حاول توما الاكويني مقاربة الفلسفة واجه معارضة بابوية. وفي نفس الوقت كانت مقاربته الفلسفية باتجاه ارسطو ومن خلال أعمال ابن رشد.

فلا غرو أن تستمر الكنيسة في الألفية الثانية على جمودها الفكري، وتستخدم محاكم التفتيش لحماية فكرها وعقيدتها. ولعلّ هذا مما استلزم ظهور دعوات الاصلاح والتجديد حتى لو اقتضى التمرد والانشقاق، فكانت محاولات التشيكي جون هس والالماني مارتن لوثر والفرنسي جون كلفن والانجليزي جون وسلي في الكتيسة الغربية.

[البروتستانتية/ Protestantism]: التسمية التي ألحقت بحركة الإصلاح المسيحي الغربي، كان لها دور في اطلاق عصر التنوير والسماح برواج حركة الفكر والفلسفة والتكنولوجيا. ولكن التطور المادي والرفاه الاقتصادي والاجتماعي الذي شهدته أوربا الغربية، زاد من التصاقها بالواقع والمادة، الذي حسم طلاق الفلسفة عن عالم المثل.

الفلسفة الأوربية الحديثة، ما بعد الهيغلية، لم تكن مادية واقعية اجتماعية سياسية فحسب، وانما أنتجت قيم البراغماتية والفردية وعبادة الذات. ثيمة اللوغوس والغائية الفلسفية العريقة، تحولت إلى مركزية الذات في الوجود، واعتبار (المتعة) غاية الوجود.

وإذا كان يتعذر تحقيق المساواة الحقيقية وتكافؤ الفرص والعدل والمؤأخاة، فأن كلا بحسب قدرته ومستواه، يسخر كل ما يتاح له لتحقيق أكبر قدر وأطول عهد من المتعة الفردية – بتعنوع أبعادها- دون مراعاة لقيمة او مبدأ او رادع [أخلاقي- قانوني- سياسي- ديني].

هذا التطبيق/ سوء الاستغلال لفكرة الحرية وحق الفرد والمتعة، شكل بداية تقويض مبادئ فلسفة الأنوار والرؤى الانسانية، لانتاج مجتمع انساني يقوم على العدل والأخوة والمساواة. ومع اضطراد التقدم التكنولوجي، عمت المادة على الأنسنة، والمتعة السادية على الضمير الأخلاقي، وأصبحت قانون الاستمتاع بالطبيعة والخليقة، من مبدأ فردى الى مبدا اجتماعي وسمة اساسية للرأسمالية المتوحشة بالتدريج.

وخلاف رؤى اشعيا حول السلام والعدل وأخوة الاسد والحمل والذئب والبقرة، أحلت العولمة للقوي افتراس الضعيف، ومعدم الضمير استنفاذ مطلق السادية والحق العام طوع رغباته.

اعتبر الاغارقة القدماء، اليهود مصدرا للشرور في العالم، وقالوا حيثما تحصل مشكلة فلابد أن يكون وراءها يهودي أو تكون له صلة بها!. وقد استمرت تلك الفكرة عند الاوربيين حتى مطلع العصر الحديث. والفيلسوف الفرنسي شارل فورييه [1772- 1837م] اعتبر المال/ التجارة مصدر الشرور في العالم، وكلاهما ارتبط باليهود –[اليهودية الوظيفة/ عبد الوهاب المسيري]- ولما يزل.

[2]

من خلال ما سبق، نجد ان جذور علم الاجتماع وفلسفة الاجتماع موغلة في القدم. وقد شكلت [الاسطورة (و) الدين]، مباحث وأنظمة لتنظيم العلاقات الاجتماعية، ووضع معايير لتحديد المناسب وغير المناسب، الحسن والرديء في السلوك الاجتماعي.
ويمكن توصيف تلك المرحلة بعلم الاجتماع الديني، لما للدين من دور وسلطة معيارية في تنظيم المجتمعات. وسوف تلعب الفلسفة الاغريقية دورا متقدما في عقلنة الاجتماع البشري والمجتمع الأخلاقي/ السياسي.

وتعتبر اسهامات بلاتو على درجة من الأهمية في مستواها، والريادة في مجالها، ليس في (الجمهورية) فحسب، وانما في مؤلفاته الأخرى التي تتناول الطبيعة البشرية والسلوك الاجتماعي، كما في (المأدبة) مثلا.

فيما حاول ارسطو ربط دوافع السلوك وطبيعة الفرد بنسب العناصر الكيميائية والأحماض والقواعد والسوائل الصاعدة والنازلة في عروقه، متوصلا منها لتصنيف طباع البشر الى ثابتين ومتقلبين، مزاجيين او عقلانيين.
وظف أرسطو نتائج المدارس الايونية والذرية والقول بـ(وحدة الوجود) واختلاف الكائنات باختلاف نسب العناصر والجزيئات المتكونة مكنها. وطبقا لتشكل الكون من أربعة عناصر: [هواء- ماء- نار- تراب]، ربط ارسطو بين نسب العناصر وتصنيف طباع الأفراد وطبائعهم الى: [هوائيين، مزاجيين، ناريين، ترابيين].

ولكن بلاتو وأرسطو وغيرهما، ميزوا بين الطبع والتطبع/ (طبع مكتسب). وأكدوا دور التعليم والتهذيب في تربية الفرد وتحسين أدائه الاجتماعي الشخصي والعام. وهذا يعني بالضرورة عنايتهم بوضع قواعد للمنطق والسلوك، واشتقاق الاليات والاساليب المناسبة، للتنمية النفسية والاجتماعية، ورفع مستوى أداء الفرد.

اشتغال الفلسفة ارتبط ارتباطا مباشرا بالتعليم. وكان الفيلسوف أو الحكيم معلما، ولكل معلم تلاميذ أو مريدون. اشتهر من ذلك مدرسة (أكاديما) لبلاتو، التي كان أرسطو من بين خريجيها. ثم افتتح أرسطو مدرسة خاصة به، عرفت بالـ(أليزيه/ أليسيه).

فقبل ظهور الطباعة ورواج الكتب والمكتبات المنزلية، كانت المدرسة وسيلة التثقيف والتنوير. وعندما حكم خلفاء الاسكندر قلب العالم القديم، واصلوا ترويج الهللينية/ الهللنستية التي كانت مشروع التنوير السكندري.

وافتتحوا لذلك مدارس في المقاطعات والمدن الرئيسة، التي اشتهرت من بينها مدرسة الإسكندرية التي أسسها بطليموس الأول. ومن المدارس الفلسفية الأخرى كانت أنطاكية وبابل والبصرة. وإذ لا يتوفر ما يلزم عن غير الإسكندرية المصرية، فأننا نعرف على الأقل، ان التيارات المسيحية في كل من تينك المراكز، كانت مستقلة الواحدة عن الأخرى.
ولا شك أن خريجي تلك المدارس كانت لهم أدوارهم وآثارهم سواء في تلاميذهم، أو الأوساط العامة التي تفاعلوا معها. وعندما تظهر نخبة علماء وفلاسفة في عراق القرن الثامن الميلادي، فلابد ثمة معلمين ومؤلفات سابقة تتلمذوا عليها.

ان الذي حفظ ارث مدرسة الإسكندرية، هو عناية الكنيسة القبطية بحفظ تراثها الوطني، واستمرار اشتغال أجيال الكنيسة على تراث الآباء وتعليمهم، وهو أمر غير وارد في المراكز الأخرى.

ذلك إلى جانب حملات الدمار والنهب التي تقترن بالحروب الخارجية والصراعات الداخلية بين القبائل، أو هجمات البدو على الحواضر. ويذكر ان من اهداف (داعش) تقويض المعالم الاثرية والدينية القديمة في العراق وسوريا، واستهدفت عملات تنظيم القاعدة اساسا اتباع الكنائس التقليدية عند العرب [الاشوريين والسريان والاقباط]، وفق مخطط مرسوم، لمحو أصول المسيحية.

ان أبناء تلك المدن القديمة، تقع عليهم مسؤولية البحث والحفر وتجميع التراث القديم الخاص بهم، وإعادة تقديمه للعصر والمستقبل. ومن غير التوفر على ذلك التراث، فان المكتبات اوطنية تبقى ناقصة ومنقطعة الجذور، وهو نداء عام، في زمن، يعمل فيه أباطرة العولمة على مسح ذاكرة الشعوب القديمة وتصحير بلدانهم.

ان النشاط الثقافي للكنائس الكلدانية والآشورية محدود جدا، ولم يستقطب القارئ العراقي او تيارات المثقفين. واليوم مع تقلص أعدادهم، وما لحق بهم وبكنائسهم من أذى وضرر وتهجير، تزداد صعوبة العمل، أو إمكانيات الوصول للاماكن التاريخية، التي وقعت تحت هيمنة مختلفة. وما من إطار وطني دستوري – أو دولي-، يحمي استقلالية المراكز التاريخية الخاصة بالأقليات العرقية والدينية، في البلدان المتضررة من السياسات والتغيرات الداخلية والدولية. ولابدّ من مسعى جاد لصيانة التراث القديم في بلدان الشرق العربي.

ان المكتبات والمتاحف المعنية بالآثار القديمة في العالم، تتضمن أشياء من تلك الآثار والمؤلفات أو أشارات إليها. وقد عني المجمع العلمي العراقي خلال القرن الماضي، بإصدار فهارس وببليوغرافيات الكتب والمصادر العربية في بعض مكتبات بلدان أجنبية، يمكن التحقق من وجود ونوعية المؤلفات الفلسفية والمسيحية وتواريخ تأليفها.

وفي نفس الوقت ينبغي مواصلة تلك الجهود لتجميع تراثنا القديم وإعادة ترويجه والإفادة منه في التأليف والمباحث الحاضرة. ان الثقافة هي ثروة إنسانية لا تختص ببلد أو زمن. ولا بدّ من تضافر الجهود وإطلاق حملة عالمية، لتجميع تراثنا القديم وصيانته وترويجه.

معظم الكتب الأسلامية والتاريخية، هي مصادر ومراجع ثرّة، لأصول علم الاجتماع العربي. فالمؤرخ في تصنيفه يصف جغرافيا البلاد، مناخها وطقسها وأحوال أهلها وأخلاقهم وعاداتهم، وظروف غناها وفقرها وطبيعة الحكم السائد فيها، فضلا عن طقوسها العقائدية وربما عادات الزواج والأواصر الأسرية وأصول السكان.

وكل فقرة من هاته هي مادة في مجال البحث الاجتماعي التي يمكن الاستعانة بها، لدى كل مؤلف ولأكثر من حقبة، حسب عصر الكاتب. فابن خلدون كتب عن أحوال عصره، وإن بدا شموليا وضمن كتاباته أصول الأمم والقبائل والتواريخ القديمة، وهو منهج سبق بدأ به ابن اسحق النوفلي في كتابه (المبتدأ..) المفقود، وضارعه اللاحقون.

وليس كتاب ابن بطوطة أدنى أهمية من تاريخ ابن خلدون، لسة ما يتعرض له من امم وبلدان، وتنوع اهتماماته الشمولية. كما تشكل الكتب الأدبية مثل كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة والامتاع والمؤانسة وسواها، مصادر غنية في المبحث الاجتماعي.

فضلا عن الكتب الدينية المركزية، فأن فن التأليف العربي اتسم بالموسوعية والشمول، مجالا فكريا وقوميا وجغرافيا. حيث تجتمع الظواهر وتتنوع حسب الأقوام والمناسبات، فضلا عن جداول الأنساب وأساطير التاريخ والخوارق.

وما نجده في كتب ابن اسحق والتوحيدي وابن خلدون وابن بطوطه، يجري على نسق متشابه من الموسوعية. وما يلزمنا اليوم، اطلاق حملة شاملة لحصر أرشيف التأليف العربي وتبويب محتوياته، وإعدادات مجالات جديدة يتم تفريغ الظواهر والمعتقدات والأفكار بحسب أبوابها وتوزيعها القومي والجغرافي وتسلسلها التاريخي.

ومن خلال مراجعة محتويات تينك الظواهر الاجتماعية والتسلكات الفردية والجماعية، الخاصة والعامة، ما تعلق بالحياة العادية او المناسبات الخاصة، الحروب والأزمات أو الاحتفالات والتحالفات، وتأويلها مع كلّ ما يتعلق بها، يمكن أن يكون منطلقا لاشتقاق واستقراء القواعد العامة والمبادئ الأساسية لعلم اجتماع عربي تاريخي، ومتابعة امتداداته في الراهن.
ان ما قام به الفراهيدي وسيبويه وابن سينا في مجال اللغة والنحو، لم يتمّ في المجالات المعرفية الأخرى، ولذلك بقيت النهضة المعرفية تلك، منقوصة ومختزلة. ولكن تجاوز ذلك الاختزال عشرة قرون، سيكون مؤشر موت العقل العربي واندثار العرب، وخروجهم من جادة الحضارة والتاريخ.

وليس بوسع جهد فردي – كهذا- التكفل بهاته المهمة، او لالمام بأطرفه، سيما في ظل عدم الاستقرار والتشرد بين البلدان الذي يعيشه كاتب هاته السطور. فالابداع الفكري والنثري يشترط ظروف الاستقرار والأمن المعيشي والسياسي، التي تحولت الى حلم مستحيل في ظل مشروع الدمار الشامل للمراكز الحضارية العريقة التي تقوده السياسة الانجلومريكية التي تحكم قبضتها على الشرق العربي والسياسة الدولية عامة.

ورغم النتائج المذهلة لنجاح المشروع خلال أقل من عقدين، ومظاهر السكون واللامبالاة في مواجهته، فأن ذلك ينبغي أن يزيدنا قوة واصرارا على تحويل الهزيمة والانحطاط الى بوادر نهضة فكرية واجتماعية، تستعيد ميراث الإشعاع الذي أطلقه قدماء سكان هاته الأرض، وهو ما يسعى اليه مشروع هذا الكتاب، مبتدأ بالعقل والإنسان والتنوير وترسيخ أسس وأطر الاجتماع العربي الذي مهملا قبل الآن. ولكني لا أفقد الأمل، في تكفل المؤسسات البحثية والأفراد المتمايزين لمدّ نسغ هاته المباحث والرؤى.

وقد سعى البعض الى تسجيل عادات العرب بحسب قبائلهم، ورصد الظواهر اللغوية وأصناف العبادات والمعتقدات لكل جماعة أو بقعة محددة من الأرض، وكانت في الغالب جمعا كميا وتراكما أخباريا، لم يتحمص بالرؤية والتحليل والاستنتاج والاستقراء.

وكان من أثر ذلك إشاعة التشويش والبلبلة وفتح باب الخلافات، فضلا عن الإضرار بالشخصية الاجتماعية والذات المجتمعية القومية على كل المستويات. ومن أمثلة ذلك، التصانيف المتعلقة بالسنّة في جانبيها الرئيسين: الحديث النبوي، (و) السيرة النبوية.

وفي ضوء الأسس والنتائج المتبعة فيهما، انعكست على جملة (الإخباريات)، الشخصية منها المتعلقة بأصحاب النبي وقادة الإسلام والحكام والولاة والأمراء، أو القومية العامة المتعلقة بتواريخ البلدان والأقاليم والحقب السياسية وسجلات المغازي والحروب.

هل يمكن التاريخ لشخصية أو بلد او ظاهرة ما، من غير مبادئ علمية عامة وأسس مجتمعية مدروسة ومتفقة، يتم مراعاتها وملاحظتها خلال العمل. وقد حاول بعض المتأخرين الهروب للأمام، باعتبار (الإسلام) إطارا ومعيارا للبحث والتأليف.

والمشكلة ان هؤلاء المبتدعين أنفسهم- الغزالي مثلا-، لم يأخذوا بالاعتبار تشظي مفهوم الاسلام الى تعددية عسيرة الضبط. وإذا كان مجال القضاء – وهو قطاع مهم في تنظيم العلاقات العامة- مختلفا بحسب المذاهب، واجتهادات القضاة المعتمدين، فكيف يمكن التعويل على ذلك في مجال التأليف العام الذي لا يمكن ولا يجوز حصره في فئة مذهبية أو حدود جغرافية محددة.

من حق الغزالي ان يتعصب لرؤيته، وينحاز لمذهبه ويعليه على سواه، بل يضع (دينه) فوق ما عداه، ولكنه لا يجوز له أو لغيره، قهر الآخرين على أتباعه، وإلغاء رؤاهم ومعتقداتهم واجتهاداتهم.

وقد لمس هو، وغيره إشكالية التفاوت والبلبلة في اختلاف روايات السيرة، فضلا عن الخلافات الإشكالية في روايات الأحاديث، دونما حلّ موضوعي ناجز من قبل العقل الإسلامي السابق أو الراهن.

والسبب وراء ذلك، هو دخول الحزبيات والمذهبيات في التسجيل والتأليف. فكل مؤلف يتبنى وجهة نظر جزئية، ويروج لجماعة محددة، فيروي ما يروقها ويدعم اتجاهها، ويلغي ما يخالفها، ويفند اتجاهها.

والقول بالمذهبيات يتجاوز تيارات السنة والشيعة، أو الأشعرية والاعتزال، أو القول بالخلق أو القدمية، أو خلافات بني أمية وبني العباس، عثمان وعلي، وغير ذلك. ان التعددية تستلزم المرونة والانفتاح والتسامح الاجتماعي، لترك النوافذ مفتوحة للتلاقح والمشاركة والمراجعة.

لكن المأخذ على علماء الاسلام هو ظاهرة التزمت والتعصب ورفض الآخر او تبخيسه أو الغاؤه. وقد تناسى كل طرف، انه سيلقى نفس المصير من الاخرين. وما كان نتيجة الإلغاء غير الإلغاء، وعاقبة التبخيس والاستنكار الا التبخيس والاستنكار المقابل. فما وصل الينا هو جملة الإلغاءات والتبخيسات التي أفقدت النص عناصر الأصالة والحيادية والنقاء.

لقد حكم الإسلام بعين الزراية على الزمن السابق له، عندما وصفه بلفظة (جاهليّة)، رغم غموض مغزاها وضبابيته، سواء تعلق بالجانب الثقافي الحضاري، أو الديني ومنه التوحيد. وبشكل خارق سرى المصطلح ثقافيا واجتماعيا، سواء بين تصنيف الأدب الجاهلي الساري لليوم، أو وسم السلوك الاجتماعي بـ(عادات جاهلية)!.

لقد أراد قادة الإسلام تمييز حركتهم، ومنحها صفة التجديد، أو الثورة الشاملة بمفاهيم الحداثة، رغم أن أبطال ما قبل الإسلام، هم أبطال الإسلام، وخيار ما قبله، هم خيار ما بعده. ولا يمكن الحديث عن أدب عربي معتبر بقطع جذوره، أو تناول المجتمع العربي بدون تتبع أصوله وتقاليده وقيمه السابقة لظهور الاسلام. بل لا يمكن فهم الاسلام وأحكامه دون عودة لتراث المجتمعات العربية المحيطة به، واستطلاع الحياة الدينية ودراسة العقائد السائدة في العرابيا من قبله.
فكرة (الدونية) في النظر الى أنفسنا وتراثنا وتاريخنا، تبلورت في ظاهرة نفسية خطيرة، هي كراهية الذات، والسعي للهروب من الذات، فردية أو جمعية، والانحياز للأخر والأمام. وقد جاءت مناهج الدعاية الغربية والكولونيالية وثقافات الاستشراق اللاحقة بها، فضلا عن تيارات التبشير والدعاية الامبريالية في الألفية الجديدة، لشحن هورمونات كراهة الذات والعروبة والإسلام والقومية العربية، واعتبارها رموز وآفات للتخلف والعنف والعجز عن المعاصرة.

ولا أعتقد انه سبق تفتيت أمة أو ثقافة، من خلال بث ثقافة كراهة الذات واحتقار المرجعيات والمركزيات القومية بين أبناء الأمة أنفسهم. مما يترتب عليه: كراهة الذات، كراهة اللغة والثقافة، كراهة الأرض والانتماء والوطن. وبالنتيجة، لا يبقى من الوطن غير مرعى وفندق للايجار.

هذا الاستعراض السريع، في الأصول والفروع، اللغوية والقومية والدينية، في التقنيات والمناهج، يكشف عن حجم لتمزق الداخلي لنسيجنا الاجتماعي، كمجتمعات عربية، وبلدان كتبت على نفسها النكوص عن المعاصرة، والجمود عن المشاركة الإبداعية، وتطبيع العبودية والتبعية، بدل الاستقلال وحرية الإرادة والوجود، خارج كانتونات التبعية الإقليمية والغربية.

اليوم.. نحن بحاجة لبناء البيت من الداخل، لمراجعة مكوناته وأصوله وإمكانياته، والعمل الجاد، المثابر والمستقل، بدون تدخلات خارجية، أو وصايات دينية أو سياسية من أيما جهة. وفي مشروع البناء والتنمية الجديدة، تقع على عاتق المفكرين والنخب الثقافية والتنويرية، المسؤولية الأساسية في التنظير والتنفيذ، بكل ما يستحقه الوطن والقومية من تضحية وبذل وتنازلات كبرى، من اجل امتلاك الغد المشرق.

ان نخب العرب والمسلمين اليوم، معظمها خارج الجغرافيا الوطنية، وفي خدمة الأجنبي وحمى الأعداء مبدأيا. ولا أعتقد الحياة في بلاد الغرب، ومرابع العدو، - كما خبرتها لسنوات طويلة-، رخصة ومن غير تنازلات، أو خفق الضمير.

وقد أستنتجت من خلال ذلك، ان التضحية، التذلل، العمالة، للوطن والحكومة الوطنية، أولى منها للأجنبي وللمخابرات الغربية، والسياسات الأجنبية المضادة لمصالح أوطاننا ومجتمعاتنا. بل الأموال التي تعود رصاصا وقنابل ومشاريع تدميرية ضد بلداننا، كما حصل مع العراق مثلا، وما تزال فواتير الغزو والقصف، تستقطع من ثروات العراق ودماء أبنائه ومستقبله المجهول.

ان مسؤوليتنا الأخلاقية الراهنة، تمثل بتجنيب أبنائنا وأحفادنا، ما عانيناه من تجارب شخصية ووطنية وعالمية. وهذا التجنيب، لا يعني الهروب خارج الوطن، والتوزع في المهاجر، وتسليم أطفالنا لجنسيات وتبعيات أجنبية، يعاد تسخيرها والتضحية بها لخدمة مشاريع الهيمنة الغربية.
علينا أن نصحو. نحن بحاجة الى استعادة وعي، استعادة الروح!.

[3]

لماذا علم الاجتماع..؟

ليس من الصحة قولهم بجدّة علم الاجتماع، وهو الذي قام على أفكار أرسطو وميكافيللي وسينيه السابقة لعصر النهضة الغربية. فما هو مغزى الجدّة في زعم هؤلاء؟..

بكلمة واحدة: هو التوقيت العصري!..

ويمكن ايجاز مظاهر هذا التوقيت: اعلان علم الاجتماع، في عدة نقاط..

عصر الأفكار والأنوار ومساعي المفكرين والعلماء لسبر أغوار المجهول واستكناه ما وراء الأفكار وصولا إلى تجويد مستويات الحياة والاستثمار الفضل لقوى الطبيعة.

ظهور المكننة وانتشار المصانع التي ترتب عليها ظهور الرأسمالية الصناعية.

ترتب على النمو الصناعي، تغير هيكلية المجتمع التقليدي، وانهيار النظام السياسي الطبقي السائد، وتحول كثير من الفلاحين الى عمال أجراء وحرفيين، انتقلوا من سكنى الأرياف الى هوامش المدن، مع ما رافق ذلك من اختلاف نمط المعيشة والجور وظهور تسلكات اجتماعية ونفسية، واختلاف جذري في انماط العلاقات الاجتماعية والروابط الأسرية والشخصية، فضلا عن نشوء نمط محدث من اجتماع العمل وعلاقات العمل. مما استلزم مراجعة كل التغيرات السوسيوقتصادية وبناء إطار جديد لنظام اجتماعي يستوعب التغيرات الجديدة، ويستجيب للحاجات الاجتماعية والمطامح الشخصية والرغبات الفكرية والنفسية للانسان المعاصر.

عصر القوميات البلدانية في أوربا، والحاجة الموضوعية الملحة، لوضع أسس وقواعد للنظام السياسي والأطر العامة لدولة مؤسساتية، تجمع بين ثمار عصر التنوير والتحديث ومقتضيات المجتمع الصناعي والنمو الرأسمالي للدولة وقياداتها السياسية، ووضع نظام اجتماعي مرن، يجعل النسيج الاجتماعي والطاقات البشرية في خدمة القوى الفاعلة والقائدة لمنظومة الدولة الرأسمالية وحاجات التحديث والتطوير المتصل، لتبقى في صدارة المشهد العالمي، بله سيادته.

لم يظهر علم الاجتماع الحديث قبل الثورة الصناعية، ولم يسبق ظهور الرأسمالية، فلا غرو أن يقترن ظهوره بالماركسية وأبحاث مدرسة فرانكفورت. فعلم الاجتماع، هو حاجة لاحقة للتغيرات السياسية السابقة، عنيت بوضع ضوابط وأطر المجتمع السياسي للدولة القومية المستجدة، عقب تحلل الامبراطورية الرومانية.

ان علم الاجتماع- شأن أي علم بحت- هو مجموعة الأفكار المنضوية في إطار مجال بحثه، وهذا يستدعي أسبقية الأفكار على الصيغة الاكادمية للعلم. والفلسفة الحديثة عموما، كانت في أصولها وسياقها إنسانية التوجه، ليست عنصرية نحو الخارج، ولا طبقية نحو الداخل.

ولكن طروحات كارل ماركس، على الضدّ من طروحات آدم سمث، كانت أكثر انسانية، بتركيزها على المعدمين والمحتاجين والنساء والأطفال وجملة البشرية التي تعاني من ظروف معيشة وحياة صعبة، قياسا للطبقات الأعلى مستوى ماديا، والأكثر تماهيا في حلقات النفوذ الاقتصادي والسياسي.

تلك الجماهير الفقيرة، معدومة الدخل، هي طاقات بشرية خام، وقوة عمل معروضة للايجار والاستخدام في سوق العمل. انها لا تختلف عن مصطلح: (مواد اولية خام)= (طاقات بشرية خام)، في منظور منظر برجوازي مثل آدم سمث.

وبالمنظور الروماني التقليدي، هي لا تختلف عن: الأسرى وغنائم الحروب والغزوات التي يتم سوقهم أو خطفهم، وتسليمهم للقراصنة والتجار تحت عنوان: (العبيد)، (تجارة الرقيق) الصالحين لكل الأغراض، ومن غير أية حقوق أو مراعاة أنسانية.

العبودية قديمة عبر التاريخ، لم يخل منها عصر أو بلد أو ثقافة. وكانت الحروب والغزوات والسلب والنهب والخطف أساس تشكيل جماعات العبيد أو الرقيق الذي لا يمكنهم التخلص من ربقة عبوديتهم، بيسر.

وما كان للمجتمع الحديث، أو (التنوير والحداثة)، أن يتحققا، باستمرار النظام العبودي التقليدي الذي توارثته أوربا عن الرومان والأغريق، وأولئك عن مجتمعات الشرق القديم. جان جاك روسو الفرنسي أشار على أن كل البشر يولدون أحرارا. وأن من حق كل شخص أن يكون حرّا.

العبودية على الأرض تقترن لعقدة السيادة، كما يقترن الظلم بعقدة التسلط، والاستغلال بعقدة الطمع، والانتقام بعقدة الغيرة والحسد، والغرور بعقدة الشعور بالنقص، والحكم بعقدة التفوق، والدين بعقدة الفضيلة، والفضيلة بعقدة الزراية واحتقار الاخر، والزراية بالآخر نابعة من عقدة الكراهة، والكراهة نابعة من عقدة الخوف، والخوف نابع عقدة الشعور بالذنب.. الخ.
في عالم الدخان، يعاني غير المدخنين من أضرار التدخين، ويعاني المجتمع عموما من أضرار عوادم السيارات ودخان المعامل، وفي الغالب، لا يستفيد المتضرر لقاء ذلك. لكن القوانين المدنية الحديثة لا تضمن حقوق غير المدخنين وغير المستفيدين من جشع دخان الرأسمالية، ولا تقضي لهم بشيء.

وعندما اعترض احد مشاهدي التلفاز على عرض دعاية لشركة دخان، وتقدم بشكوى ضد الشركة، فرضت عليه المحكمة غرامة بتهمة الإضرار بالاقتصاد الرأسمالي، وأجبرته على متابعة الدعايات.

وتزدحم سوق الانترنت اليوم بدعايات وإعلانات تافهة ومؤذية، دون وجود قانون ينظم فوضى السلوك الرأسمالي، ولا توجد جهة قانونية دولية لحماية المستهلك من أذى وعدوان النافذين المجهولين في شبكة النت.

بالمنطق الاساس لا يوجد مسوغ لتفاوت الحقوق والواجبات في اطار عام. لكن البرجوازية الأوربية المحملة بإرث روماني بالٍ، مرّرت رغباتها وأطماعها وأمراضها التاريخية خلل النظم التطبيقية، والأطر الفكرية لطروحات الحداثة والتربية الحديثة.

اي تفاوت حقوق بين الأفراد – مواطنين أو غير مواطنين- لا يجوز احتسابه من الانسانية والحداثة بشيء. وفي رسالة رسمية من انجلتره، نصت ان قراراتها تستند الى مبدأ المساواة، بلا تمييز بين مواطن وغير مواطن، رجل او امرأة، كبير أو صغير، مريض أو غير مريض، الخ.
وفضلا عن مخالفة الواقع للزعم الرسمي، فأنّ واقع النص ينطوي على تناقض وتعارض منطقي لمغزاه. فالمريض والمعاق لا يجوز مساواته بالانسان السليم البدين، والمريض عقليا لا يجوز مساواته بالعاقل، ومثل الطفل والبالغ والمرأة والرجل. ولكن صياغة النص وقعت في غواية الانشاء. ناهيك عن افتقار انجلتره لقاعدة دستورية أو قوانين ثابتة، ما خلا القواعد الامنية والسياسية التي تدعم مؤسسة الحكم، بمنطق ميكافيللي لا يدّه شيء، داخليا او خارجيا.
ان انجلتره هي البلد الاستثناء الوحيد، الرافض للمنظومة الدستورية والقواعد القانونية، والمتحررة من أرث التشكيل الطبقي للمجتمع، مع هالة شبه مقدسة للعائلة المالكة الحاكمة على حساب كل شيء.

ومع تراجع البلدان الاوربية عن ارثها الامبراطوري والكولونيالي، وميلها للاعتدال وعدم التعرض العسكري والسياسي للغير تحت ذريعة المصالح الاقتصادية والامن القومي الستراتيجي، فانجلتره وربيبتها الولايات المتحدة، تستمران في النهج العدواني المتخلف، والمعادي للانسانية، حتى اليوم.

يقول مؤلف انجليزي نشرته الخارجية البريطانية والكومنويلث، بأنمياز المفكرين الانجليز بالتأكيد على الفكر السياسي، أكثر من الألمان والفرنسيين. هذا يؤشر في نفس الوقت قصور الفكر الانجليزي عن الجوانب الانسانية والتنويرية التي تخدم الانسان والمجتمع، وليس قراصنة الحكم.

واقع الحال، ان تاريخ انجلتره يؤشر ازمة بنيوية ذات جانبين: اشكالية بناء (أمة)، وأشكالية ولادة سلطة محلية شرعية. فحتى قرون قليلة، كانت انجلتره تتشكل من ممالك وأقاليم صغيرة، ولم تأخذ صورة دولة موحدة شعبا وحكومة. وما تزال (ويلز) ذات وضع سياسي قانوني خاص، يختلف عن منظومة المملكة. أما العائلة المالكة فذات أصول أوربية فرنسية وألمانية واسكتلندية. وجهود المفكرين منذ (ماجنا كارتا) انصبت على حلّ وترميم إشكالية الحكم السائدة حتى اليوم، وكل ما أنجزه اولئك المفكرون هو ترسيخ مركزية التاج واعتباره اساسا للدولة والاقتصاد والثقافة والمجتمع. وما زالت المخاوف من انهيار انجلتره وتفككها، عد تراجع سلطة التاج أو شعبيته، أو حصول أي انتفاضة او ثورة سياسية.

ويمكن لأي بحث في الروادع السياسية والتنظيمية السائدة في النظام الانجليزي، كشف حجم المخالفة لحقوق الانسان والحريات السياسية، بحيث تنعدم الأطر النقابية للعمال والطلبة، وتعدم منظمات حماية المستهلك، ولا يوجد مجال قانوني للمعارضة السياسية او الاحتجاج، حتى بالنسبة لحزب كبير مثل حزب العمال، خاضع لاملاءات غير مكتوبة، لا يستطيع معها تجاوز سياسة النظام والبلاط، وبشكل يجعله عاجزا عن ممارسة دوره السياسي.

[الثورة الصناعية- الرأسمالية- السلطة السياسية] هي الثالوث الذي سرق مشروع التنوير وشعارات الحداثة، وأعاد صياغتها وتسخيرها لصالح المركزية الأوربية والدولة القومية الإمبراطورية.

ففهمنا للحداثة الأوربية وعلم الاجتماع، تضمن المنطوق الرأسمالي الكولونيالي المشوه لها. ان رواد الحداثة في كل بلد أسيوي وعربي، عرّبوا ثقافة رأسمالية كولونيالية، أجكمت من تبعية العقل العربي المعاصر لعدوّه.

واختلاف الثقافة العراقية عن السورية عن اللبنانية عن المصرية عن المغربية، فضلا عن خصائصها المحلية، خضعت للمرجعية الكولونيالية التي تدخلت في صياغة الدولة والثقافة والدين والاقتصاد، وخريطة المصطلحات والخير والشرّ.

ومن عجب، ان يناوئ رموز ثقافتنا ومعارضتنا السياسية والدينية، بعضهم، ويتهم الجميع الحكومة بالتبعية للأجنبي، وقد رضعوا جميعا من ثدي واحد. وبينما يكرر غير قليل من مجتمعاتنا مديحهم للانجليز أو الفرنجه الذين أنشأوا لهم الدول ومؤسساتها ومنظومات الحداثة الاجتماعية والثقافية، يغفلون عن حقيقة اللعبة السرّية وعوامل التدمير المضمّنة في منتجاتهم للعالم الثالث.

ان تبعية الشرق والعرب للخارج آفة تقتضي الدراسة والتحليل والعلاج!.

علينا ان نقيم/ نقوم عجزنا الفكري ووعينا الاجتماعي والسياسي اليوم!..

فإما ان نسلم بالعجز والنقص، ونسوغ التبعية والعبودية، ونضرب صفحا عن المغالاة والنفخ والمفاخرة بعضنا على بعض!..

أو نصلح من شأننا ونستعيد اعتبار أجدادنا الاصلاء، ونثبت قدرتنا على البناء والإبداع والإدارة بدون وصاية وتبعية.

[4]

ولأجل ذلك.. علينا أن نؤمن ونعمل بأننا لسنا أدنى من سوانا، وإذا قيل إن للغرب أطماعا في بلادنا، فعلينا بحسب ذلك، الإقرار بكونه معتديا وعنصريا، ونضع منظومة اجراءات دفاعية تضمن لنا الحماية والإدارة الذاتية، وتفسد خططه ومحاولاته لتحقيق أهدافه.

ان خروج أوربا من خيمة الإمبراطورية الرومانية، قابله عربيا، خروج البلدان العربية من خيمة الإمبراطورية العثمانية.

خروج أوربا اقترن بأفكار عصر النهضة والتنوير وتطور العلوم والتكنولوجيا والحداثة، ونشأة بلدان أوربية حديثة، اختارت مناهجها السياسية والاجتماعية باختيارها، واتفاقها الداخلي. ولكن العرب بكل مكوناتهم لم يفطنوا أو يقترفوا ذلك.

المتعلمون والمثقفون ورجال الدين الأوربيون ساهموا بقوة في برامج التنمية والتثقيف والإبداع في كل المجالات والمستويات، بحيث حققوا التراكم الحضاري والمدني الذي استندت إليه الهوية والسيادة الأوربية. فأين كان دور المتعلمين والمثقفين وعلماء الدين في بلداننا؟..

في مقابل حصول الثورة الصناعية، ونمو طبقة الرأسمالية، التي غيّرت من صورة النظام الاجتماعي وأنماط الحياة، واستلزمت ظهور نظام اجتماعي اقتصادي ثقافي مناسب، لم يحصل أي شيء من ذلك في المحيط العربي.

ظهور علم الاجتماع الغربي كان تلبية لاحتواء ودراسة المتغيرات الطارئة في مجتمعاتها، وهو أمر افتقد مبرراته عربيا.

علينا أن نسأل أنفسنا كل هاته الأسئلة وما يتفرع عنها، لنتعلم الوقوف على أرجلنا،وليس عكازات الغرب.

على كل منا محاكمة نفسه، في مواجهة تاريخية شجاعة وصريحة. دون الوقوف عند لحظة تاريخية جامدة، أو اجترار أخطاء الآخرين. في عراق اليوم، وبعد خمسة عشر عاما على تغير نظام الحكم، ما يزال الجدد يبررون عجزهم بكوارث النظام السابق.

ان اداء كل جيل، بله كل فرد، ليس أفضل من سواه. ورغم تراكم الجامعات وشهادات الدكتوراه واتساع أسواق الألقاب والاطماع المادية والنفسية، فأن الأداء المعاصر أسوأ من سابقه، وأن ناشئة اليوم كارثة اجتماعية!.

وفيما تروج طروحات، تحمل المثقفين العرب مسؤولية الانحطاط والجمود، - باعتبار ان المعصومية والنزاهة خصائص مقدسة للجماعات الدينية الحاكمة-، فأن مفهوم الثقافة والمثقف عربيا وبلدانيا، يحتاج إعادة نظر.

ولكن هذا لا يعفي من ظاهرة العجز والاجترار والانحطاط التي طبعت المنضوين تحت لواء الثقافة، أدباء أو أكادميين، أو جمهر مقاهٍ. ان الثقافة سمة عقلية إبداعية أصلا، لكنها تفقد قيمتها بغير الجرأة والشجاعة وعمق الرأي.

رغم أن الغزالي وابن تيمية لم يكونا حكاما أو ولاة، ولكنهما طبعا الثقافة والعقل العربي والاسلامي زهاء عشرة قرون. وإذا كان أي منهما، محسوبا على الثقافة والفلسفة والمنطق، فبإمكان المثقف العربي والمسلم أن يطبع المجتمع، وأن يقود العقل الجمعي.

ولكن ما تحقق تحت عنوان الدين، لم يتحقق تحت عنوان الثقافة أو التنوير أو النهضة. كان الغزالي مدرسا، وميشيل عفلق مدرسا، وهيغل مدرسا وسارتر مدرسا. فكيف اختلفت آثار وأدوار كل من هؤلاء.

يوجد اليوم ملايين الأساتذة في مختلف مستويات الدراسة، ولكننا لا نجد مدرسا/ أستاذا أنتج تيارا فكريا أو علميا أو سياسيا. فهل التدريس هو باب رزق بائس ليس إلا، أم ان الكادر التدريسي هذا ليس مربيا أو مثقفا؟!..

المشكلة أن الغرور سمة شائعة لعرب اليوم، فما هي بنينته على أرض الواقع؟..

الغرور والانتفاخ لا يصنع أمة أو حضارة أو ولة أو حتى حياة كريمة، يكفي اجترارا!.

من المواقف التي صادفتني في حياتي، تتعلق ببيت الشعر المشهور..

مشيناها خطى، كتبت علينا.... ومن كتبت عليه خطى، مشاها!

وصلتني في النمسا، رسالة من صديق أديب سياسي في العراق، ضمن بيت الشعر هذا في إهدائه للكتاب المرفق.. شكرته على الرسالة والكتاب، وسألته مغزى بيت الشعر..

وكان ذلك بعد حادثة الغزو الانجلوميركي وما رافقه من كوارث، فجاء ردّه مفتخرا بتاريخه السياسي والكفاح الطويل ضدّ نظام الحكم الذي تتوج بسقوط النظام.

الواقع ان صديقي السابق لم يكن من جماعات المعارضة الجلبية، ولم يفارق البلده، رغم الظروف، لكنه، ربما بحسب التأويل الديني، اعتبر نهاية النظام السابق نتيجة لكفاحه واثباتا لصحته.. وقد شعرت بالاستفزاز عندما قرأت عبارته، (لولا نضالنا البطولي لم يتخلص العراق من الصنم). وفي نفس رسالته، طلب المساعدة في تهجير ابنه لبلد أوربي! فكتبت له بألم: (نضالكم الذي أوصلنا إلى هذه الحال!).

مشكلتنا أننا لا نراجع ممارساتنا، ولا نحاسب أنفسنا، ولا نحاكم أفكارنا، ولا نقبل أي تهمة أو شك من أحد. انعدام المراجعة تبعه عدم اكتشاف الأخطاء، وانعدام ثقافة الاعتذار والاعتراف بالخطأ. والبحث الدائب عن تبرير لما يحدث، بضمنه تحميل الغير و(الظروف) مسؤولية ما يحدث.
ولعل احد أسباب انحسار المسيحية في مجتمعاتنا، صعوبة الاعتذار والاعتراف. وكثير منا لا يقرّ بمفكرة الخطيئة، سواء كانت أصلية أو لاحقة. وعندما تنعدم فكرة الخطأ في مجتمع/ ثقافة، فيستحيل تقدم ذلك المجتمع، أو خروجه مما فيه.

ومرّة سمعت شابا مغربيا استخدام عبارة (مجتمع طاهر) في وصف سكان بلد مسلم، جعلني أعيد النظر والتفكير في مستقبل هكذا توجهات.
كل شيء يبدأ بالعقل، الحرية تولد في العقل، والغزو يحدث في العقل!.

[5]

وحدة ثقافية وتعددية قومية..

ملاحظتان رئيستان تنماز بها المنطقة الموصوفة من المحيط للخليج، أولاهما: عراقة التاريخ، وثانيهما: تعدد أقوامها وأصولها الأثينية.

ان المفهوم المشاع عن القومية، باعتبارها جماعة تنتسب الى عرق واحد وجدّ واحد، هو زعم مدحوض ولا أساس له من صحة أو واقع. والغالب أنه استنتاج توراتي محض، مثل فكرة (الساميّة) المزعومة هي الأخرى بلا صحة او إمكان واقعي.

ثمة مقاربة فكرية بين ظاهرة القبيلة، والظاهرة القومية، من مخرجات الثقافة الغربية. وفي اطار ثقافتنا، تنتفي فكرة القبيلة الأبوية – المنحدرة من جدّ عريق أو عائلة نووية تفرعت وتصاهرت فيما بينها، والتي تبدو قياسا على قصة ابراهيم التوراتية، هي الأخرى.

ثمة خاصتان لابدّ منهما لاعتماد فكرة/ قصة ما قرينة فكرية او منطقية، تكون أساسا لبناء فكري أو نظرية. وهما: منفعتها العلمية في الواقع الطبيعي، وواقعيتها التاريخية!. ومعظم القصص الدينية غير تاريخية، ولا التاريخ وظيفة الدين، بقدر توخي حكما أخلاقية أو أغراضا دينية.

وما زالت عادات العرب لا تشجع المصاهرات الداخلية، وتشير جداول الأنساب وسجلات الأخباريات إلى الأصول القبلية/ العشائرية والجغرافية لفلان وعلان، المنضم لقبيلة أخرى.

فضلا عن ميل القبائل العربية لتشكيل أحلاف واتحادات، لأغراض دفاعية أو اقتصادية أو غيرها. والأمر الآخر في تسمية القبيلة التي قد تكون نسبة لحادث أو مناسبة أو موضع جغرافي أو رمز حيواني أو ديني صفة جسمية أو ملكة أدبية.

ويبدو أن إصرار الغربيين على أدوات [المنطق والقياس] وفرضها في أبحاثهم، ترتب عليه في العموم، اعتقاد تاريخية الثيمات المدروسة. لكن جانبا من علماء التوراة واللاهوت، يؤكدون غلبة الاختلاط والمصاهرات الخارجية على بني إسرائيل. وأن وصفهم باليهود لا يتعدى الهوية الثقافية أو إتباع شريعة موسى.

فالسبعون شخصا من ابناء وأحفاد يعقوب، تزايدوا في مصر الى حوالي ثلاثة ملايين في زمن موسى، يشير لأمرين: المبالغة، والاختلاط. ولا نغفل هنا أهمية الرموز الدينية والروحية لفلسفة الأرقام المعتمدة في الكتابات الدينية.

والكتاب الغربيون يعمدون إلى ترسيخ تلك المفاهيم الافتراضية، فيشار لقبائل بلغارية وجيرمانية وغالية أو فاندال، فيما الغالب أنها مسميات جغرافية أو تضاريسية، وليست عرقا أو نسبة قبلية.
أما لفظة (عرب) الواردة في (القرآن) بصيغ متعددة، فيختلف معناها في لغات المنطقة القديمة، فهي عند قدماء المصريين بمعنى: (الشرق)/ (شراقوه)، وعند السريان: (جماعة/ اجتماع)، وعند العبرانيين: (سكان الصحراء/ بدو).

لكن اللفظة ترسخت في الأدبيات الاسلامية، وجعلت صفة عامة على أهل (القرآن). على ان الضرورة تستدعي التمييز بين [الحضر = عرب]، وبين سكان الصحراء: [بدو = أعراب]. ويشير جواد علي إلى أن سكان شبه الجزيرة لم يتعارفوا على دعوة أنفسهم بالعرب، كما هو شائع اليوم، وانما كانوا يدعونأنفسهم بحسب مسمياتهم القبلية أو الدينية أو الجغرافية. فيقال فلان من كندة أو بني ركاب أو بني أسد أو حمير.

واليوم في ظل الانحطاط العام والإرث السيء للنظام السياسي العربي، يقرف البعض من وصفه بالعرب، فضلا عن الأطياف الأثينية والدينية داخل المنطقة. وهذا يزيد من شرذمة المحيط السوسيوجغرافي وتحويله إلى كانتونات ودكاكين صغيرة، منقسمة على بعضها، وفريسة لابتلاع الحيتان المحيطة بهم.

وأرى، لغرض التوصيف العلمي والسياسي، ان لفظة (عرب) ليست دالة قومية عرقية، بقدر ما هي دالة ثقافية للاستدلال على الجماعات السكانية القاطنة في المحيط الجغرافي من المحيط للخليج. والتي شكلت وحدة سوسيوسياسية على مدى قرون طويلة. وبالتالي فأن تفكيك هاته الوحدة الجغرافية وتفتيتها اجتماعيا وثقافيا، لن يصبّ في صالح الأصدقاء، وسيزيد من دمار أهليها، ولن يشفع لهم اختلافهم القومي أو الديني أو اللغوي عن النسيج العام.

وما نتداوله هنا من أسئلة سوسيوتاريخية، يشمل أيضا المكونات الاثينية والمذهبية التي تحاول عزل نفسها عن النسيج الاجتماعي او الهوية العامة. فباستثناء الكرد في شمال العراق، ولبنان الفينيقية، لم يتنامى وعي وطني/ قومي لدى المكونات الأخرى، بحيث تتبنى خطابا سياسيا مستقلا بها، يؤهلها للاستقلال، أو المشاركة الفيدرالية في المحيط الإقليمي.
يشكل الامازيغ أكبر مجموعة ثقافية قومية تشمل ثلثي الشمال الأفريقي، من المحيط الاطلسي جنوبي المغرب حتى شواطئ البحر الأحمر، في منطقة النوبة على الحدود المصرية السودانية. لكن الثقافة الأمازيغية والهوية السياسية لها ما زالت في بداياتها، وتفتقد لكادر ثقافي فكري يغطي جوانب تاريخهم السياسي والسوسيوثقافي.

ورغم عدد الأدباء والمثقفين العرب من أصول أمازيغية، فأن مبلغ الوعي الثقافي/ الاجتماعي/ السياسي لديهم هو موضع تساؤل. والمفترض البدء في اعتماد لغتهم/ لغاتهم القومية في الكتابة الأدبية والعامة، والترويج لها عبر قنوات إعلامية خاصة بهم، وإقامة مهرجانات سنوية دورية لدعم التنمية الاجتماعية والثقافية. ومع ذلك فأن فكرة كيان سياسي ما زالت وئيدة.

ولعل تجربة جنوب السودان المسيحي، تأكيد لعدم النضج السياسي والوعي الاجتماعي/ المجتمعي، لتمثيل حكم سياسي مستقل، رغم الباع الطويل، في العمل المسلح، لكن الشعور الأثيني والعمل العسكري والحكم الذاتي المستقل، هي أشياء مختلفة، رغم ما يجمعها من منطق.

ويشكل أقباط مصر، أكبر جماعة أثينية دينية في المحيط العربي، تمتلك الكثير من الخصائص الذاتية السوسيوثقافية وعناصر الاستقلالية والمرونة السياسية في التعامل الخارجي، فضلا عن صرامة نظامها الداخلي، لكن مشكلتها الأصلية تكمن في تحسبها البالغ لمحاذير المجازفة على صعيد الخارج، فضلا عن صعوبة تحقيق توافق داخلي حول هوية الكيان السياسي المستقل، فلن يحصل اجماع على إعلان دولة دينية، يحكمها الكليروس، أو دولة علمانية ذات هوية قبطية، على غرار لبنان العلمانية المارونية.

أما الأثينيات والطوائف الأخرى ومعظمها في العراق، فيشكل (الشيعة) أكبر جماعة طائفية ذات خطاب ثقافي ووعي اجتماعي سياسي عريق، لكنهم يفتقدون خاصتين بنيويتين رئيستين:

اولهما عجزها عن الاستقلال الذاتي عن الخارج، وثانيهما: فشلها في تجربة الحكم والإدارة الذاتية. لقد عانت هاته المجموعة كثيرا عبر التاريخ، وأسست لنفسها تراثا بليغا من المظلومية والتحريض السياسي، ولكنها حين تواتيها فرصة السلطة لا تجيد استخدتمها، او ترجمة ذاتها الجمعية على محك الواقع. وسواء في العهد العباسي الأول أو البويهي، او الصفوي او الراهن، ينتهي امرها بيد غيرها، وتعجز عن امتلاك ارادة سياسية مستقلة بنفس قوة خطابها الديني وتجييشها الاجتماعي. فهي مثال للحركة السوسيوسياسية الفاشلة على صعيد التكتيك والارادة. وبكلمة واحدة لا يوجد شيعي سياسي، فضلا عن عجزها عن فصل الديني عن السياسي. ولعل فشل تجربة علي وأبنائه في الحكم، بقيت تطاردهم على قارعة الزمن.

أما الكلدان والاشوريون والسريان في العراق وسوريا، فيعانون من تفكك النسيج والتراجع الثقافي، والعجز عن الاحتفاظ بكنائسهم، وبعدما ضيّعوه من فرص التاريخ، فلن يتبقى منهم غير مجموعات أثرية رمزية على غرار الأزيدية والشبك، منغلقين داخل أنفسهم.

خلال ذلك تبقى المنظومة العربية هي الأكثر نضجا وتكاملا وتبلورا، وليس لها غير معالجة آفتيها المدمرتين: الاستقلالية الناجزة والتحرر من التبعية والطفيلية، وامتلاك طبقة نفوذ سياسي مخلصة لهويتها الوطنية ومرتبطة بعمقها الشعبي القومي، وليست حكومة سمسرة دولية واقليمية، على حساب الوطن والشعب.

التفريط بالعربية الآن، هو هدر لأربعة عشر قرنا من الجهد البنائي والمنظومات المؤسساتية الراسخة في كثر من صعيد، وما علينا اليوم، غير إضافة ما يقضي التعديل، وتعويض الفراغات الهيكلية والمجالات الشاغرة التي لم يطرقها الأولون.

ولكون الدولة الإمبراطورية العربية التي قامت على أساس ديني، كانت علمانية الإدارة سياسية الحكم، منفتحة دينيا وقضائيا على مختلف المذاهب والاجتهادات الطائفية، سيما في الأمصار والدويلات.

فان تلك الملامح قابلة للتطوير والتحديث، وبناء مجتمع اجتماعي منفتح مرن، وتحقيق نهضة فكرية علمية انسانية، ومنظومات اقتصادية مكتفية ذاتيا، وقادرة على إدارة شبكة صلات تجارية وتعاون اقتصادي وثقافي مع عالم الشرق وحوض المتوسط الأدنى.

وإذا كانت مشكلة العرب السلطة وهشاشة عناصر الحكم. فان المجتمع العربي يعاني من هشاشة الشخصية الاجتماعية لأفراده، وميلهم الفكري للغريب والأجنبي الذي يلبي لديهم مظاهر الطفيلية واللامسؤولية والهروب من أزمات الذات.

مسؤولية علم الاجتماع العربي اليوم، ترميم خرائب الماضي، وتقويم هياكل القوى الاجتماعية وطاقاته البشرية، سيما النشء الجديد، والكوادر الفكرية والعلمية التي لابد من مساهمتها في مشروع البناء والتنمية والترميم، بعدما يتجاوزون في أنفسهم عقد الماضي.

مشكلتنا اليوم ليست سهلة. ففي الحالة الأوربية، كانت ثمة قوى سياسية وبرجوازية وعناصر كنسية، دعمت مشروع التنوير، فكريا أو فرديا. ولكن ما من مجتمع أو حكومة عربية، تجازف بدعم مشروع نهضة فكرية، يتوجس منها المجتمع الديني في الداخل، ليس أقل من توجس اغرب الرأسمالي الكولونيالي.

وتبقى مسألة الاستقلالية الفكرية والتنظيمية، شرطا لنجاح المشروع، وتحاشي تكرار تجارب الماضي، الحكومية والسياسية والثقافية، التي انتهت تحت أقدام الغرب. ان المراوغة السياسية والتكتيك الفني، من قبل الضعيف، لن يكتب له التوفيق.

وهذا يستدعي من العاملين في المشروع، قوة التماسك والتلاحم والاتفاق الفكري والاجتماعي والسياسي، لتوفير ضمانة ذاتية، لبناء المجتمع من داخله، وفي هاته المرة، سوف يراهن السياسي والديني على نفسه، وبقدر خدمته للمشروع، يكسب نفسه، وبقدر استعدائه، يخسر كل شيء.

لأبي عمرو الجاحظ أربعة كتب، كل منها ذروة متفردة في بابه، هي: البيان والتبيين، الحيوان، البخلاء، وغزل النساء. ويستحق كل منها دراسات وافية، فضلا عن صيغتها العصرية، ومنهجها العلمي، والتزامها التخصص في بابه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى