
نصوص إيلياء ويبوس
المتوكل طه في كتابه (نصوص إيلياء ويبوس) الذي صدر مؤخراً، في غير مكان، يعرف أن مهمته ثقيلة ومركبة، فهذه هي القدس، المدينة التي تختصر العالم وتقطّر التاريخ، معقد الآمال ومنتهي الأحلام، ولهذا فإن الشاعر هنا يرهف سمعه ويشرع قلبه ووجدانه ويستدعي معرفيته بكاملها من أجل أن يقول كلمته . المعرفية العالية والعميقة ضرورية تماماً كالوجدان العريض، للاكتشاف والغوص والنفاذ، والمتوكل في كتابه هذا يأخذنا من أيدينا ومن قلوبنا ومن عقولنا، يتنقل بنا عبر الأزمان والأمكنة والمناخات ليحكي قدسه التي يعرفها وهو مغمض العينين مفتوح القلب، وقدسه التي يعرفها ليست تلك التي يروج لها أو يروج عنها، أو تلك التي تظهر في خرائط الأستيطان الاسرائيلي أو خطط السلام التي تلد مشوّهة وعير قابلة للحياة، أو تلك الخرائط التي تظهر في دليل سياحة، يتجنب حساسيات السياسة والجغرافيا والديموغرافيا، إنها قدس أخرى، أنها القدس الأكسير الذي يحتك بها العالم لتضيئه ولتجعله ذهباً وفضة، وهي القدس، ذلك الجمر الهابط من الجنة ليذكّر وليفجّر وليعمّر، إنها قدس المغامرة البشرية وأساسها ونتيجتها أيضاً .
والمتوكل في هذا كله لا يعتبط أو يفتئت أو يبالغ، فهي مدينته التي تربّى عليها وعرفها منذ الأزل . إنها مدينتنا، هكذا يقول الشاعر، إنها مدينتنا مثل أمّنا، لا نشرعن علاقتنا بها ولا نبحث عن دلائل ولا ننقب في الكتب أو في التراب، هي مثل لون العيون أو طول العظام نتناقلها جيلاً بعد جيل وجيناً بعد جين . رفعت الكتب وجفت الأقلام .
وهذا هو الرضى الذي يطفح به كتاب المتوكل طه هذا، رضى الحقيقة وثملها، رضى الألم والتعب والجهد، رضى القرب والعيش في المدينة وفي أكنافها، رضى هذا القدر، رضى هذا الوعد، رضى هذا الإختيار. المتوكل هنا، وفي هذا الكتاب، يبدو واثقاً وراضياً وسعيداً بقدره وبمكانه وبحكايته وباحتمالاتها .
يقول المتوكل طه إن هذه المدينة تعاش وتستحق ان تعاش، هي شائكة وعصية ومعقدة، هذا صحيح، هي امتحان صعب وقدر عالٍ، هذا صحيح، هي لا تمتلك الا بالمحبة والسلام، هذا صحيح، هي جوهرة قابلة للضياع، هذا صحيح، ولكنها تعاش، وتستحق أن تعاش، ليس هناك من مدينة تضارعها في هذا الخليط من الملح والعسل، في هذا الشوق والشوك، في هذا البعد والقرب ؟!
المتوكل يعري روحه أمام مدينته، يقول لها علميني كيف أحبك وأحميك وتكوني لي، الآن وإلى الأبد، فهل وجد الشاعر جوابه في التاريخ، ولكن التاريخ يقول كل الأشياء، التاريخ للأشرار تماماً كما هو للأخيار، والتاريخ دورات ودول، والتاريخ صعود وهبوط، فأين قدس الشاعر في هذا ؟مدينتنا لا تهبط، يقول الشاعر، مدينتنا فوق التاريخ، يقول الشاعر المتوكل، فهل الجواب في المحبة والسلام ؟هل المدينة في القلب؟هل تصبح جغرافيتنا في صدورنا، وهل نبني وطناً من الأحلام ؟!
شاعرنا المتميز يقع في حيرة من أمره، فالمرحلة التي نعيش، لها أثرها وآثارها واستحقاقاتها، وطننا يضيع ونحن نرى ونسمع، وكل ما حلمنا ينهار، وكل ما أنجزناه يضيع، فكيف نحتفظ بالمكان، وكيف نحتفظ بأرواحنا نظيفة وسليمة. وعلى رغم ذلك، فإن شاعرنا يختار، يحلّق، وينطلق، إنه لا يرى سوى قدسه، إنه يراهن على ذلك المطلق الذي يمنحه إيانا الزمن، وهذه قدرة الشاعر وقوته - وأهميته المجتمعية أيضاً إنْ شئت - فالشاعر هنا لا يرى من المشهد كله سوى ما يريد أن يرى. فالحطام - كما يرى الشاعر - ليس سوى ضريبة البناء، والممرات المغلقة والحواجز ذات الشوك والأسنان، ليست سوى تفاصيل، والخراب والضياع والحيرة ليست سوى عرق المسؤوليات الجسام. والمدينة المحاصرة والمهدّدة، يا شاعرنا الجميل ؟! هذا لا شيء، هذه نقطة على حرف باهت، في كلمة غير واضحة، من سطر طويل طويل، في كتاب ضخم، تزيد عدد صفحاته على الملايين، ولماذا أنت متفائل يا شاعرنا الجميل؟! يرد الشاعر المتوكل بكثير من الحصافة والرصانة والهدوء:قدسي لها أسرارها .
أسرار القدس، هذا هو سرّ كتاب المتوكل طه الذي نحن بصدده، أسرارها التي تجعل منها أكثر من أرض وأعمق من تاريخ وأشمل من عقيدة، هي المدينة المستفزة التي تغار منها المدن البعيدة، وتدفع الملوك والأنبياء إلى امتلاكها أو الحديث باسمها، وتجر إليها - لسبب لا يدرك - التقاة والعصاة والغزاة والثقات. فأي مدينة هذه ؟! يقول الشاعر في كتابه هذا، إنها المدينة اللغز، المدينة الكنز، المدينة المعرفة، المدينة السماء، المدينة الأسطورة، المدينة الأولى، المدينة الأخيرة .
ويقدم لنا الشاعر المتوكل - وربما لأول مرة - نجوى حارة وحارقة، ونشيجاً يقلع القلوب، أمام مدينة القدس التي اعتاد عليها الفلسطينيون والعرب مذلة ومهانة ومحاصرة . العادية لا تقبل ألإبداع لذي عينين وقلب ووجدان حساس. يقدّم المتوكل طه هذه المناجاة الطويلة التي يستبطن فيها روحه ووجدانه أولاً ليجلل مدينته أو لتجلله مدينة، وليصيرا معاً كياناً واحداً، لا ينعيها ولا يبكيها ولا يلومها ولا يعاتبها، ولكنه يقرأ فيها الغامض والشهي والطيب والعذب والمفاجىء والمستفز والعصي .
مناجاة المتوكل طه لقدسه ليست للطرب أو البكاء، وإنما كانت للشرب من ذلك النبع الصافي، الذي تلألأ في عين مَنْ بنى القدس لأول مرة، وكانت لرؤية أول قنديل أُضيء في أول بيت بني على تلك التلة الوحيدة المختارة من بين كل التلال، وكانت لتذوّق تلك الراحة العجيبة في صدر وقلب أول مَنْ صلّى هناك، في أول مسجد، تل الراحة وذلك الضوء الذي دفع أبينا وأبي الأنبياء جميعاً ابراهيم الخليل، لأن يترك مدينته البعيدة جداً، ليحط رحاله في القدس ويرتاح .
المتوكل طه، الشاعر المتواصل والمتميز، صاحب النص الرهيف والكثيف والهادىء، وصاحب تلك المناجاة المغامرة، يقدم لنا قدسه، كما يتذوقها وكما يراها، وكما يريد أن يسرد حكايتها، التي صار فيها المستحيل أكثر من احتمالاته .