هذه كانت حياته، وحياتنا
مشكلته أنه لم يكن أبدا طموحا دائما ما يرضى بالقليل حتى صار القليل لا يرضى به ، لم يحاول أبدا أن يغير من واقعه بل كان يتعامل مع كل الأشياء على أنها قدرية محتومة،
وعندما يضيق بما حوله كان يلعن الظروف والزمن وربما الناس الذين لم يعطوه ما يستحق.
حياته كانت تسير دائما على وتيرة واحدة ، وللحق كانت كل علاقته بالحياة هي أنه لم يمت بعد.
كان يرسم للحياة في خياله صورة وردية وكان يريد أن يعيش هذه الصورة، ولأن الحياة ليست هكذا أصبح دائما حزينا مكتئبا ؛ لأن أبسط مشاكل الحياة اليومية تصير أمامه جبالا تثقل كاهله،
وأصبح مستسلما حانقا أم راضيا لا يهم فحياته كانت تسير
حتى قابلها لم يكن يتخيل أن شيئا ما قادرا أن يجعل لحياته معنى،
ولم يكن يعتقد أنه هو المتبلد المشاعر بقلبه المتململ دوما يمكن أن يقع في بحور الهوى.
ربما كان جمالها عاديا ولكن كانت لها روح شفافة تضفي على ملامحها مسحة رقيقة جميلة حتى أنه عندما كان يتخيل شكل الملائكة كانت صورتها تطفو إلى ذهنه،
نعم جذبته من اللحظة الأولى التي رآها فيها ومع الوقت ملكت عليه قلبه فأحبها وهام عشقا بها وأحس بلذة أن تشتاق إلى شئ
أو عندما تغمض عينيك يملؤك شعور رائع، كان يقضى الساعات يفكر بها وعندما يراها تتسارع دقات قلبه بشكل لم يعرفه من قبل هو لا شك يحبها، ولكن
وعند كلمة لكن هذه نضع آلاف الخطوط
فتهاونه السابق في حياته جعله لا يبذل جهدا في أي شئ إلا
إذا فرض عليه بالقوة ولهذا كان مصيره الفشل الدائم
وحتى لهذا لم يكن يهتم
إلى اليوم الذي أدرك فيه أنه يحبها
اليوم الذي علم فيه أنه لكي يتخذ خطوة إيجابية عليه أن يواجه المجتمع والناس ، ساعتها نظر إلى ما بين يديه فوجد أن لا يملك شيئا من مزايا الحياة فلا مكانة ولا مال ولا حتى شخصية تعودت مجابهة صعاب الحياة والتغلب عليها
كل ما يملكه وظيفة ضئيلة أجرها لا يكاد يكفيه بمفرده.
سقطت دموعه بين ضلوعه ، وبعد أن كان يحاول التقرب أخذ يبتعد،
إذ أحس لأول مرة بأنه أضاع عمره وأهدر أيامه،
وبعد أن كان يحلل تصرفاتها نحوه، وحديثها معه لكي يستشف إذا ما كانت تحبه أم لا ، ويقضي الليالي مؤرقا معذبا تحاصره الظنون والهواجس لمجرد رؤيتها تبتسم لآخر أو تحادث آخر.
تمنى آلا تبادله نفس الشعور إذ لم يرد لها أن تعشق إنسانا مدمرا لا يستحقها،
في ذلك اليوم أوى إلى فراشه وأبت عيناه أن تنصاع إلى سلطان النوم، فعقله كان يموج بأفكار كثيرة محيرة
ورغما عنه عادت به ذاكرته إلى أول مرة قابلها فيها
حين أتت لتتسلم عملها في نفس المصلحة الحكومية التي يعمل بها
تذكر أول لقاء وأول كلمات ، وأحس بنشوة خاصة لمجرد الذكرى سرعان ما خنقتها سحابة من الحزن
ليتذكر من جديد كيف كانت ساعات العمل تمضى في بطء وتمهل
وكيف كان العمل مملا ورتيبا قبل أن تجئ وكيف تغير كل ذلك بعد أن أتت، فأصبحت الساعات تمضى كالثوان ، وأصبح هو ويا للعجب متلهفا للذهاب إلى العمل للقاها.
أفاق من ذكرياته الجميلة ليعود إلى الواقع الأليم مرة أخرى
ومضت الأيام ولاحظت هي تغيرا في تصرفاته نحوها
وحين حاولت التقرب آخذ هو يتهرب
إلى أن قالت له مرة :- لماذا تغيرت معاملتك لي هل بدر مني شيئا ضايقك ؟!
:- كلا على الإطلاق
:- ما سر هذا التغير في معاملتك إذن؟!
صمت لم يعد يدر ي بما يجيب ، كيف يشرح لها كيف يقول لها أنه يعشقها يذوب وجدا فيها ، يتمنى لو أنها طلبت روحه فيعطيها لها
عن طيب خاطر ، وكيف يجعلها تفهم ، أنه يريد لها الأفضل ، لا يريدها أن ترتبط بإنسان يستدين من منتصف الشهر
إنسان علاقاته الاجتماعية شبه معدومة
منطو لا يكلم أحدا ، وتقريبا لا أحد يكلمه ، يطمع في التغيير ولكنه لا يبذل جهدا ليحصل عليه
إنسان يحيا في الأحلام ويعرف أنها ستقتله إذ تجعله يهمل واقعه
وتقنعه أنه يكفي أن يحلم
كان يعرف كل هذا عن نفسه ويعجز عن تغييره ولم يكن يعرف كيف يشرح لها كل هذا
لاحظت شروده فعادت لتسأله
:- لم تجبني لماذا تغيرت معاملتك لي ، وأين الود السابق الذي لمسته منك ؟!
أحس لأول مرة من حديثها أنها تميل له، وكم أسعده هذا وكم آلمه
وفي داخله قرر أن تكون هذه هي لحظة الحسم ، لابد أن يقطع خط الرجعة علي كليهما
ومن عينيه سقطت دمعتان لم ترهما ،وأحس بسيف بارد يشطره نصفين ، وهو يجيب :- وكيف تريدينني أن أعاملك ، أعتقد انك تتوهمين أشياء من صنع خيالك وحده
نظرت إليه بألم ، وامتلأت عينيها بالدموع ، وغادرت المكان
وما أن غادرت حتى انهارت مقاومته فأسرع إلى غرفة خاوية وأغلق علي نفسه وترك لدموعه العنان
ومن جديد عادت حياته إلى وتيرتها السابقة بل وأسوأ
كل يوم يتعذب لمرآها ، صار دائما شاردا يحيا كميت وهو حيّ
وتعذب أكثر حين علم أنها تقدمت بطلب لنقلها إلى مصلحة حكومية أخرى،إذ كان عزاؤه الوحيد هو رؤيتها بالرغم مما يثيره هذا في أعماقه من مرارة،وفي تلك الظهيرة كان أكثر شرودا وهو يعبر الطريق السريع ، ولم ينتبه إلى السيارات العابرة
مشى وهو لا يعرف أين يضع خطواته، ولم يسمع آلة التنبيه المزعجة للسيارة العملاقة ، وهي تقترب منه ، حتى عندما رفع عينيه ورآها كان كمن يرى مشهدا في فيلم يعرض بالسرعة البطيئة أو كان كمن يعتقد أن ذلك لا يحدث له
أخذت السيارة تقترب بينما هو مسمر في مكانه ، وكأنما أدرك أن ذلك هو قدره الذي لا مفر منه
وحينما انطلقت فرملة السيارة ، علم السائق أنه لن يستطيع تفاديه مهما حاول
وكان الاصطدام ، قفز جسده في الهواء لعدة أمتار قبل أن يستقر على الأرض وتحلق الناس حوله ليشاهدوا ما حدث
وبينما كان السائق يضرب كفا بكف ويؤكد أنها ليست غلطته كانت آخر صورة يراها قبل أن يسود الظلام هي صورتها