الخميس ٢٥ شباط (فبراير) ٢٠٢١

وجع القصيدة من وجع الوطن

عرجون محمد هادي

من خلال المجموعة الشعرية «زهرة الحناء» للشاعرة جهاد المثناني

في البدء كانت الكلمة، وكان الشاعر، وكان الشعر يخيط فستان الكون بلغة خصبة متأصلة مصفاة من عذب الشعر، حيث يمكن لعين الناقد أن يرى نبيذ الشعر من مشكاة اللغة ووعاء القول وقد تعطر المكان بأنفاس "زهرة الحناء". الذي اختارته الشاعرة عنوانا لمجموعتها الشعرية الصادرة عن دار الفردوس للنشر والتوزيع سنة 2020 والتي حملت بين طياتها 45 قصيدة في 120 صفحة وهي عبارة عن تجسيد واقعي وحالات وجودية لواقع البلاد العربية وما عرفته من مخاض وتحولات اجتماعية وسياسية بالإضافة إلى الحروب والمآسي ومع هذا فالعنوان فيه من الإيحاءات الشيء الكثير في خضم هذا القلق والوجع العربي يفوح من شجرة الوطن العربي رائحة زكية،رائحة التاريخ والأصالة والمجد لتوقظ فينا روح الشعر ولذته لأن الشعر لايمكن أن ينحصر في مساحة جغرافية واحدة.

فالشاعرة جهاد المثناني تحمل الأمل بين جوانحها وتؤمن تمام الإيمان بأن الكلمة الشعرية بمفردها قادرة على أن تمنح الأشياء وجودها على حد تعبير " هيدقير" فالشعر عندها ضرورة إبداعية وليس مجرد ترف عقلي عابر أو متعة تقف حد النشوة الشعرية، بما تحمله من معاناة وقلق، فالشاعرة التي امتطت صهوة قصيدة البيت وأخلصت للوزن الشعري وموسيقاه كما نلاحظ التنوع في مواضيع القصائد، فمنها ما هو اجتماعي ذاتي ولكن المحور المهيمن في نصوصها هو الالتزام بصورة واضحة بهموم الوطن العربي تقول في نص (وجع الخرائط) ص76:

"وطني على وجع الخرائط قد شدا
نزفا توارى في البياض وفي المدى
لا الجرح نام ولا المراثي أدركت
أن المجاز بذي القصيدة عربدا
أن العراق برافديه مثخن
والياسمين إلى دمشقي أنشدا
أني بخضرائي أقول قصائدي
ولفرط عشقي قد سهرت تعبدا "

حين انتبذت مكانا شرقيا واختارت من الشعر العمودي ما كان على الأنثى عصيا، وهذا ليس غريبا على شاعرة قيروانية من أحفاد(ابن رشيق وابن شرف والحصري والمنصف الوهايبي وجميلة الماجري...) تنهل من ثقافة عربية أصيلة، لغة لا تنقضي عجائبها والتي وصفها المستشرق الفرنسي وليم مرسيه (1872-1956) وصفاً بديعاً للعربية قائلاً "العبارة العربية كالعود إذا نقرت على أحد أوتاره رنت لديك جميع الأوتار وخفقت، ثم تحرك اللغة في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكبا من العواطف والصور".

ومن خلال قراءتنا لمجموعة " زهرة الحناء" نلاحظ أن الشاعرة من خلال كتاباتها لا تزور أرضا بكرا،فهي كالجالس على حافة نهر الشعر تلتقط ما تناثر وتتغذى من كتابات وأفكار من سبقوها لذلك نجد تأثرا كبيرا بالثقافة العربية الإسلامية وبكبار الشعراء قديما وحديثا والمتمعن في نصوص المجموعة يتجلى لديها التناص القرآني في عدد من الأبيات مثال:

"رسمت بوجه القصيد بلادي
وما كنت يوما بشعري بغيا"(ص14)
" هل لي بيوسف كي يفسرا ما أرى
قمرا أرى لا يشبه إلاها"(52)
"في جنة الشعر لا نخشى خطيئتنا
نتلو قصائدنا تساقط الرطب"(ص98)

كما يظهر جليا في نص (دمشق) الذي تشبّه فيه الوطن العربي بقصة سيدنا يوسف مع أخوته والقميص الذي ألقى على أبيه فعاد مبصرا، حيث تقول، ص43:

"أيا ذئب إن البلاد بلادي
ويوسف يدري من القول صدقي
لقد ورطوك بذنب دماك
وتلك الدماء تهم بنطق
فذا الياسمين قميص التراب
سأذرو التراب ليبصر شرقي
لعل العيون ترى الخائنين
ترى العُربَ كيفَ تهمُّ بشنقِ
نواقيسَ تغفُو بحضن المآذن
وباب بكَته الكفوفُ بطرق"

وهذا التناصّ ليس عيبا أو استنقاصا من قيمة الشاعرة بقدر ما هو أسلوب في الكتابة دأب عليه كثير من الشعراء لأن الشاعر عادة ما يبحث في المختزنات الذهنية ليعيد صياغتها صياغة جديدة تنسجم مع الواقع ليخرجها إخراجا جديدا وهو ما عبر عنه الشاعر والناقد الأمريكي (شبيلدماكليش) في حديثه عن اصطياد الكلمات وتسخيرها:

"فالشعراء يدأبون دائما على الخوض والاصطياد على حافة نهر اللغة البطيء الجريان علهم يعثرون على ما يمكنهم اصطياده وتسخيره لاستعمالهم الخاص ".

ولقصائدِ جهاد المثناني عناوينٌ تؤمّها،تقودُها إلى صوتِها وصورتِها،وتشدُّها لوحدتِها وتجمعُ أحزانَها في (قرطاج والقيروان ولبنان والعراق وفلسطين...) فتبكي خارطة الوطن العربي ويتجلى ذلك في عدد من النصوص كنص: (أنادي / بلادي) وهو جناس لفظي جاء هنا ليشير إلى أن الشاعرة تنادي الوطن العربي بما فيه من دول، نداء المتألم الحزين إلى ما آلت إليه هذه الدول، تقول (ص 31):

أنادي العراق تجيء الشآم
بكفي مجاز يريد السلام
على العابرين بأردن قلبي
بصنعاء أنوي أطيل المقام
أمد البساط إلى شمس نجد
وفي الرافدين لشوقي اضطرام
أصوغ القصيدة بأرض الجزائر
وفي القدس أغفو ولا لن أنام
إلى أن تقول:

فكل البلاد بقلبي بلادي
وتونس مني كبدر التمام

فالأوطان التي تكتبنا قصيدا أو تغنينا كما تعبر عن ذلك الشاعرة جهاد المثناني بحزن وألم وقلق عبّرت عنه في قولها: (ص89):

يا مزنة انسكبي في الصدر واندلقي
هذا القصيد دمي فوضاي والتعب
هذا القصيد رؤى في عتمة اللجج
تغريبة بفمي إن ترفع الحجب
هذا القصيد رؤى والناي زفرتها
هل خانني الناي أم هل خانت الثقب
الشعر في شفتي ضاد أعتّـقها
لا ذنب للحبر إن ضاقت به الكتب

فجاء التمرّد شعرا والنضال كلمة عندما تسري محبة الوطن كالنار في الحطب وتكون نار الوطن لذة ونشوة رغم حالة الحزن، فلا طبيب يسعه رتق الجرح وتضميد الجسد العربي المريض سوى القصائد التي طوّعت الشاعرة إيقاعها الداخلي بما يوافق حالتها ونفسيتها وما تحسّ به تجاه هذا الوطن ويعانيه من اضطرابات وأهوال وأحزان،فخاطت من فستان الشعر شجنها وحزنها جماليا وجوديا على الرغم من أن الواقع بدا أشد تخيلا وإيقاع الوجع أشد توقعا.باختلاف أشكال بنائها ورموزها التي تصبّ في نهر القصيدة ليبرز التأثير السحري والبصري وهو ما يكشف خطوط المعنى بين ذاكرة الكتابة وذاكرة الصورة، ليصبح الشعر أداة للتعبير عن المعاناة والتجربة الحقيقية، ويظهر ذلك من خلال نص (هل خانني الناي) ص97:

"الشعر تنسجه الآهات والعرب
والشعر أخيلة في وقعها الخبب
اقرأ تجد وطنا من سكر غفوتنا
وجْدًا يعمده التفّاح والعنب
فيه أرى لغتي نبضا أُمَوْسِقُه
واللحن أحجية والحرف مغتربُ"

فهي التي تتحدث عن أمّة تطاولت عليها الأمم وتحتاج حصونا من المعنى، ملتزمة بقضايا الأمّة العربية مشتركة والتي استعملتها بطفرة حتى أصبحت غرضا كلاسيكيا مباشرا، ولكن لسائل أن يسأل هل أصبحت القصيدة بديلا عن الوطن حتى تصنع الشاعرة هوية قولية؟حتى أننا نلاحظ تكرار ثيمة (القصيدة) بكل اشتقاقاتها اللفظية (قصيدة، قصيدة، قصائد...) أكثر من 55 مرة في كامل المجموعة حيث تقول في نص (زهرة الحناء) ص47:

"فتركتني بين القصائد أحتفي
بمواجع التاريخ في انشائي
وطني على أنقاضهم متعثرا
ينوي الغناء لزهرة الحناء"

بالإضافة على ثيمة (الشعر) بكل ما فيها من اشتقاقات (الشعر، الشعراء، الأشعار) التي تكررت بدورها وجاءت في أكثر من 24 موضع، يتجلى ذلك في نص: (هل خانني الناي).

كما تميل الشاعرة إلى الاختزال لذلك تبرز بنيتها الشكلية بصورة واضحة تتسع فيها مساحة الدلالات، ليكون الوضوح والظهور حيث نرى هيمنة الدلالات الثنائية وأحيانا الثلاثية في بعض النصوص، فتارة (وهذا الدمع وإلى دمع) وطورا (دع الذكرى وخل الذكرى) وتارة أخرى (نجن الماء/ جمعت الماء/ فجاء الماء) والتي يمكن ان نجد لها تناغما في النص مع ترابطها مع هذه الدلالات تقول الشاعرةفي نص (حادي الهوى) ص37:

وهذا الدمع يشتاق
إلى دمع وما حلَّ
فخلِّ الذِّكرَ يا قلبُ
دَعِ الذّكرى لمن خلَّى
أيا شعري لم الشوق
وصدر البيت قد ولَّى
ألم نزرع قصائدنا
ونَجْنِ الماء والطلَّ
جمعتُ الماء من شغفي
فجاء الماء مُبتلَّا

لتختلط عندها نار الكتابة بجراح الشعر والكلمة وحب الوطن لتضيء القصيدة من رحم الألم والوجع، فالشعر عندها عبارة عن مغامرة مرتبطة بسلسلة من الأحداث تساهم في سيرورة فعل الكتابة، تقول في نص ( سيراها) ص 53:

"أنفاسها ذاك الحريق وناره
كم أشتهي أن أكتوي بلظاها
أن أحتسي من مائها في رعشة
فتضمني وتعيدني لصباها
كقصيدة أهوى اللجوء لصدرها
إن اللّجوء لصدرها حلّاها"

فالجرح عميق تمتزج آهاتها حاملة للحرف النازف لهيبا ووجعا يبحث عن الانعتاق الإحساس بقضايا العصر ليولد النص بكل ما فيه من حرائق، ولكن هذه الحرائق لا تحرق بقدر ما هي قبس ينير دروب الأمل والفرح في مدن تبدو خاوية، لتنزف وجع القصيدة وتحرقها بنارها فتتلوى كأنها تحتمي من وهج الهجيرة بظلال القصيدة.

وفي الختام يمكن القول إن الشّاعرة جهاد المثناني في (زهرة الحناء) بما تحمله قصائدها من أجراس تشتاق ريح العابرين بغربتها، لتثير كل سواكن الحب لهذا الوطن وإن لبس الجراح تعففا، كما عبرت عن ذلك، فالحب ذنب عند شاعرتنا ليس له استغفار، لتلامس بذلك ألم الأوطان وتحوّل صمتهم الموجع إلى صخب يطفئ جمر الوجع بنصوص نظرت بعيدا وحفرت عميقا في أعماق اللغة.

عرجون محمد هادي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى