الأربعاء ٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩
بقلم رامز محيي الدين علي

يوم المعلم

يحتفلُ العالمُ بأسرِه كلَّ عامٍ في الخامسِ من شهرِ أكتوبرَ (تشرينَ الأوّلِ) بيومِ المعلِّمِ احتفاءً بهذا المخلوقِ البشريِّ الذي يجدِّدُ الهممَ، ويُعلي رايةَ الأممِ بسلاحِ العلمِ والفكرِ والمعرفةِ، ولا يألُو جهداً في بناءِ الأجيالِ جيلاً بعدَ جيلٍ؛ من أجلِ تقدُّمِ الإنسانيَّةِ في شتَّى ميادينِ العلمِ والمعرفةِ.

وفي هذهِ المناسبةِ العظيمةِ أغرِّدُ وأشدُو بصوتِ الإنسانيَّةِ قاطبةً إلى كلِّ معلِّمٍ وفيٍّ يقفُ في ميادينِ وحلباتِ العلمِ والمعرفةِ طوداً شامخاً يخطُّ على صفحاتِ المجدِ والسُّؤددِ أنْصعَ رسائلِ التّنويرِ والتَّطويرِ، وينحتُ من صخورِ الواقعِ المريرِ أعظمَ تماثيلِ بناءِ الإنسانِ الحقيقيِّ، ويحطِّمُ أوابدَ الأبطالِ المزيَّفينَ الذينَ دمَّروا البشريَّةَ لبناءِ امبراطوريّاتِهم النَّرجسيَّةِ والعرقيَّةِ واللاهوتيَّةِ والاستعماريّةِ والاستبداديّةِ؛ بحثاً عن آلهةِ المالِ والقوّةِ والشّهوةِ الّتي دارَت رحاهَا بُغيةَ بناءِ هذا المعبدِ الثّالوثيِّ الحقيرِ الّذي لم يأتِ على البشريّةِ إلا بالويلاتِ والخرابِ والدّمارِ والذي تقفُ كوارثُ الطّبيعةِ عاجزةً أمامَ ما خلّفتْه من بشاعةٍ وهمجيّةٍ.

فتحِيّةً لك أيُّها المعلِّمُ المسكينُ المغلوبُ على أمرِه.. إنَّهم لم ينسَوا فضلَكَ! لقد تذكَّرُوك ومنُّوا عليكَ بهذا اليومِ ليتحدَّثُوا عنكَ ويقدِّمُوا لك كلماتِ الذِّكرى وهدايَا الجنودِ المجهولينَ الّذين يصنعُون التّاريخَ، لكنَّ الأوسمةَ تُمنحُ للقادةِ المتوارينَ خلفَ عباءاتِ التَّاريخِ!

فشكراً لكلِّ الأممِ الّتي تذكَّرتْك في هذا اليومِ، وعلمَتْ بأنّكَ كائنٌ حيُّ على مسرحِ الحياةِ، ولستَ دميةً يتقاذفُها الأطفالُ!

وشكراً لكلِّ الأممِ التي تذكَّرتْك ببيتِ شعرٍ أو هديّةٍ رمزيّةٍ تُضاهي بقيمتِها المعنويَّةِ أحدثَ ماركاتِ السيَّاراتِ الّتي تُقدَّمُ لراقصةٍ أومغنِّيَّةٍ لقاءَ حركةٍ مثيرةٍ أو صوتٍ حنونٍ يُحرِّكُ مشاعرَ أحدِ أركانِ الثَّالوثِ في المعبدِ الكهنوتِيِّ الطّاغي!

وشكراً لكلِّ الأممِ التي منَّتْ عليكَ بذكْرى هذا اليومِ، ومنحتْكَ شيئاً من الوقتِ عرفاناً بأنّكَ مخلوقٌ مازلتَ كائناً يتنفَّسُ أنفاسَ الحياةِ، ولستَ من المستحاثَّاتِ المنقرضةِ التي تدفّقتْ إليها أبحاثُ العلماءِ لمعرفةِ أسرارِها وخصائصِ تكوينِها!

وشكراً لكلِّ الأممِ التي مازالَتْ تنظرُ إليكَ أيُّها المسكينُ على أنّكَ كائنٌ بشريٌّ مستهلِكٌ للإنتاجِ الغذائيِّ والصّناعيِّ، ولستَ عاملاً ينتجُ السِّلعَ؛ ولذلكَ أتاحَتْ لكَ فرصَ العملِ والإنتاجِ بعد ساعاتِ استهلاكِك غيرِ المنتجةِ.. فتركَتْ لك حريَّةَ مزاولةِ المهنِ الحرَّةِ في قيادةِ سيّاراتِ الأجرةِ، أو إصلاحِ المعدَّاتِ الكهربائيَّةِ، أو ممارسةِ الأعمالِ الزِّراعيَّةِ، أو خياطةِ الملابسِ! والعملُ -كما تعلمُ- ليسَ عاراً، فرسولُنا العربيُّ عملَ في الرَّعيِ! فلماذا تتذمّرُ وتشكُو من تدنِّي راتبِكَ ومستواكَ المعيشيِّ.. ومَن أجبرَكَ على الدِّراسةِ الجامعيَّةِ لتصبحَ معلِّماً.. وكان عليكَ أن تختارَ أقصرَ الطُّرقِ المؤدِّيةِ إلى رومَا الكهنُوتِ الثَّالوثيِّ الّذي يحرِّكُ العالمَ.. فاسمحْ لي بأن أقولَ لك بصراحةٍ: لقد سلكْتَ أطولَ المسالكِ وأوعرَها للوصولِ إلى روما الفقراءِ والبائسينَ!

لقد كان بيتُ شوقِي: (كادَ المعلِّمُ أن يكونَ رسُولا) وبالاً عليكَ، كما كانتْ دعوتُه الإصلاحيَّةُ للعمّالِ بالصَّبرِ والتّحمُّلِ والعملِ الجادِّ كارثةً أخَّرتْ حركةَ التّحرُّرِ البروليتاريّةِ قروناً عديدةً.. فأنتَ رسولٌ عليك أن تتحمَّلَ وتصبرَ؛ حتّى لو أدْمَوا قدميكَ، أو شلُّوا أصابعَك، أو أحالُوك إلى حمارٍ يحملُ أسفاراً، لا تمتُّ إلى فكرِك ووجدانِك بصلةٍ، وعليكَ بالصَّبر حتى ولو بلغَتْ حصصُكَ الزُّبى، وغصَّت أدراجُك بالأوراقِ، وأحالُوا طباشيرَك إلى أزرارِ (بيانو) لتملأَ جداولَ وبياناتٍ وتحليلاتٍ بأرقامٍ ورموزٍ لا تمتُّ إلى عملِك بوشيجةٍ من وشائجِ المعرفةِ!

عليك بالتّجمُّلِ؛ حتى لو جعلُوكَ حارساً أو فرَّاشاً أو معاونَ سائقٍ تنظِّمُ الطَّلابَ عند وصولِهم وعند انتهاءِ يومِهم الدِّراسيِّ.. وليس من حقِّك أن تتذمَّرَ؛ لأنَّك تتقاضَى راتباً شهريَّاً، ولك رقمٌ ماليٌّ.. والأدقُّ من ذلكَ وبكلِّ صراحةٍ فأنتَ ذلك الرّقمُ الّذي لا يعنيهِم في حقيقةِ الأمرِ شيئاً.. فليسوا معنيِّين بمرضِك ولا موتِك ولا همومِك الأسريّةِ، وما عليكَ إلا الصّبرُ والتّجمُّلُ؛ لأنّكَ مهما بلغتَ من العلمِ والمعرفةِ، فأنتَ ما زلتَ أمِّياً ومعلِّماً بدائيّاً، يجبُ أن تخضعَ للتَّدريبِ المستمرِّ وأن تنصاعَ لامتحاناتٍ سيكولوجيّةٍ وفيزيائيّةٍ ومعلوماتيّةٍ؛ لأنّك في اعتقادِهم مازلتَ جنديّاً غرَّاً يجبُ تدريبُه حتّى يفهمَ كيف يتاملُ مع الحياةِ والطّلبةِ..

ولا تنسَ أنَّكَ تخضعُ لشتَّى أنواعِ الرَّقابةِ.. فلسانُك تحتَ رقابةِ المقصِّ، وفكرُك تحتَ رقابةِ التَّحقيقِ والطَّردِ، وحركاتُك وسكناتُك تحتَ مراقبةِ أحدثِ أجهزةِ التِّكنولوجيا المستوردةِ خصِّيصاً لمراقبتِك.. توقيعُك لم يعدْ يهمُّهم.. فعليكَ بإثباتِ حضورِك الشّخصيِّ بأداءِ القسمِ الألكترونيِّ الذي لا يقبلُ أيْمانَك إلا بأصابعِك، ولا تتوقَّعْ أنّك تستطيعُ أن تخدعَ أجهزتَهم حتّى ولو تمكَّنتَ من استنساخِ أصابعَ تشبهُ أصابعَك.. ولا تظنَّ أنّ قسَمَك يشبهُ قسَمَ المتَّهَمين حين يحلِفُون بالكتبِ المقدَّسةِ الّتي تنْطلي على السُّذَّجِ! أو يشبهُ قسمَ كبارِ القادةِ والمسؤُولينَ حين يمدُّون أيديَهم باستقامةٍ أمامَ أنوفِهم، ويقسِمُون بشرفِ الوطنِ والدِّين لإثباتِ صفاءِ النيَّةِ والطّويَّةِ من أجلِ الإخلاصِ للوطنِ ومواطنِيهِ، وفي رؤوسِهم ألفُ شيطانٍ يخطِّطون لهم للنَّهبِ والسَّرقةِ وخيانةِ الأمانةِ التي كُلِّفوا بها!

فلا تظنَّ أنّك ذلكَ المعلِّمُ الذي كان طوداً شامخاً في الأزمانِ الغابرةِ يأتمرُ بتوجيهاتِه الطُّلابُ وذووهُم، فلا تغترَّ بنفسِك أبداً.. أنتَ لستَ سوى دميةٍ يتلاعبُ بها القاصِي والدّانِي.. ولستَ سوى رقمٍ من السَّهلِ حذفُه أو نقلُه أو إلغاؤُه لإحلالِ أرقامٍ جديدةٍ مكانَه.. أنتَ لستَ سوى موظَّفٍ صغيرٍ يجبُ أن يخضعَ للتّدريبِ والتَّفتيشِ، فكلُّ شهاداتِك لا تعنِيهم البتَّةَ، وكلُّ خبراتِك السَّابقةِ ليستْ سوى مذكّراتٍ عليكَ الاحتفاظُ بها لنفسِك في سجِلِّ ذكرياتِك ومذكِّراتِك.. ولا يهمُّهم أبداً سوى مقاسِك الحديثِ الذي يفصِّلُونه لك تفصيلاً حسْبَ الرُّؤى والإملاءاتِ الجديدةِ القادمةِ من الفضاءِ الخارجيِّ!

صحيحٌ أنّكَ تُعطي بسخاءٍ دون أن تنتظرَ ثناءً من أحدٍ، كما تجودُ الأزهارُ بشَذَاها، وكما تتفانَى البلابلُ بأنغامِها العذبةِ دونَ انتظارِ مكافأةٍ.. لكنَّ سخاءَك عبثيٌّ بلا معنىً.. لأنَّ الأزهارَ -رغمَ جودِها برياحِينِها- فإنَّها تُقطَفُ وتُرمى في الشَّوارعِ أو تُهدَى لأناسٍ لا يستحِقُّون إلا الزُّقُّزمَ والعلقمَ.. وكذلكَ البلابلُ بالرَّغمِ من أصواتِها العذبةِ التي تترنَّمُ بها الطَّبيعةُ، إلا أنَّها تُلاحقُ بالبنادقِ، وتُودعُ وراءَ القضبانِ!

وصحيحٌ أنّكَ بجهودِك تُحدثُ نقلةً نوعيّةً في بناءِ الأجيالِ، إلا أنّ إنجازاتِك تُنسبُ لمن يقودُك، كما تُنسبُ بطولاتُ الجنودِ وتضحياتُهم في المعاركِ لقادتِهم، فلا يبقَى للجنودِ ذكرٌ، وتُمنحُ الأوسمةُ للقادةِ على أنّهم الأبطالُ الّذين صنعُوا النّصرَ!

وصحيحٌ أنّ حناجرَ الأدباءِ والكتّابِ والشُّعراءِ امتلأتْ بالثّناءِ عليكَ، إلا أنّ كلَّ ما قيلَ في مدحِك لا يُساوي سطراَ أو بيتاً شعريّاً في كتبِ ودواوينِ الغانياتِ أو القادةِ الملهَمينَ!

في الختامِ أقولُ لكَ: كان اللهُ في عونِك، وما عليكَ إلا الصَّبرُ والتَّحمُّلُ، وتجنُّبُ الانفعالِ، ووجوبُ طاعةِ أولي الأمرِ، وعليكَ بتقبُّلِ الحالِ وأجرُك على اللهِ.. ولا تطلِقِ العنانَ كثيراً لخيالِك، ولا تحلُمْ بأبعدَ ممَّا يُرسمُ لكَ، ولا تظنَّ بأنّكَ سقراطُ أو أرسطُو أو أفلاطونُ أو الفارابِي أو ابنُ رشدٍ.. أنتَ رقمٌ لا أكثرُ ولا أقلُّ.. فاعتبِرْ؛ فلعلَّ الاعتبارَ يعلِّمُ الحمارَ.. وكلَّ عامٍ ورقمُك بخيرٍ!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى