الأربعاء ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم أوس داوود يعقوب

24 عاماً على رحيل الفنان داوود يعقوب

أربع وعشرون عاماً مرت على رحيل الفلسطينيِّ المُعبَّأ بزهر البُرتقال والشَّمس، والوعد
الأديب والفنان والإذاعي الشَّامل داوود يعقوب .. كما عرفه كبار الشعراء والكتاب والإعلاميين الفنانين الفلسطينيين والسوريين
الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور: أبكى الأمة مرتين... وأبكاني ثلاثاً..
الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد: محمول في قلوبنا على عربة مدفع ..
الأديب السوري عادل أبو شنب: داوود يعقوب : نابغة في ميدانه.
الإعلامي السوري فؤاد عبد المجيد بلاط: محطات مع صديق راحل.
الإعلامي الفلسطيني فايز قنديل: داوود يعقوب .. الإذاعي الشامل.
الأديبة السورية قمر كيلاني: داوود يعقوب: الشجرة التي قصفتها الريح.
الأديبة السورية كوليت خوري: صفحة لي مع صديق رحل ..
الروائي يحيى يخلف: لنفكِّر بأشجار الزيتون..
الناقد الأدبي يوسف سامي اليوسف: أحقاً غاب وجهك..

أوس داوود يعقوب


« داوود شجرة فلسطينية الجذور.. فلسطينية المنبت. زرعتها النكبة في أرض سوريا فتماسكت ومتنت.. وأورقت ثم أثمرت ..»

الأديبة السورية: قمر كيلاني
«إذا كان هناك (فنَّان شامل) يُمثِّل ويُغنّي ويرقص، وربما يكتب ويُخرج، فهناك أيضا (الإذاعي الشَّامل) وهذا ما تقوله سيرة داوود يعقوب؛ زميلنا الذي فارقنا، عن حياة قصيرة لامعة مضيئة كالشِّهاب..»

الإعلامي الفلسطيني : فايز قنديل
في ساعات الصَّباح الأولى من يوم الجمعة 17/10/1986م ودّعنا الأديب والفنَّان والإذاعي الفلسطيني الشَّامل داوود يعقوب، رحل بعد مسيرة عمر امتدت 47 عاماً قضاها في العمل والمثابرة. وقد ظلَّ رغم كُلِّ العذابات، وحرارة اللُّجوء يُيَمِّمُ وجهه نحو فلسطين الَّتي غادرها صبيَّاً صغيراً.

وقد كان الفقيد في كل مجالٍ عملَّ فيه لمسة لا تُمحى ، وكانت رحلة العمر والعطاء حافلة بالانجازات ، فقد كان واحداً من الرَّعيل الأول الَّذين احترفوا العمل الإذاعي في وقت باكر في الساحة الفلسطينية وفي القطر العربي السوري ، وكان من مؤسِّسي المسرح القومي السُّوري ، وواحداً من المبادرين للمشاركة في تأسيس الاتَّحاد العام للكتَّاب والصَّحفيين الفلسطينيين.. من موقعه المؤثِّر في قاعدة شعبنا العربي الفلسطيني ،

كما ساهم في تأسيس المسرح الوطني الفلسطيني، ورَئِس أول رحلة قام بها المسرح الوطني الفلسطيني خارج ساحة الصِّراع المباشر، ولعب كذلك دوراً بارزاً في تأسيس اتحاد الفنَّانين الفلسطينيين ، وانتُخب كأول أمين عام له عام 1970م.

وفي أيلول (سبتمبر) 1970م شكَّل داوود يعقوب مع رفاقه خلف الميكرفون في إذاعة فلسطين ، من دمشق ، ما يشبه مجلس أركان ، كان له دور هائل في شدِّ معنويات المقاتلين في وجه المجزرة.. وفي التعبئة لمساندتهم في اجتياز المحنة..

ولم تكن موهبة داوود يعقوب، وثقافته الأدبية والفنِّيَّة عُمُوماً، والمسرحيَّة خُصُوصاً، محدودة عند كونه مُمثِّلاً يتقمَّص الشَّخصيَّة ويُجسِّدها في العرض على الخشبة، للمُتلقِّي، على أساس الالتزام بالنَّصِّ المكتوب، كما يُحدِّده الكاتب، أو ما يُمليه المُخرج، كما هو مُعتاد في الأعمال المسرحيَّة والفنِّيَّة، وإنَّما كان لداوود يعقوب باعٌ في التَّأليف والكتابة المسرحيَّة، خاصَّة مسرحيَّات المُمثِّل الواحد، فقد كان بذلك فنَّاناً شاملاً، مُتعدِّد المواهب وواسع الثَّقافة.
كما تنوَّعت رحلته الإذاعية والفنية ، بين التَّمثيل والكتابة والإخراج، في مجال الإذاعة والتِّلفزيون، وكان ذا صَّوت جهوري مُتميِّز ، وصفه الكاتب السُّوري الكبير زكريا تامر، بـ (الصَّوت الفانتوم) ، ذاك الصَّوت العريض المحمول على لُغة سليمة مُتدفِّقة، وإيقاعات تتموَّج بين رقة الوردة وهدير الشَّلال وقد أُطلقَ عليه في الوطن العربي (المُذيع الَّذي لا يُخطئ أبداً في اللُّغة)، حيث تميُّز في مجال الإلقاء والحرص على سلامة اللُّغة، وكانت شخصيَّة الأديب فيه تُغطِّي على شخصيَّة الفنَّان .

وفي بداية عام 1984م بدأت رحلة المرض مع الفقيد، ولكنه لم يستسلم، بل كان أقوى من الظروف، لقد كان يعمل كعادته خلال فترة مرضه، ويذهب كل أسبوع ليسجل برنامجه الإذاعي (حروف ومعان).

وللفقيد داوود يعقوب حضوره في الذَّاكرة.. هذا الحضور الذي يوازي حضوره يوم كان بيننا.. وسيظلُّ اسمه محفوظاً في سجلات الشرف، مثلما ستظلُّ آثاره المكتوبة والمسموعة من الذكريات التي لن ينال منها النسيان.

واليوم ونحن نحيِّ الذكرى الرابعة والعشرين لرحيله ، نتعرف على صفحات من رحلة العمر والعطاء بقلم ثلة من أصدقاءه و رفاق دربه من الشعراء والكتاب والإعلاميين والفنانين الفلسطينيين والسوريين..

الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور:
أبو يزن: أبكى الأمة مرتين ... وأبكاني ثلاثاً ..
أهو شكل من العبث، أم تعذيب للنَّفس، أن أتعامل معه بوصفه غائباً غياباً أبدياً؟ وأن يكون ما أكتبه له ـ بالتالي ـ نوعاً من الرِّثاء؟ فقد كان أبو يزن صالحاً لأن يكون محوراً في موضوعات شتى: المسرح، الموسيقا، السياسة، الشعر، والإذاعة بطبيعة الحال... ولم يخطر لي لحظة واحدة أنه صالح لموضوع الرثاء...

هذه القامة السمراء، والصَّوت الجوهري العريض، المحمول على لغة سليمة متدفِّقة، وإيقاعات تتموَّج بين براءة الوردة وزأرة الشلال، هذا المبادر السبَّاق، هذا ال... داوود يعقوب، كيف فعلها بأصدقائه ومعارفه ومحبيه، فغافلهم ومضى؟...

ولم لا؟ ألم يفعلها قبله محمد صالحية؟ وكانا ـ بالنسبة إلينا، نحن الفلسطينيين في سورية ـ توءمين، وزهرتين لنسغ واحد؟ فهل كان رحيلهما بالتالي شكلاً من أشكال الاحتجاج على ما يحدث للفلسطينيين في هذا العصر؟

عام 1964، وكان لي من العمر ثمانية عشر عاماً، التقيت أبا يزن لأول مرة.. كنت فرحاً كطفل فاجأه أبوه الفقير بهدية العيد، وأنا أحمل مجموعتي الشعرية البكر "الضواري وعيون الأطفال"، وكنت أبحث عن الشَّاعر كمال ناصر ـ رحمه الله ـ لأقدِّم له نسخة منها، فقيل لي: إنه في إذاعة دمشق..

وعلى باب الإذاعة، كنت أتلعثم بخطواتي وكلماتي، حين فاجأتنني الحراسات هناك بأن دخول الإذاعة ليس أمراً سهلاً، وإذا بشاب طويل، يضع يده على كتفي ويسألني:
 فلسطيني؟
 نعم فلسطيني..
وبكلمة منه، أدخل الإذاعة بصحبته.. وما أن يدخل مكتبه حتى يطلب لي القهوة، ويسألني مُداعباً ما إذا كنت "ابن" أحمد دحبور (صاحب المجموعة التي أحملها) وبعد أن أُقسم أمامه ـ بكل براءة ـ أنني أحمد دحبور شخصياً، يضحك، ويسكن من روعي، ويقدِّم لي نفسه:
 داوود يعقوب..
ولم يكن بحاجة إلى تعريف، فقد كان أشهر المذيعين في دمشق..
وقدَّمني إلى كمال ناصر، ويوسف الخطيب، وخليل خوري، ثم اصطحبني معه إلى البيت لنتناول الغداء.
حارة اليهود؟... كان للاسم رنين غريب ـ كما هو متوقع ـ فأنا أعيش مع أهلي في مدينة حمص التي ليس فيها يهودي واحد، ولما كان الإنسان عدو ما يجهل، فقد كان خيالي يتصوَّر اليهود، ككائنات عجيبة بأنوف مقوَّسة وعيون محرورة كالدم.. ومن أبي يزن تلقَّنت الدرس في هذا
الموضوع الشائك:
اليهود بشر مثلنا، وهم ليسوا أعداءنا لأنهم يعتنقون ديانة ما، فهذا شأنهم مع ربهم، ولكن الصَّهيونية التي جندت أعداداً كبيرة من يهود العالم هي عدوتنا... أما اليهودي الذي لم يهاجر إلى فلسطين، فإن بقاءه في بلده، يعني اعترافاً ضمنياً منه بأن فلسطين بلدنا نحن الفلسطينيين.

ولذاك كان طبيعياً أن عدداً غير قليل من اللاجئين الفلسطينيين إلى دمشق، عاشوا في حي الأليانس (حي اليهود) بكل أمان، ودون مشكلات..

قلت له: ولكنَّ كثيراً منهم هاجروا ويهاجرون إلى فلسطين..
قال: لا يمكن أن تأخذ موقفاً من مواطن حسب نواياه.. وقضية اليهود قضية معقَّدة، وبقدر ما توفر لهم الأمان، وتشعرهم أنهم مواطنون حيث يعيشون؛ بقدر ما تكسب ثقتهم.

وكان الدرس الثاني في المسرح.. فقد كان أبو يزن ـ رحمه الله ـ مغرماً بمسرحيتنا
«العادلون وألبير كامو»، ولما قلت له: إنه وقع عليّ الاختيار، في فرقة مدرسة الغسانية الثانية بحمص لدور يانك، أضاءت دهشة في وجهه الطفولي الأسمر، وهو يقول: هذا الدور الذي أحبُّ أن ألعبه أيضاً.. ولكن كيف فهمت شخصية يانك؟...
ولم يكن لعمري الطري آنذاك أن شخصية ما في مسرحية تحتاج إلى فهم من الممثِّل، فقد كنت أظنُّ ذلك من اختصاص المؤلِّف، وفي أحسن الحالات من اختصاص المخرج، وإذا بهذا المذيع العجيب يفاجئني بعلم قائم بذاته اسمه علم التمثيل، ويوجع رأسي بأسماء من نوع بريخت وستانسلافسكي، وبعد ساعة من الحوار الشيق، انتبهت إلى أمر طريف، وغاية في البساطة، وهو أننا أصبحنا صديقين..

لم أسأله مرَّة رأيه في شِعري، مع أنه كان يحب أن يسمعني، وكان يؤكِّد:
 مستقبل الشعر أن يُذاع في الإسطوانات والأشرطة.. لأن هناك سؤالاً معقَّداً لا يخطر للكثيرين، وهو أين يقع النَّص الشِّعري؟.. هل هو الموجود في المجلة أو الكتاب؟.. ولكن ألا يختلف تلقي الشِّعر بين قارئ وآخر لأسباب خاصة؟ كأنْ يكون أحد القراء ضعيف النَّظر مثلاً؟ ثم من قال لك: إن شكل إخراج القصيدة لا يؤثر سلبياً أو إيجابياً في القارئ؟ لذلك لابدَّ من قول الشعر بصوت الشاعر، أو بصوت يرشحه الشاعر..
 لكن من الممكن أن يختلف التأثير بين مستمع وآخر، وإذا كان أحدهما أصمَّ أو ضعيف السمع..
ويضحك ويقول: غلّبتني.. يبدو أنني أُزكّي مهنتي كمذيع على حساب الكتب.. وبالطبع كان لديه ـ لا جدال في ذلك ـ واحدة من أكبر المكتبات في دمشق، وكان قارئاً نهماً يحيّر مجالسيه بكثرة ما يعرف ويعلم.. مرة واحدة اختلفنا.. كان ذلك في انتخابات فرع سورية للاتِّحاد العام للكتَّاب والصَّحفيين الفلسطينيين، وكان شاعر فلسطين الكبير "أبو سلمى" غائباً، فكنت أحد الذين اقترحوا ترشيحه غيابياً، تكريماً لما يمثِّله في تاريخ الشِّعر الفلسطيني والعربي.. وفُوجئنا بأبي يزن يعترض، وكان اعتراضه عصبياً، انفعالياً، عنيداً، وكان المنطق ـ حسب الدستور ـ معه، إذ لا يجوز ترشيح الغائب إلا إذا كان في مهمَّة لصالح منظَّمة التَّحرير الفلسطينية، وأبو سلمى لم يقلْ: إنه يرشِّح نفسه، ولم يكن في مهمَّة.. ونجح داوود في مداخلته.. بعد الانتخابات سألته عن سبب موقفه، فقال:
 إيَّاك والخطأ.. أبو سلمى شاعر كبير، ولا يحتاج إلى صوتي أو صوتك، ولكنَّنا إذا تساهلنا على حساب النظام، دخل بذريعة أبي سلمى من يستحق ومن لا يستحق.
 بعد سنوات قليلة من تلك الانتخابات، جرت انتخابات جديدة، وتمَّ ترشيح أبي سلمى لرئاسة الاتحاد.. وكان في طليعة من رشَّحه : داوود يعقوب..
 ثم آن لي أن أسمع رأيه في الشِّعر.. كان ذلك في قاعة مسرح الحمراء في دمشق، وكان شعبنا يحتفل بذكرى انطلاقة الثَّورة الفلسطينية في عامها الخامس عشر.. واحتشدت الجماهير لتستمع إلى محمود درويش وسعدي يوسف وممدوح عدوان.. وكان الشاعر المرحوم الصديق أمل دنقل في أول لقاء له وآخر لقاء بطبيعة الحال ـ مع جمهور دمشق ـ وكنت الخامس فيمن أسهموا في تلك الأمسية.. يومها قدِّمنا داوود يعقوب، فلم يكن مذيعاً فقط، بل كان مشاركاً حقيقياً من خلال قراءته الجمالية المتميزة للشِّعر ووظيفته، والعلاقة الدَّقيقة بين المستوى الفني والوصول إلى الذوق السَّائد دون مساومة.

ولكن ماذا عن المذيع داوود يعقوب؟.. لست في معرِض توثيق لمسيرته الوظيفية بطبيعة الحال، وقد لا يشغلني كثيراً أنه كان "كبير المذيعين" في دمشق فترة غير قصيرة، لكنني لا أستطيع أن أنسى صوته في واقعتين تاريخيتين في حياة العرب المعاصرين:

الأولى يوم حرب 1967، عندما هدر صوته هاتفاً : سلمت يداك يا قاهرة .. ثم كيف خفت هذا الصَّوت بعد أيام قليلة حين فُوجئت الأمة بالنَّبأ العظيم، والواقعة الثانية عندما ذهب إلى القاهرة ليشيع زعيم الأمة جمال عبد الناصر، وكيف تهدَّج صوته أثناء البَّث المباشر.. لقد بكى في الواقعتين، فأبكى الأمة مرتين..

لم يكن مجرد صوت ذهبي، بل كان قادراً على جعل المستمع شريكه في الخبر، والتعليق بنقل جرعات عالية من الإحساس الخطير الذي يُعطي معدن المذياع عصباً وروحاً.

ولعلَّ دراسته العصامية، بالجهد الذاتي، لستانسلافسكي قد أعدَّته لهذه القدرة الخاصة في تقمص الحدث واستبطان المشاعر..

حين أخبرني الصديق المخرج سليم موسى أنَّ أبا يزن مريض، وأن السرطان لا يرحمه لحظة، دهشت، وتذكرت مداعبته المريرة للشَّاعر الراحل أمل دنقل، عندما قال: يا أمل.. نحن متمسكون بمعنى اسمك، فنحن من فئة لا يقوى عليها السَّرطان، وتشاء المفارقة أن يرحل داوود يعقوب
 أبو يزن ـ بغير مرض السرطان، فقد غدر بالمرض، وانتصر عليه.. ورحل عنا بنوبة قلبية!
نجحت في ألاّ أبكيه، وذات يوم، ودون استعداد مسبق.. يطالعني وجهه في تونس، من خلال وجه ابنه أوس، ولم أدرِِ ماذا جرى.. من خلّف ما مات ـ هكذا تقول أمهاتنا، وهكذا شددته من خلال ابنه إليّ.. وانفجرنا بالبكاء.

الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد:
داوود يعقوب... محمول في قلوبنا على عربة مدفع
داوود... يا صديقي... أيها الفارس لم يترجل ولكنه يواصل الرحيل...
معذرة... فأنا لا أكتب أدباً هذه المرة، و لكنني أواصل حواراتنا القديمة، التي لم تنقطع حتى في تلك السنوات التي امتلأت بالأحداث... وغبنا فيها كلٌّ عن الآخر...
وأشهد أنك لم تغادرني... حتى في أشدِّ الظُّروف مرارة وظلمة، وكثيراً ما استمعت إلى صوتك الذي يحتوي الصِّدق بين ما تقول... وما تفكر، ويولِّد لدى متابعيك إحساساً بهذا التوازن الذي تحققه عبر الأداة التي احترت لا من أجل التَّعبير عن الذَّات المفردة... ولكن لأنك كنت تطمح للتَّعبير عن أمة بكاملها...
وأتذكر يا صديقي... وما أكثر ما أتذكر، تلك الوقفة الفاضلة التي تعاهدنا فيها على الموت، كما يفعل الشَّجر. و أشهد، أنك وفيت بوعدك...
فقد سقطت في صراع غير متكافئ... ولكنك كنت أبداً قادراً على خوضه بمعنويات عالية ومتفوقة كما هو جدير بفارس...
وأشهد أيها الصديق... أنك كنت دائماً أنت في حزنك... في فرحك... وفي انتمائك للأرض التي اغتُصبت، وأنك الصارخ في برية العرب محذِّراً من الاغتصابات الآتية، ومواكباً للمعارك الصغيرة والمعارك الكبيرة... كما هو جدير بالشَّاعر الذي فيك، والمحارب الذي في أمتك... وأرضك... وهنا أودُّ أن أستدرك... فأقول... إنني لا أتحدث عنك للذين استمعوا إليك طوال ما يقرب من ربع قرن... فهم يعرفونك جيداً... ويحترمون فيك أنك حاولت تمثيلهم... في الصَّوت، والصدى... وفي الوقائع بجناحين يجمعان بين التراث... والمعاصرة...
واسمح لي ألا أتحدث عنك كمحترف إذاعي... أو إعلامي... بالرغم من تقديري لمثل هذا الدور إلا أن معرفتي بك... تتجاوز هذا الدور إلى دورك كمبدع... وكمناضل... يملك نظرة شمول لوطن يمتدُّ من الماء... إلى الماء... ولا يكون إلا بفلسطين... تاريخاً... وجغرافيا... ومواويل... وانتصاراً قادماً... وحتمياً... يبشِّر به الصَّوت الذي يتدفَّق من الحنجرة إلى القلب... وبالأعصاب... التي تتَّصل بجذور الشَّجر في بلادنا... وبالصخر... بالبرق، والرعد، والمطر، والسهوب الواعدة بالمواسم التي مرَّت، والتي سوف تأتي...
ولأنك أنت الشَّاعر يا داوود... فقد كنت قادراً دائماً على النفاذ إلى جوهر الشِّعر، و في النَّاس، وفي التُّراب، وفي الأغاني التي تمجِّد البطولة... والشهادة وتمجِّد الحسم في القرار الذي تأخذه أمة بكاملها على جبهة المقاومة...

يطول الحوار يا صديقي فلا ينتهي... كهذا الإحساس بالفراق، وكالشوق، والمحبة، والمسير الذي يبدأ أبداً من برٍّ جديد، إلى بحر لا ينتهي أبداً في كلِّ مرحلة صعبة من حياتنا العربية.. هذه الحياة التي كنتَ أبداً تُبدع دليل عملك من تفاصيلها كما هو جدير بالمناضل الأصيل.
ولأنك أنت... أنت... سنواصل حمل روحك في أرواحنا... ذلك أنك لم تكن علاقة عابرة في الشَّريحة الإنسانية التي عايشتك... هنا في المخيم، أو هنا في الإذاعة... أو هنا في أفق الفن والثَّقافة... لك مني أيها الصَّديق الباسل... والشُّجاع أن نموت واقفين... فالحياة في مثل حالتك جديرة بأن تُعاش... وإن من أجل أن تكون موجودة بفلسطين... وكريمة بالوطن العربي الذي حلمت به أبداً محرَّراً... وموحَّداً... و لا نقول... وداعاً... بل إلى اللقاء...
فأنت الآن محمول في قلوبنا على عربة مدفع...

الأديب السوري عادل أبو شنب:
داوود يعقوب: نابغة في ميدانه
(1)
لا أذكر أين ومتى عرفته، لكنني أذكر أنني عرفته منذ زمن بعيد .. كان شابا أسمر طويل القامة، ذا عينين تلمعان أبدا، كأنهما تحلمان أبدا. كذلك كانت صورته في عيني ثلاثين سنة أو أكثر أو اقل قليلا: لمعة عينيه سمة بارزة لم تفارقه قط، وإذا ما استحضرت صورته، اليوم، صافح عينيّ من داوود يعقوب عينان ذكيتان لامعتان.

كنا، جميعا، فقراء، لكن القلة لم تحبطنا، بقوة ذاتية انكب داوود على الدرس. كان يثقف نفسه بنفسه، وما من مرة رأيته إلا وكان الكتاب قريبا الى قلبه. أكان من أحلامه أن يصبح أدبيا يشار إليه بالبنان؟

ما كان صوت داوود، وحده، يشدنا إليه، كان يشدنا دماثة وظرف وحب للأدب والأدباء. كان داوود أديبا بحق، أديبا أدركته المهنة، لكن المايكروفون حرفه عنها الى مهنة أخرى لصيقة بها. وإني لأتذكر، اليوم، محاولته القديمة الأولى. كان يكتب ويمزق الورق ثم يكتب ويمزق ناشدا الأفضل، ولعله نشر أحيانا، ولو لم تجره الإذاعة الى حضنها.. لكان اليوم أديبا لامعا، ونتاجه المطبوع والمنشور أكثر من نتاجه المذاع والمسموع.

ولأن الظروف في بلادنا هي التي تصنع الناس، وليس العكس، قولبت داوودا ظروفه، وبعضها قاهر، فعمل في الإذاعة مذيعا ومعلقا وكاتب وداعية.

وممثلا ومخرجا، وأبدع فيها جميعا، فكان أديب. هذا النوع من الأدب... كسب الأدب المسموع داوودا وما تركه في مكتبة الإذاعة يبقى كالدر المتوهج في كومة من الفحم الكامد، يتوجه كلما مر عليه الزمان، وهكذا الجواهر الأصيلة، أصالتها تزداد بمرور الأيام.

(2)
لم يجمعني وهذا الأسمر طويل القامة، باذخ الجبهة همّ العمل الواحد فحسب، فمن قبل العمل جمعتنا صداقة متينة، ما شابتها يوما شائبة، وأذكر كيف أخرج لي عددا من الدرامات الإذاعية، لعل أهمها تلك التي أعددتها بنفسي عن روايتي "وردة الصباح" وأذيعت مرات من إذاعة لندن العربية، وتلك التي أعدها بنفسه عن الرواية نفسها وأذيعت من إذاعة دمشق. بل أن داوودا نهض بمهام أكبر من إخراج الدرامات للأذاعة، ومنها برامجه التي لخص فيها نتاجات الأدباء. فكانت أشبه ما تكون بمسيرات حياة في شرائط مسموعة. وإذا ما رمنا عرض كل فعل إبداعي من أفعال داوود في ميدانه.. لاحتجنا الى جهد كبير وورق كثير. حسبنا القول إنه كان نابغة في هذا الميدان، وجاء بما لم يستطعه الأوائل، وما أظن أن أحدا في العقد القادم سيجاريه في عطائه الثر، وهمته التي كانت سببا في توهجه وانطفائه معا.

(3)
وأعرف أن الهمّ الفلسطيني كان شغله الشاغل، وفي الأماسي الرطبة، وقت كنا نسير في طريق الصالحية، نتحدث وقد نختلف، كان يعرض لمأساة شعبه في كلمات قليلة، معبرة، حافلة بالتفاؤل. كان يؤمن أن الفلسطينيين عائدون، وأن انتشارهم في هذا الشتات الذي يملأ العالم من أقصاه الى أقصاه، هو نفسه الذي يجمعهم، فكل فلسطيني هو فلسطين نفسها، والتنقل يعني الغربة، وهذه لا تعني الالتصاق بأرض، بل شحذ الهمة وتوفير السبب للعودة إلى أرض الآباء والأجداد.

كانت حجته قوية أبدا .. وكنا نداعبه : "دافيد .. جاكوب" فكان يضحك ضحكة صافية ويقول: لي اسم نبيين من أنبياء الله. فمن له اسما نبيين معا؟

(4)
هل يملك من يعرف داوودا إلا أن يذرف دمعة.. دمعتين.. ثلاثا، على انطفائه، وهو في قمة شبابه وعطائه؟

كنت أعلم أي كفاح كافح، وأي عرق سفح، وأي جهد بذل.. وهو يدس بكتفه بين الأكتاف الطامعة في ألا تترك لأحد شيئا. من نقطة الصفر بدأنا، بل من تحت خط الفقر بدأنا، هو وأنا وآخرون، كنا لا نريد اعترافا بمواهبنا، فنحن أكثر اعتزازا بها من أن نطلب مثل هذا الاعتراف، بل كنا نريد أن نصل الى لقمتنا بعرقنا وبذلنا وموهبتنا. وهذا ما فعله داوود.

كان يسعى أبدا، وفي سعيه الحثيث كان يرتقي بنفسه وبيته خطوة خطوة، خاض داوود كفاحا مريرا على جبهات عدة، وما أن شارف على الانتصار حتى داهمه الوجع، واعتل قلبه. وتلك كانت فجيعتنا في داوود، فعلى عتبة الوصول هوى الفارس الأسمر ذو الصوت الرخيم والقامة الطويلة والجبهة الباذخة والعينين اللامعتين الذكيتين.

وعلى أن عزاءنا في صديقنا أن عطاءه مازال يتوجه، كالدر الثمين يزيده ألقا مع تعاقب الأيام.
الإعلامي السوري فؤاد عبد المجيد بلاط:

محطات مع صديق راحل

ـ 1 ـ
صباح يوم من أيام 1966 كنت أقوم بزيارة لصديق في الإذاعة والتلفزيون مع صديق آخر، وإذا بشخص يغادر المبنى يسلم على صديقي، وسلم عليّ قائلا، بصوت عميق مؤثر وقوي "داوود يعقوب". شددت على يده ولم أتركها، وأتأمله، فقد سمعته بالإذاعة مرات عديدة، يهدر مذيعا نشرة الأخبار، بصوت وأداء يشدّ السمع، ليدخل الأفكار إلى الدماغ، فقد كان مسيطرا، حتى قال أحدهم مرة، عندما يقرأ داوود الأخبار تكتسب الكلمات معاني، ويصبح الخبر حقيقة واقعة.

نظرت اليه فوجدت رجلا طويلا أسمرا، بعيون محدقة باستمرار، تميل الى الدهشة الفلسفية، والعمق الإنساني، فوراء صوته همّ كبير، تستطيع أن تلحظه من خلال رأسه المائل تجاه جسده الممشوق.

ـ 2 ـ
ثم جاءت المرة الثانية، عام 1969 في جلسة أنس، لمت بعض الأصحاب، وكان هو بينهم، وكالعادة في مثل هذه الجلسات، يتفرع الحديث، من المناقشة السياسية الجادة، إلى موضوع فكري جديد، الى نكتة يطلقها أحدهم، فتجد الجميع اتفاقا، على كل المناقشات، فرنّة الضحكات التي كان يتقدمها داوود بصوته كانت ترج القاعة، وتعلن أن موضوعا جديدا سيبدأ على بساط البحث.

ـ 3 ـ
ذهبت الأيام وجاءت أخرى نلتقي بين الحين والآخر، أسأله عن أوضاعه، فلاحظت إنه يتجه في المهنة اتجاه آخر من مذيع الى مذيع الى معد برامج، وبعد فترة الى معد بعض القصص والروايات الى تمثيليات إذاعية، أو مسلسلات إذاعية.

ـ 4 ـ
حزيران عام 1974 تحركت دمشق كلها وكثير من المحافظات السورية جاؤوا ليشاركوا في الذهاب الى القنيطرة في أول يوم بعد تحريرها، وكانت حشود الناس تذكرك بيوم الحشر، مئات السيارات مئات الشاحنات، ودخلنا القنيطرة وكنا نقف في الساحة الرئيسية، وكان داوود يقف معنا، وساعده طوله على أن يرى أكثر منا ما يجري حولنا، وفجأة انقض مخترقا الكتلة البشرية حاملا آلة التسجيل، وغاص الى الداخل، رأينا من بعيد أن العلم السوري بدأ يرفرف في الهواء فقد رفعه السيد الرئيس حافظ الأسد، بعد أن رفعه بيديه أمام الجموع وقبله، ثم بدأ يرتفع العلم ببطء واتزان على السارية.

بعد دقائق عاد داوود وأحسست أنه قد قصر قليلا وضعف قليلا، فقد كان يتصبب عرقا، ويلهث منحنيا، يكاد يقع من الإعياء، جلس على الأرض يتمتم "الحمد لله".
 ماذا بك ؟ سأله أحدنا
 لقد فزت بسبق صحفي قال داوود
 وكيف تفوز بهذا السبق وكلنا حاضرون ما الجديد لديك لا نملكه ولا نعرفه ولم نشاهده، علق أحدهم متهكما.

نظر داوود المنهك إعياءا نظرة عتاب علينا، وشفقة على الصديق، وقال:

لقد تحدث السيد الرئيس وكنت الوحيد الذي أحمل آلة للتسجيل وقد سجلت حديثه كاملا، وسمعته يقول، اليوم هنا، وغدا هناك مشيرا الى الأرض المحتلة، وتهدهدت دمعة صافية آتية من همه الداخلي، تدحرجت على وجهه المتفائل.

ـ 5 ـ
أواخر أيلول 1974، وجدت نفسي وإياه بطائرة واحدة الى موسكو، كان مندوبا عن الإذاعة، وكنت مندوبا عن مجلة جيش الشعب، والمناسبة زيارة كوريا الديمقراطية بصحبة السيد الرئيس حافظ الأسد رئيس الجمهورية العربية السورية. قضينا ليلة من العمر. تجولنا في الساحة الحمراء، وفي شوارع موسكو، وانتهى المطاف بنا على جدران الكرملين، نستنشق أنسام صباح خريفي هادئ، وكان صوت داوود يأتي همسا قويا ثابتا بأشعار فلسطينية تشم عبرها رائحة الأرض التي يشتاق اليها داوود ونحن.

بعدها ذهبنا الى الفندق ويومها قلت لداوود الذي كان متعبا:
 أتحداك يا داوود أن تقوم دفعة واحدة.
 يسأل داوود وكيف أقوم؟
 فقلت:
 إنك لفرط طولك تقوم بالتقسيط،

وزمجرت ضحكة أطلقها جوف متعطش للفرح والحياة، أيقظت عظماء الاتحاد السوفييتي المقبورين تحت جدران حائط الكرملين، وتملل الرفيق لينين، ولو أتبعها بضحكة أخرى، لقام لينين ليجد مكانا آخر ينام فيه.

في اليوم الثاني غادرنا موسكو الى "بيونغ يانغ" وكانت رحلة طويلة امتدت حوالي عشر ساعات، قضيت في النوم واللعب والمحادثات والنكات، وكان داوود لا يهدأ، محركا جو الطائرة الممل، وكان الزميل قاسم ياغي عرضا مستمرا له، ما عدا بعض الفقرات التي يأخذها قاسم، حيث يبدأ داوود بالقراءة.

في بيونغ يانغ، أمضينا أربعة أيام مرهقات من العمل الذي كان يبدأ الساعة الثامنة صباحا، وينتهي برسالة إذاعية يرسلها داوود الساعة الثانية صباحا، ما يعادل السابعة مساء في دمشق لفرق الوقت، وكان صوت داوود يخترق المسافات العظيمة ليصل الى دمشق، متخطيا رحلة من أصعب الرحلات، برنامجا، ونشاطا، وأحداثا ..

وبعد الساعة الثانية كنا نترك مكان إقامتنا ونذهب الى فندق الوفد، الذي كان في أحد قاعاته طاولة للبلياردو، التي لم يلعب داوود بها أبدا، وقرر أن يتعلمها في بيونغ يانغ، فكنا نذهب الى هذه القاعة، الدكتور صابر فلحوط، وخضر الشعار، وقاسم ياغي، وداوود وأنا، وهات يا لعب، وهات يا ضحك، داوود مصرّ على تعلم هذه اللعبة.

ـ 6 ـ
كانون ثاني 1978، جاءني مهنئا كوني أصبحت مديرا عاما للإذاعة والتلفزيون. يقول : "لست محسودا على ذلك، وأرجو أن لا تتغير، ولن أزورك، إلا إذا طلبتني"، ومرت حوالي 8 سنوات نلتقي ببعض أحيانا لأسباب تتعلق بأن داوود أخذ منحى آخر فترك الصحافة واتجه الى الفن وأصبح مخرجا إذاعيا، وقد خسرناه كصحفي إذاعي من الطراز الأول، وكسبناه مخرجا ومعدّا إذاعيا مجتهدا ودؤوبا، يتصدى لأصعب الأعمال الدرامية فيخرجها، وبذلك هدأ قليلا، ولم نعرف أن هدوءه هذا كان يتضمن ألما داخليا وهو المرض الذي واجهه بكبرياء عظيم، ولم نشعر به حتى تمكّن منه.

ـ 7 ـ

1985، كانت آخر الأعمال المشتركة بيننا، فقد شارك في دورة تدريبية لإعداد مخرجين دراميين للإذاعة.

رحمه الله، كان صديقا ودودا ومعطاء، أحببناه جميعنا، ومن أكثر الذين أحبوه بيننا، ورعوه، وداروه، وعرفوا إمكانياته هو المرحوم أحمد اسكندر أحمد رحمة الله عليهما.
الإعلامي فايز قنديل:

داوود يعقوب .. الإذاعي الشامل
إذا كان هناك "فنان شامل" يمثل ويغني ويرقص، وربما يكتب ويخرج، فهناك أيضا "الإذاعي الشامل" وهذا ما تقوله سيرة داوود يعقوب، زميلنا الذي فارقنا ، عن حياة قصيرة لامعة مضيئة كالشهاب..
لقد عرفت الإذاعة وعرف المستمعون داوود يعقوب سيدا للمنبر سواء أكان ذلك في أستوديو الأخبار والتعليق السياسي المغلق، أم في الميادين المفتوحة للنقل الإذاعي الخارجي خصوصا في أيام الوطن المشهودة، أي أعيادنا القومية.. ولكن طموح داوود كان أكبر وأكبر، وهكذا حقق شخصية "الإذاعي الشامل" دون أن يهدف طبعا الى صك مثل هذا التعبير..
ولست أتحدث هنا عن برامج المنوعات فهذه سهل أمرها مهما كانت صعبة، فأنا أعترف بأن برامج المسابقات عملية صعبة وتحتاج الى بديهة حاضرة متجددة، ولقد برع داوود في هذا الباب حتما.. ولكنني أتحدث بالدرجة الأولى عن تلك الأعمال الإذاعية التي تندرج تحت تسمية "البرنامج الخاص"...
وفي هذا أصنف داوود مع أبرع البارعين في هذا الباب كالأستاذ "علي عيسى" في صوت العرب، والأستاذ المرحوم: المأمون أبو شوشة" في إذاعة القاهرة. وهما من الرعيل الإذاعي السابق.

.. ولتأتأتحد
كي لا يكون كلامنا كلاماً غير محدد، فإنني أتذكر برنامجاً صنعه داوود يعقوب عن مدينة حلب ومحافظتها منذ خمسة عشر عاماً (عام 1972م) .. ومنذ بداية البرنامج تشعر أنك أمام عمل إذاعي عظيم يستحق البقاء، فلقد صدحت جوقة حلبية بأحد القدود الحلبية الشهيرة لكي يشق داوود إعصار موسيقى الآلات وموسيقى الحناجر البشرية، هادرا ببيت المتنبي في سيف الدولة:

كلما رحبت بنا الروض قلنا
حلب قصدنا وأنت السبيل

أنت إذن في حلب، دون أن يقول المذيع، أو على الأصح، الإذاعي الذي حقق البرنامج ذلك.. ولقد حافظت هذه البداية الضخمة على ضخامتها حتى نهاية البرنامج، الذي أتذكر أنه تضمن حوارا بين داوود وبين علامة حلب الكبير المرحوم "خير الدين الأسدي" وأرجو ألا تكون هذه الوثيقة الإذاعية قد مسحت، أي دثّرت ..

في ذلك البرنامج حقق داوود شخصية الإذاعي الشامل، فهو المذيع القارئ والمذيع المحاور، وهو المذيع كاتب النص الممتع والمفيد أيضا.. ثمة موهبة أخرى في داوود يعقوب هي الكتابة السياسية.. ففي أحداث أيلول عام 1970، تكشف لي داوود عن ذلك المعلق السياسي اللمّاح .. وما كان لهذا كله أن يتحقق دون قراءة مستمرة وعنيدة أيضاً، فلقد كان داوود يتحدث في مسائل كثيرة خارج إطار الإذاعة والفن والسياسة، ولكنه كان حديث الثقات، وفي بعض الحالات كان حديث ذوي الإلمام الجيد.. ولقد كنت استغرب هذه المعرفة المتشعبة. حتى قال لي بعض من يعرف داوود، أنه يقرأ كثيرا، وأنه لا يكاد يجد في رفوف مكتبته المنزلية مكانا للكتب الوافدة عليه دائما بعد أن فاضت بما فيها .. ولعل موهبة داوود الكبرى كانت حيويته الدافقة. وهذا ما جعله يحتفظ بمعنوياته العالية، بل جعله يرفع معنويات نفسه متعمدا حتى في الأيام التي سبقت انطفاء الشهاب..

لقد كنت أعرف .. وكان طبعا يعرف .. ومع ذلك فلقد سألته: كيف الحال؟ فقال سوف أصارع الموت ! ولم أقل شيئا، فأي حديث بعد هذه الشجاعة حديث سخيف.. لست أرثي داوود يعقوب.. إنني فقط أتذكر صديقا عزيزا .. سأظل أتذكره دائما ..

الأديبة السورية قمر كيلاني:
داوود يعقوب: الشجرة التي قصفتها الريح
عرفت داوود ـ رحمه الله ـ مع بداية السبعينات. كان صوته المدوي يملأ الأسماع مع قيام الحركة التصحيحية ثقة وتفاؤلا وأملا. وتحس وأنت تسمعه كما تسمعه الملايين أن قلبه يرقص بين ضلوعه طربا.. وإنه يقنعك بقلبه قبل أن يقنعك بصوته. إنها بشائر الوحدة العربية .. _ _ وداوود وحدوي. وإنها الطريق إلى تحرير فلسطين.. وهو فلسطيني .. وإنها شعارات التقدم والاشتراكية وهو اشتراكي تقدمي.
كان مؤمناً بالحركة التصحيحية .. وبقائدها الرئيس المناضل حافظ الأسد .. وما تحدث عنها مرة إلا وكان صوته يتهلل بشراً وسعادة وفخراً.
داوود شجرة فلسطينية الجذور.. فلسطينية المنبت. زرعتها النكبة في أرض سوريا فتماسكت ومتنت.. وأورقت ثم أثمرت .. وكان يقول:
ما الفرق بين سوريا وفلسطين؟ إنها كلها بلاد الشام.. وكان وفيا لسوريا.. كما كان وفيا فلسطين، وأحبهما وطنا واحدا لا وطنين، لكن هذه الشجرة القوية المتينة قصفتها ريح المرض دون أن تتزعزع .. أو ينخلع جذر واحد من جذورها أو تفقد غصنا من أغصانها.
قصفتها ريح ظالمة عاتية وهي في أوج العطاء..
وعرف داوود طريقه نحو السماء.
بيني وبين داوود ـ رحمه الله ـ كان تعاون إذاعي وثيق فداوود ليس فقط صاحب الصوت الإذاعي الناجح، بل مخرج وناقد وممثل أيضا. لقد امتلك مواهب كثيرة ساعدتها على الظهور ثقافته الغزيرة والعميقة، فقد كان قارئا مطلعا واسع الإطلاع هائما بحب الكتب وقراءتها، بل واقتنائها. ولم أفاجأ أبدا عندما زرته مع زملائي الأدباء في بيته فوجدت البيت مكتبة كبيرة.. ولم أفاجأ بتلك الرفوف المتراصة من الكتب التراثية جنبا الى جنب مع دواوين الشعر والدراسات حول القضية الفلسطينية ولعله كان يحرص على أن يعود كل مرة الى بيته وهو يحمل كتابا كما لو أنه يضيف شمعة تضيء معبد فكره ووجدانه.
كان داوود متحمسا للقراءة أشد الحماسة .. وخاصة للكتب الصفراء القديمة. وكان يعتقد أننا لا نوفي تراثنا حقه من الاهتمام والرعاية، وكان يأمل أن ينقطع يوما الى البحث والدرس والتأليف وأن يعود الى تلك الكتب تحقيقا وتنقيبا لتخرج الى النور برؤية معاصرة وبمنهج علمي وبطبعات أنيقة معقولة الثمن، وهكذا تستفيد الأجيال من التراث ويرسخ وجهنا القومي الحضاري أمام العالم. لكن ظروف عمله لم تساعد على ذلك .. والعمل لم يمهله.
أقول كان بيننا تعاون إذاعي في كثير من البرامج .. وكنت أفيد من رأيه حول بعض مسلسلاتي الإذاعية، ثم كانت تلك البداية لحلم له أراد تحقيقه بعزم وهو أن يؤسس (أرشيفا) للأدباء المعاصرين تحت اسم (رحلة عطاء) من عدة حلقات يواكب فيها حياة الأدباء مع نماذج من إنتاجهم مسرحيا كان أم قصصيا أم روائيا أم شعريا بإخراج متميز يؤديه مذيعون متميزون أو ممثلون معروفون.. وهكذا كان، فقد سجل لي رحلة عطائي حتى عام 1983 في خمس حلقات كل حلقة عبارة عن ساعة كاملة كانت جميعها نموذجا للعمل الإذاعي النظيف الجاد الذي يقتضي الجهد والصبر. ولعلها كانت مناسبة استطعت فيها أن أعرف داوود ـ رحمه الله ـ عن قرب.. تعرفت فيه الإنسان النبيل .. المخلص لقضايا أمته بدءا من إخلاصه لعمله .. الشجاع في قول كلمة الصدق.. البعيد كل البعد عن أن يرخص قلمه أو ينافي ضميره.

وعندما زرته في بيته أثناء مرضه وجدت فيه الأب المثالي العطوف.. والزوج الأمين الوفي لأسرته. يومذاك قال الصديق يوسف اليوسف وقد رأني مضطربة: سوف تجدين كم هو صامد أمام المرض.. إنه يعرف.. وسوف يحدثك إن لم تحدثيه .. وسوف يعزيك بنفسه عن نفسه قبل أن تتعزي له .. وبالفعل فقد فوجئت بتلك الروح المعنوية العالية.. وبذلك التقبل الفريد للمرض، كان شامخا مثل شجرة باسقة.

وكان يتحدث عن الموت لقاء إلهيا، لابد أن يستعد له وأن يكون في انتظار الدعوة اليه في كل لحظة.. فأي إيمان ذاك .. بحقيقة الموت كما حقيقة الحياة، ولم أجد إذ ذاك كلمة واحدة أقولها له وأنا مأخوذة بتلك النظرة الواقعية والمثالية بآن معا للحياة والموت.. وفي الوقت نفسه تحدث عن مشاريعه في التأليف .. وعن اعتزازه بمكتبته الضخمة وطاف معنا في أرجاء البيت يطلعنا على كتبه وهو يقول: إنها ثروتي الحقيقية.. أنا لن أترك لأسرتي سوى اسمي وهذه المكتبة.
كان لقاء حميميا وحارا رغم برودة الشتاء وصقيع الموت الذي كان يهب نحو الشجرة الساقطة.. وكنت أرتعد كلما لمحت أحد أولاده يدخل البيت أو أرى طيف زوجته الصابرة الطيبة يتنقل بين أرجائه، لكن صوتا في أعماقي كان يقول لي : إن إنسانا بهذا المستوى من الرجولة ومن الصدق مع نفسه ومع العالم لابد إن رحل أن يترك لهذه الأسرة زادا من المثل والقيم تكفيهم عزاء ويستمدون منها القدوة والصبر.

وكانت آخر مرة التقيت فيها بداوود ـ رحمه الله ـ في باريس في شهر نيسان 1985، كان الربيع باردا باهتا أشبه بخريف كئيب. ووصلني صوته بالهاتف الى الفندق بنبرة ثابتة قوية يسألني إن كنت أحتاج الى شيء .. وارتبكت ماذا أقول له وأنا قد جئت من أجل معالجة شقيقتي من المرض نفسه؟ وقرب معهد (كوري) وبين شارعين من شوارع باريس القديمة .. وفي حديثة صغيرة ذات مقاعد رمادية منطفئة، القينا على عجل. كان شاحبا ونحيلا، لكن عينيه كانتا تشعان بضياء غريب. قال لي دون أن تشوب صوته أي رنّة لم أو فجيعة: (الأطباء يقولون لي أنه لا داعي للرجوع الى هنا مرة أخرى .. لم يعد العلاج مجديا .. سأعود الى دمشق التي أحببت. أعرف أنني سأنتهي .. لكنني سأواجه الأمر بشجاعة).

ولم أدر كيف أخفي حزني الذي كنت أحاول الهروب منه من أجل شقيقتي ومن أجله أيضا.
قلت بابتسامة مقتسرة: أنا أشعر بالبرد والتعب.. ألا نستريح قليلا على هذا المقعد؟ أجاب: لا.. لا أريد أن أضيف الى همك هما آخر. أنا في حالة جيدة. حدثيني عن أختك. وانفرطت دمعتي وأنا أصطدم بطرف المقعد، قال وهو يضحك:

أمر لابد منه .. أمر لابد. ونظرت الى تلك الأشجار الضخمة وتساءلت:

كم عمرها؟ عشرات السنين؟ بل ربما مائة سنة.. ومع هذا ستموت يوما..
كل شيء الى زوال.. على بعد أمتار كانت أعداد كبيرة من المرضى داخلة خارجة حول معهد (كوري).. والناس في الشوارع لا يلتفتون نحوهم.. إن قانون الحياة الصحة الى جانب المرض.. والسواد يختلط بالبياض .. والخريف يتلو الربيع.

نظر داوود الى الساعة في الساحة العامة وقال: أودعك الآن.. أتمنى لأختك الشفاء.. وسنلتقي في دمشق..
ولم نتلق بعد ذلك أبدا..
ورغم توقعي لموته فقد حزنت من أجله جدا..
رحمه الله ..
رحل .. وظل في ذاكرتي نجما لا ينطفئ
كان زميلاً .. وصديقاً.. ورجلا كبيراً بقلبه .. كبيراً بصبره .. كان إنساناً.
الأديبة السورية كوليت خوري :
صفحة لي مع صديق رحل ..

(1)

مثل أوراق الخريف يتساقط الأصدقاء الواحد تلو الآخر ويوما بعد يوم. وأسمعك تقاطعني بصوتك المليء وبلهجتك البطيئة الساخرة وتحتج:
 ولكننا لسنا في خريف العمر يا صديقة.. نحن مازلنا في أول الصيف.. وأهز رأسي موافقة حزينة:
 صحيح يا داوود نحن في صيف العمر ..
فما لصيفي يحصد الأوراق الخضراء فيحيل الشموس في عيوننا أمطارا؟

(2)

وسنفلسف معا موضوع الموت.. كما هي العادة .. لا حبا بالفلسفة والتفلسف.. وإنما رفقا بأنفسنا ورحمة، لأننا حين نفلسف المصائب نساعد أنفسنا على تحملها..
وستقول لي مبتسما :
 الموت حق وكلنا إلى زوال .. هناك من يصدق صحيح، إنما الكل لاحق لا محالة..
وأعاتبك على الهامش همسا :
ـ ولكنك استعجلت يا صديقي !
وفجأة أراك تخليت عن لهجتك الساخرة وبدا التعب على وجهك بشكل واضح وأنت تعترف لي:
ـ تعبت .. صدقيني أنا تعبت..
وأستغرب كلامك وأدهش:
 تعبت؟ ممّ تعبت؟ في أحلك الساعات رأيتك مؤمنا بالمستقبل.. وفي أسوأ الأيام رأيت البسمة الساخرة لا تفارق شفتيك، وفي أثناء المرض رايتك تتعايش معه وتقاوم وتتغلب عليه..
وتقاطعني في هدوء :
 الأزمات الحياتية أنا قادر على اجتيازها، والمرض لن يتمكن مني.. فأنا قادر على سحقه .. صدقني أنا لن أموت إلاّ بالقلب..
وصدق القلب كلامك .. ونفذه ..

(3)
 مخيفة هذه المرحلة يا صديقي.. مخيفة ومرعبة.. فمن لم يقتله الرصاص قتله قلبه.
وستقول لي والدخان الكثيف يتصاعد من لفافتك المتلاحقة :
 المشكلة يا صديقتي هي أن القلب الكبير قادر على أن يستوعب هذه المرحلة، لكن هذه المرحلة هي الرديئة لأنها أعجز من أن تستوعب القلوب الكبيرة..
وأنصحك مثلما يفعل كل قريب:
 يجب أن تكفّ عن التدخين .. فهو الذي يتعبك ويؤثر على قلبك ..
وتضحك في مرارة، وتجيبني معاتبا والدخان يغمرنا بجوه الرمادي الكئيب:
 وكيف يؤثر على قلبي أنا الذي أحمل في قلبي هذا الوطن بكل نيرانه وحرائقه..

(4)

بلى.. إني أعرف أن كل أجزاء هذا الوطن توحدت في قلبك الكبير .. أنت الفلسطيني المؤمن..
بل أنت الفلسطيني ـ السوري المؤمن بالوطن الكبير.

وأعود سريعا الى ذكرياتي معك .. فأنا أعرفك منذ زمن بعيد ..
من ندوة الفكر والفن في دمشق، وكنت أتردد عليكم بين الحين والحين. ثم المسرح القومي، ثم الإذاعة والإعلام، فقد كنا نجتمع دائما.

نحن الذين كنا في مطلع شبابنا براعم تشق طريقها في دنيا الأدب والفن والصحافة، وتطمح في أن تسهم في بناء الوطن من جديد وعلى الشكل الحسن.

واستمرت صداقتنا صافية مخلصة صادقة.. صداقة كل من يجمعه الطريق الوحيد والإيمان الواحد والحماسة الواحدة والقلب الطيب.
حتى جمعتني بك يوميا مرحلة هامة ومشرقة من تاريخنا.. فانحفرت صداقتنا على جدار الأيام.
وأسمعك تعلق على كلامي والإشراق في قسمات وجهك:

ـ كانت عظيمة حرب تشرين .. هل تذكرين؟
نعم أذكر..
أذكر كيف كان الوطن يغني في قلبي وأنا أسمع من الإذاعة صوتك النابض بالإيمان _ والحماسة..
وكيف كان التفاؤل يغمرني كلما رأيتك ترافقني وآلة التسجيل على كتفك والمذياع الصغير في يدك..
وكيف كان الفرح العظيم يزغرد في عيني وأنا أسمعك تروي لي في وجد واعتزاز حكايات البطولة في وطننا.

(5)
وبعد؟ ماذا جرى بعد هذا؟
المآسي في الوطن الكبير، والتفتت والدمار..
ونحن معا نحلل ونعلق ونفخر ونفلسف الأمور لنتحملها..
واقتحمت حياتك الخيبات.
وداهم جسدك المرض الخبيث.
ولكنك لم تتخل لحظة عن هدوئك ولهجتك الساخرة وابتسامتك الطيبة وإيمانك بالمستقبل.
وكنا نظن مثلك أن الموت لن يقترب منك لأنه يعرف أن أحلامك كبيرة ولم تحققها بعد، كما كنت تقول..
ولكنك تحمل الوطن في قلبك حين يتمزق الوطن؟

(6)
ويقولون لي:
ـ هل تشاركين في برنامج إذاعي خاص عن الزميل داوود يعقوب؟
وأغمغم في حرقة:
ـ ربما استطعت أن أتحدث عن مذيع متميز أو عن فنان حقيقي أو عن إعلامي أو عن إنسان أصيل كداوود يعقوب..
ولكن من قال أنني قادرة أن أتحدث عن صديق عزيز تركنا على الطريق ورحل..
صوتي يخونني فاعذروني .. ودعوني وحدي أتحدث معه لا عنه على الصفحات.

الروائي يحيى يخلف:

لنفكر بأشجار الزيتون ..
عندما أتذكرُ الأيام الأخيرة لداوود يعقوب، أتخيلُ شجرة زيتون تتشبَّث بالأرض. تضرب جذورها في الأعماق، وتتمسَّك بالحياة، ولا تستسلم.
كانت قوَّة الحياة في عيني هذا المثقَّف الفلسطيني أكبر من أن توصف، لأنه انحاز إلى الحياة، وإلى كلِّ ما فيها من قيم، وجمال، وإبداع.
ولا أظنُّ أن هذه الكلمات القليلة يمكن أن تُحيط بسجاياه الشَّخصية، ومزاياه الثَّقافية والأخلاقية، ووطنيته الصادقة، فهذا المثقَّف الذي عمل مُذيعاً لسنوات طويلة في إذاعة دمشق؛ امتلك القدرة على الوصول إلى قلوب النَّاس، بسبب البساطة التي يتحلَّى بها صوته، والصِّدق الذي تلمسه في النَّبرات الخارجة من حنجرته، والأبعاد العميقة والعريضة للصَّدى الذي يتركه عند المُتلقِّي.
من هنا، كان المرء يحبُّ داوود يعقوب انطلاقاً من (الأذن تعشق قبل العين أحياناً)!!
لقد كان داوود يعقوب إنساناً فلسطينياً، خرج من صفوف البسطاء، واجتهد، وواظب، وثقَّف نفسه، وامتلك القدرة على العطاء، وعَكَسَ شخصية الفلسطيني الحضارية.
ولقد عرفنا داوود يعقوب زميلاً لنا في الاتحاد العام للكتَّاب والصَّحفيين الفلسطينيين، عرفناه سبَّاقاً إلى الانخراط في العمل الثَّقافي، سبَّاقاً إلى الانخراط في العمل النَّقابي، سبَّاقاً إلى الالتزام بالوحدة الوطنية الفلسطينية، يجمع ولا يفرِّق. ودائماً كان صوته دافئاً.
كان عفَّ اللِّسان، يتمسَّك بالسَّجايا الأخلاقية.
كان صوته دافئاً، يصل إلى قلوب النَّاس وعقولهم.
وكانت فلسطين شعلة متوهِّجة في صوته، وكانت وردة حنون.
في الأيام الأخيرة من حياة هذا الرجل.. هذا الإنسان.. هذا المثقَّف.. كان يستقبل الأصدقاء في بيته في مخيم اليرموك بدمشق، ويقول لهم: سوف أنتصر على المرض.
كان يعرف أنه يُعاني من السَّرطان، ولكنَّه يقول: سوف أنتصر على المرض.
كانت الحياة في عينيه أقوى من الداء.
ولم يرضَ أن يظلَّ حبيس الفراش، بل كان يلبس ملابسه الأنيقة، ويخرج إلى المخيم.. يجلس مع النَّاس البسطاء، يتناقش معهم في السِّياسة ويتحادث معهم في همومهم، ويتسلَّى في المساء بلعب الورق أو طاولة الزَّهر..
كانت حركة الحياة في مخيم اليرموك لا تتوقف.. والمخيم يتكوَّن من شارعين رئيسيين.. شارع فلسطين، وشارع اليرموك. كانا يتدفَّقان بالحياة كنهرين عظيمين.
والغريب أن الشَّارعين ، النَّهرين كانا يصبَّان أمام داره مثلما يصبُّ دجلة والفرات في شطِّ العرب.
كان داوود يعقوب يجلس في المساء، في أيامه الأخيرة، يُشاهد حركة الحياة، ويحرس بعينيه بساتين أحلامنا جميعاً، وكروم طفولته وطفولتنا..
لعلَّه كان يفكر بالأيام الجميلة التي لم تأتِ بعد..
لعلَّه كان يحلم بالانتفاضة، وبأسوار القدس.
لقد رحل داوود يعقوب..
رحل وترك تراثاً من السَّجايا الأخلاقية والحضارية..
ترك لنا القدوة والأمثولة.
فلنتأمَّل تجربته، ونفكر طويلاً بأشجار الزَّيتون.

الناقد الأدبي يوسف سامي اليوسف:
أحقاً غاب وجهك. ؟
أبا يزن
ها نحن الآن تفصل بيننا المسافة المطلقة، تحجر كلاً منَّا عن الآخر أمداء من المُحال أن تعبرها أيُّ سرعة على الإطلاق.
بالأمس كانت المسافة بضع دقائق وحسب، أما اليوم؛ فتعجز السَّنوات الضَّوئية والأرقام الفلكية عن اجتياز هذا الحاجز المُطلق.
ياللموت، ياللحظة التي تُطفئ جميع اللحظات؟ أحقاً غاب وجهك؟ أكادُ لا أصدق، وأعلم أن رفض هذه الحقيقة ليس أكثر من دفاع داخلي، أُدلس به على نفسي كيلا تتحمل وقع الكارثة.
ومع ذلك أريد ألا أصدِّق ما قد حدث بالفعل، ولو أنَّ في ذلك شيئاً من خصائص الأطفال الذين يُؤثِرون الوهم على الحقيقة.
أحقاً غاب وجهكَ؟ أحقاً أنْ لا لقاء أبداً بعد هذا اليوم؟
لن نجلس معاً نتقاسم الهمَّ الفلسطيني، الهمَّ الوجودي، سرُّ التَّاريخ، وسرُّ الإنسان؟
لن نتقاسم بعد اليوم الرغيف، وحبة البندورة، وصحن الزَّيتون في أواخر السَّهرة، بعدما نكون قد احتسينا من القهوة والشَّاي أكبر كمية ممكنة؟
أتراها مجرد عبث وسدى تلك الليالي المأنوسة الطويلة الحافلة بالجدل والنِّقاش؟
أللموت كلُّ شيء ولا طائل تحت أي شيء؟
يوم كنَّا في ميعة الصِّبا كنا نلتقيك في حنايا المخيم، وعلى تخومه لنمارس بعض الرياضات، ولاسيما القفز العالي، والقفز العريض.
كان جسمكَ العملاق أفضل أجسامنا وأقواها، وبعد ذلك بقليل صِرنا نسمع صوتك من خلال المذياع، ياله من صوت ذي رنين معدني نادر.
ومنذ سنتين اثنتين وحسب لاقيناك في المخيم من جديد، بعدما رحلت من المزة.
دخلت إلى أرواحنا فجأة وبغير استئذان، لأن أمثالك ـ من ذوي الحضور العزيز ـ لا يستأذنون المرء حين يدخلون إلى حرم النفس.
تُراك دخلت بغير استئذان، أم تسلَّلت إلى أرواحنا كما تتسلَّل رشفات النَّبيذ؟
يقيناً، ما عُدتُ أذكر كيف انخرطت في ثلَّتنا، فصرت مركزها، والقطب الذي تدور عليه.
فلا ريب في أنَّ الناس يحتاجون دوماً إلى رجل مثلك؛ ثري بالدِّفء ،ويملك أن يوزِّعه على الآخرين.
أحببناكَ على الفور، و لكن ـ و بعد هنيهنة وحسب ـ هطل الموت غزيراً قوياً
مُترعاً بالجبروت.
وأصفرت وجوهنا هلعاً، يا أبا يزن، أما أنتَ فوحدكَ الذي بقيت متماسكاً، لتشجعنا على احتمال المُصاب، كما لو أنَّ الأمر كان مقلوباً، كما لو أنَّنا نحن المرضى وأنت المُعافى.
ما رأيتُ أحداً في حياتي كلِّها أقدر منك على مواجهة الموت، وفي هذا الظَّرف حصراً تعلَّمتُ أنا شخصياً أن الإنسان ما وُجد على الأرض إلا لكي يطيق.
ذبلتَ، ونحن نراكَ تذبل، ولا نملك صنع شيء ذي بال.
ذبلت وأنتَ تفكر في إنشاء مسرح في المخيم، ويوم اقترحت علي أن نمارس معاً ضرباً من القراءة سمَّيتها القراءة التَّمثيلية، ويوم شرحتَ لي ما تعنيه بالقراءة التَّمثيلية، أدركت أنك مترع بالطَّاقة المسرحية، وأنك قادر على أن تهب الكثير.
أهكذا تغادر هذه الدنيا، قبل أن تملك الفرصة الكافية لإخراج ما في داخل روحك
من محتويات؟
أيغيب وجهك وأنت في أوج القدرة على العطاء؟
ولكن أحقاً غاب وجهك؟
لا، أبداً، يا داوود، ما غاب وجهك، فأنت حيٌّ فينا، تطلُّ علينا من داخلنا، وستظلُّ حياً مادام _ في أجسامنا عرقٌ ينبض.
كلمات في البال .. إنصافاً لرفيق الدرب الشائكة..

الإعلامي الراحل يحيى الشهابي "عميد الإذاعيين السوريين":
" جمعتنا معا "حلبة العمل فكان لإخوانه وزملائه نعم الرفيق والصديق وسرنا معا في الدرب الشائكة وما عرفنا عنه أي تقاعس أو تهاون في مجال عمله ومحبته.
ذكروا عن عمله، عن أخلاقه، عن صفاته صورا تجسدت فيها ذكراه، وأنصفوا الرجل، فما كان في كل ما ذكروا عنه إلا المخلص الوفي قوميا وإعلاميا.
وعرفت في الرجل دونهم صفة الرجولة والبسالة في مجابهة محنته القاسية، ذات يوم، أقتحم عليّ غرفتي في مبنى التلفزيون، وكنت مسؤولاً عن تفتيش وزارة الإعلام ومؤسساتها وكان الرجل قد عاد من رحلة المعاناة والصبر، وما توقف وإنما كانت تحيته لي : عدت وأنا أعرف مصيري وأفضل أن ألقاه مجالدة في عملي وقوميتي وأنت أول وآخر من أقول له ذلك. وحبست الدمعة في عيني وابتسمت..
هذا هو الرجل الذي فقدناه. يكفيه أنه معنا، ما غاب عنا ولن أقول فيه أكثر من ذلك ".

الفنان السوري الراحل نهاد قلعي:
" كان انطباعي عن داوود يعقوب يوم عرفته أن شخصية الأديب فيه تطغى على شخصية الفنان الممثل، و رغم ذلك وجدت نفسي أسند إليه أهم دور في أول مسرحية أخرجتها للمسرح القومي و كانت مسرحية " المزيفون " من تأليف الكاتب المصري الكبير محمود تيمور، الذي سعد لاختيارنا مسرحيته فجاء يزرو القطر و يطلع على المراحل الأولى للتمارين... فتضاعفت سعادته من خلال النقاش الذي جرى معه، حول المسرحية بعد فترة التمرين، و استأثر داوود بالجزء الأكبر من هذا النقاش... فقال يومها تيمور بأنه سيعود إلى القاهرة مطمئنا إلى أن مسرحيته في أيد أمينة، و لم يخطئ حدسه فقد كان داوود هو المبرز حين عرض المسرحية ".

الفنان السوري الراحل نزار شرابي :
_- " لقد كان داوود عربي القلم و عربي الشخصية بكل ما في هذه الكلمة من عزة و كرامة و رجولة و كان وفياً لأصدقائه و زملائه في حياتهم و بعد مماتهم.
وقد تميز المرحوم بقدرات فنية متعددة بدءا من إذاعة البرامج و نشرات الأخبار و انتهاءً بالكتابة، كما تميز بقدرته الفذة على العمل كمذيع في الاحتفالات الوطنية و المناسبات القومية، لقد كان مذيعا و ممثلا و كاتبا و مخرجا، و بهذا فقد استحق لقب الإذاعي الشامل.
ولو أردنا الحديث عن زميلنا الراحل في مجال الإخراج الإذاعي نقول: إنه كان بحق مخرجاً متميزاً لبرامج الدراما و المنوعات معاً فقط أخرج عدداً كبيراً من الأعمال الدرامية و كان للمناسبة الوطنية اهتمامه الخاص حيث كان يهيئ نفسه دائماً لإخراج عمل ما عن تشرين أو الجلاء... و كان مسلسل " اللهب الأخضر " من الأعمال الهامة التي أعدها عن رواية للأديب السوري فارس زرزور عام 1983م... أما برامج المنوعات فقد أعد و أخرج داوود الكثير منها و التي يصعب علينا إحصاؤها فإن مكتبة الإذاعة خير شاهد على هذه البرامج، و قد كان من أهمها برنامج " حروف و معان " الذي أعده عام 1984م و قدمه منه 147 حلقة على مدى سنتين و نصف إضافة إلى البرامج التالية: ( ليالي الشام، شخصيات من الأغاني، جائزة المدينة، أحلى ما عندهم و رحلة عطاء، وغيرها الكثير).

في عام 1986م أخذ داوود يهيئ نفسه لكتابة و إخراج مسلسل جديد عن تشرين التحرير لكن المرض لم يمكنه من المتابعة، و في أحد الأيام قبيل وفاته حضر إلى إستديو الإذاعة نشيطا مليئا بالحيوية يحمل بيده كتاب شعر و طلب من زميله المخرج مازن لطفي أن يسجل له بعض القصائد فكان له ما أراد و عندما انتهى ودّع زملاءه قائلا: إنني ذاهب فوداعاً، فربما لم نلتق لأن هذه القصائد جعلتني أحس و أنا أؤديها بأنني لن آتي إلى هنا ثانية... قالها و الدمعة جامدة في عينيه ثم غادر متكئاً على عكازه التي كان يعتمد عليه آنذاك ".

الأديب الفلسطيني الراحل الدكتور محمود موعد:
" كانت فلسطين تمتطي أمواج صوتك تحدو العروبة في طريق الشمس، وتلامس نبض القلب الإنساني الكبير .. توقظ النائمين، وتتحسس الجراحات النازفة في كل مكان..
.. كان موقفك واضحاً لا لبس فيه.. كانت كلماتك مباشرة لا مجاز فيها: مع إدراكك أن الوسائل مازالت تنقصنا.. وأن الطريق غير سالكة.. وأن العالم المخدوع يقف ضدنا.. فأنت لم تكن لترضى أن نتنازل حتى عن قرية في فلسطين لئلا يفجع فلسطيني آخر بفجيعتك بقريتك الصغيرة.
.. سيبقى مكانك فارغاً.. مغلفاً بصمتك الأبدي الذي فاجأنا بالرغم من توقعنا له وبالرغم من مخاوفنا التي كنت تحاول دائما أن تبددها لنا..
ماذا عنّا بعدك يا أبا يزن؟ لا شيء جديد .. كل ما تعرفه دماؤنا مهدورة.. رؤوسنا ينادي بالمزاد عليها.. يريدون بأي ثمن إسكات ألستنا وشل أيدينا.. ومصادرة عقولنا.. وأنت تعرف ماذا ينسجون لنا هناك وماذا يخططون.. وكيف يخرجون الأفاعي من أكمام السحرة.
ستعيش بيننا طويلاً.. طويلاً.. سنجدك في كلماتك التي لا تموت.. فيما تركته من بصمات لا تمحى.. في وجوه أطفالك وفيما سيفتح عنهم المستقبل.. في إبداعات إخوتك .. في صبر زوجتك، سنجدك في جلساتنا في مقعدك الفارغ الذي ينطق عنك.. ".

الشاعر الفلسطيني الراحل فواز عيد:
" شاب لامع متعدد المواهب.. حنجرة دافئة تتحدَّث إلى الملايين يومياً في الثَّقافة والأدب والحبِّ.. ثم فجأة تسقط الدَّمعة الحارة إلى الداخل.. وترتَبِك الحنجرة الدافئة، وهي تكلَّف بإبلاغ الناس جميعاً خبر الانكسار. ترددتَ قليلاً.. بكيتَ.. اتصلتَ برئيسك المباشر.. فجاءت الأوامر صريحة.. كفكفتَ دموعك.. وأعلنتَ نبأ الاندحار صبيحة يوم من أيام حزيران عام 1967. ومنذ ذلك اليوم.. ابتدأ الصَّوت يتقصَّف، والقامة الطويلة تذوي.. تحرَّك الحزن ليصنع فيك ظلامك الدَّاخلي.. شاخت خلاياك واحدة بعد أخرى: لا شيء يقتل كالحزن.. ولا شيء أمرَّ من أن يسمع المرء خبر الوطن وهو ينكسر.. إلاّ أن يكون مكلَّفاً بأن ينقله للناس جميعاً ليحزنوا وينكسروا ".

الفنان السوري الراحل محمود جبر:

" إننا خسرنا زميلاً بذل حياته في خدمة الأدب و الفن دون أن ينسى و لو للحظة قضية شعبه الأساسية، قضية الجرح الفلسطيني، التي ترافق كل وطني فلسطيني شريف و مخلص، في أي مكان يحل فيه، و إلى أي أرض يرحل إليها مهما بعدت به الديار و مهما شط به المزار.

لقد كان الفقيد رحمه الله، مناضلا يحمل في صدره جرح وطنه دون أن يشغله ذلك عن خدمة قضايا أمته العربية الأخرى، فكان مثالا للمكافحين الذين لم يوفروا جهدا أو وقتا في سبيل نشر الأفكار العظيمة و ترسيخ القيم النضالية الوطنية و القومية، و كان بذلك ممن استحقوا كل احترام و تقدير في حياتهم و في مماتهم.

إن نقابة الفنانين في القطر العربي السوري ترى في وفاة أحد أبنائها البارزين خسارة جسيمة لا تعوض لكنها تتعزى بأن اسمه سيظل محفوظا في سجلات الشرف مثلما ستظل آثاره المكتوبة و المسموعة من الذكريات التي لن ينال منها النسيان ".

فنَّان الشَّعب رفيق سّبيعي:

" عرفتُ الفقيد مُنْذُ نُعُومة أظفاره، عندما التحق أوَّل حياته الفنِّيَّة بفُرقة أنصار المسرح، الَّتي كان يُديرها المرحوم صبري عيّاد، عرفته فتيَّاً يافعاً، يقرأ بنهم شديد، عرفته مُثقَّفاً ضليعاً باللُّغة العربيَّة وأدائها، مُجتهداً جدَّاً، إضافة إلى ولعه الشَّديد بالمسرح؛ حيثُ كان أحد مُؤسِّسي فُرقة المسرح القومي؛ وحيثُ عملنا مسرحيَّة "أبطال بلدنا"، ولم يقتصر عمله المسرحي مع فُرقة واحدة؛ حيثُ كان ينتقل من فرقة إلى فرقة، نتيجة حُبِّه للمسرح ، فعمل مع " ندوة الفكر والفنِّ "، إضافة لفرقة "أنصار المسرح " ، بعدها انتقل إلى الإذاعة ، حيثُ أضاف إلى مكتبتها العديد من الأعمال الدَّراميَّة الَّتي كتبها أو أعدَّها أو أخرجها، ولذلك أستطيع القول إنَّ فُقدانه خسارة لا تعوَّض ".

الفنان السوري عبَّاس النُّوري:

" ماذا يُمكن أنْ يُقال سوى كلمات قليلة: لقد فقدنا رجلاً بسيطاً بساطة الحقيقة، وعميقاً عُمقها أيضاً. لم يكن مُكترثاً لمرضه، كان مُلتفتاً بكُلِّيَّته نحو التَّحقيق، تحقيق شيء ما، فِعْلٍ ما، كان -رحمه الله- يكره أنْ ينتظر كالآخرين، لذلك كانت حياته دوَّامة مريرة من الصِّراع مع الواقع، والمرض، والأدب، والفنِّ، وفي النِّهاية ماذا أقول سوى إنَّه كان فنَّاناً، يجب أنْ يعيش أكثر ".

الفنان السوري عبد الهادي الصَّبَّاغ :

" وداعاً أيُّها العزيز… وداعاً أيُّها الأُستاذ… وداعاً أيُّها الفنَّان… كُلُّ كلمة صادرة من فمك الطَّاهر، سنظلُّ نتذكَّرها، كُلُّ مُلاحظة إخراجيَّة، وسنُتابع طريق الفنِّ الأصيل من بعد رحيلك، هذا الطَّريق الَّذي حملتموه قبلنا ".

الفنان السوري مازن لُطفي :

" لقد كان داوود يعقوب، رحمه الله، فنَّاناً مُتميِّزاً في عمله، مُلتزماً به، وله طريقته ومدرسته الفنِّيَّة الإخراجيَّة، فقد كان يقرأ النَّصَّ الَّذي يُريد إخراجه عدَّة مرَّات قبل أنْ يُوزِّع شخصيَّاته؛ حيثُ إنَّه كان من أبرز المُخرجين في إذاعة دمشق، بالإضافة إلى أنَّه كان مُقدِّماً ومُؤلِّفاً ومُعدَّاً للكثير من الأعمال الدَّراميَّة الجادَّة، وكان يُحبُّ الفنَّان المُلتزم بمواعيد العمل، ويحرص دائماً على أنْ يكون عمله فوق المُستوى المطلوب، وقد كان يُفيد زملاءه في خبرته في مجال الأدب والفنِّ والإعلام ويُوجِّههم إلى الطَّريق الصَّواب ".

الفنان الفلسطيني صبحي سُليمان:

" تعجز الكلمات أنْ تُعبِّر عن ألمي في هذا الوقت، فبالإضافة إلى أنَّني خسرتكَ يا أبا يزن، كفنَّان مُبدع، فقد خسرتُ الصَّداقة الَّتي كانت بيننا، دمعة تنفر من العين وتقول: وداعاً ".
الإذاعي السوري عبد الكريم إسماعيل:

" .. كنت لنا طاقة عملاقة في فن التعامل مع العمل الإذاعي و في فن إكتساب الثقافة و المعرفة، و لم تكن رحلتنا معاً، أنا و أنت، إلا تجربة حياتية تزيدنا خبرة و إصراراً على التمسك بأخلاقية العمل و قوة الجلد، و عمق النجاح الذي سعينا لتحقيقه.

أذكرك رجلا كبيرا أيام حرب تشرين... فلقد حاربنا يومها العدو بمواقعنا و كنت المشجع و المقاتل و الإنسان الصبور و القومي الذي انتظر كما انتظرنا قرار حرب التحرير الطويلة ".

الصحفي السوري سمير المصري:

" كنت تخاله في مطلع الستينيات، بأنه أقوى من كلِّ العراقيل.. وهو يبدأ رحلة الكفاح مع إثبات الوجود.. فقد كان يعمل في كل المجالات الفنية والأدبية والصَّحفية بالوقت ذاته.. بدأ هاوياً للتَّمثيل في النَّوادي الفنية الدِّمشقية، ثم انتسب إلى "ندوة الفكر والفن" .. وكان عمره حينها لا يتجاوز العشرين عاماً.. وكان في الوقت ذاته يكتب في العديد من الصُّحف زوايا النَّقد الأدبي والمسرحي والفني.. وفي عام (1963) عمل في إذاعة دمشق مذيعاً، وأصبح مع مرور الزمن كبير المذيعين.. إنْ في المنوعات أو بالدراما.. وكتب وأعدَّ وأخرج الكثير الكثير من البرامج والمسلسلات والتَّمثيليات الإذاعية.. وكان نهماً للقراءة والمطالعة.. ولا أُبالغ إذا قلت: إنه يملك أكبر مكتبة يملكها أيُّ فنَّان عربي..

إنه الفنَّان الكبير، والإذاعي العريق، داوود يعقوب صديق العمر ورحلة الكفاح، الذي رحل بعد مقاومة عنيفة للمرض الذي سرق منه شبابه، وأصرَّ أن يتحدَّاه طوال الأربع سنوات الماضية.. وكان الراحل الكبير يصرُّ على أن يموت واقفاً..

وقبل يومين من وفاته طلب من ابنه الشَّاب الصَّغير (أوس) أن يأتي بورقة، وأملى عليه داوود نعوة وفاته، ومع بكاء الشَّاب الصَّغير حدَّد المكان الذي سيُدفن فيه، والمكان الذي اختاره في دار الفناء..لكَ الرَّحمة، يا صديق العمر..".

الصحفي السوري هاني الخير:

" كان المرحوم يمتاز بسعة الإطِّلاع، وبالحركة والنَّشاط، ما جعله يُقدِّم أميز الأعمال الدراميَّة الإذاعيَّة، والبرامج الثَّقافيَّة، لذلك فإنَّ خسارته كبيرة.

داوود يعقوب المُذيع المعروف، والصُّحُفي البارز، والفنَّان الموهوب، والمثقَّف الواعي، الباحث بجدِّيَّة عن الحقيقة والحكمة الخالدة، أنفق ماله، وركب حصان البحث عن المعرفة، فاستهلك مُعظم ما حصل عليه من مال خلال حياته لصالح مكتبته المنزليَّة، الَّتي تضمَّنت ما يزيد عن عشرة آلاف كتاب ومجلَّة ودوريَّة، تُشكِّل مُجتمعة صفحات مُضيئة من تُراث الإنسانيَّة الثَّقافي، وخبراتها المُكتسبة عبر العُصُور والأجيال، فقد كان الأُستاذ الرَّاحل يعدُّها الدَّعامة الأُولى للمعرفة، ولتنمية الوعي الثَّقافي في حياتنا العامَّة ".

الكاتب الفلسطيني ياسين معتوق:

" ظلَّ داوود يعقوب الشَّاب رغم كُلِّ العذابات، وحرارة اللُّجوء يُيَمِّمُ وجهه نحو فلسطين الَّتي غادرها صبيَّاً صغيراً، فقد فعلت سياسته بتثقيف نفسه فعلها وعياً، وإصراراً على حقِّ العودة إلى الوطن، الَّذي يرزح تحت نير الاحتلال، و رغم أنَّ المرحلة آنذاك كانت حُبلى بالأحداث، وتشهد حالة من النُّهُوض والتَّمرُّد على الأنظمة الإقطاعيَّة الرَّجعيَّة، الَّتي تسبَّبت بضياع فلسطين، ورغم أنَّ مطلع الخمسينيات شهد بداية نُشُوء الأحزاب والحركات الوطنيَّة، مثل حركة القوميِّيْن العرب، وحزب البعث، إلى جانب الأحزاب الشُّيُوعيَّة الموجودة أصلاً وغيرها، فقد كان لداوود رأي، أنَّ الانتماء لفلسطين أكبر وأهمُّ. وهذا ما دفع داوود الشَّاب إلى أنْ يُمارس دوره وقناعاته في فعاليَّات وطنيَّة مُتنوِّعة، كانت تُقيمها الأحزاب والحركات الوطنيَّة .

ففي العدد (51) الصَّادر أوَّل أيَّار (مايو) عام 1965، من نشرة فلسطين الدَّوريَّة، الَّتي تُصدرها الهيئة، وإحياءً لذكرى شهداء فلسطين، كان داوود يعقوب، الشَّاب، أحد خُطباء المهرجان إلى جانب العديد من الزُّعَماء والشَّخصيَّات السِّياسيَّة من فلسطين وسُورية أمثال القاضي فيصل العظمة، والمُعلِّم أحمد اللُّوباني، والمُجاهد صبري البديوي، والشَّاعر عبد الهادي كامل، والأُستاذ زياد الخطيب مُمثِّل الهيئة في سُورية.

وفي كلمته آنذاك ـ والَّتي ارتجلها ـ كان الشَّاب داوود يعقوب يتدفَّق حماساً تعبيراً عن أبناء جيله من الشَّباب؛ حيثُ قال: "لو أنَّ الله سُبحانه وتعالى جعل هذه القُوَّة الَّتي بألسنتنا، في سواعدنا، لكُنَّا الآن في الوطن المُغتصب أعزَّة كراماً، ولكُنَّا أقمنا هذا الاحتفال في القسطل".
وهو ما كان داوود يعقوب يتطلَّع إليه في إقامة هذا الاحتفال في القسطل بالذَّات؟ ".

شقيقه الإذاعي طالب يعقوب :

" كنتَ الأب والأخ والصَّديق والأستاذ لي، كنتَ المحبَّ للنَّاس كلِّ النَّاس، وصديقاً وفياً لكلِّ من عرفك... وكنتَ وكنتَ... وآه من قسوة كنتَ... لأنك مازلت حتى لو ذهب الجسد، مازلت بيننا بروحك وعملك وما خلَّفته لنا.

ذهب الحبيب ومازلتُ غير مصدِّق؛ فصوتك مازال ينبعث قوياً كما نفسك التي ما استطاع المرض الوصول إليها، فقط أُنهك الجسد أضناه وما استسلمت، بقيتَ ترفض وتصرُّ، لكنَّ الجسد محكومٌ فوَهَنَ، والنَّفس غير محكومة لعضاله فأبت. وبقي ذلك الصَّوت قوياً حنوناً صادقاً، كما نبض القلب لا يتوانى.

علَّمتني.. علَّمتني يا أبا يزن وما كثرة ما كنتَ تعرف، أرشدتني طريَّ العود يافعاً، فعودك قسى لا لكثرة السَّنوات ولكن لما مرَّ عليك.

سبعة وأربعون عاماً.. سبعة وأربعون عاماً هي عمر الشَّباب يا أبا يزن.. سبعة وأربعون عاماً عشتها أياماً مليئة، يوماً بيوم، لكن الحياة قاسية، وآه من قسوتها ".

رفيقة دربه السيدة نهلة غبن (أم يزن):

" كان الراحل إنساناً عظيماً بكل ما في الكلمة من معنى و كان محباً لعمله و زملائه الذين لاقى منهم الكثير من العناية في فترة مرضه التي دامت سنتين كاملتين.

وكان محباً أيضاً لعمله مهتماً بالقراءة والمطالعة، كان نهماً للكتاب يطالع كل ما صادفته يده ، يكتب و يؤلف و يخرج دون كلل أو ملل حتى آخر أيامه ، و خلال مرضه حاول القيام بالكثير من الأعمال لكن المرض داهمه بكثرة ، وخلال معايشتي له السنين الطوال كان يأخذ كل الأمور ببساطة، حتى أنه ينسى نفسه أحيانا دون طعام ، يحاول أن يعطي أكثر ما عنده و لا يرضى أن يكون أقل من الآخرين.

كان يشتري الكتاب و لو على حساب قوت أسرته لأنه محبا له بكثرة، فامتلك مكتبة زاخرة بالكتب، كتب من أمهات التراث العربي و السياسة و الأدب و الفن التي كان يحبها على أمل أن يتفرغ في آخر مراحل حياته بعد ترك العمل الإذاعي للكتابة و الأبحاث لكن منية الله عاجلته و لم يستطع أن يحقق شيئا يذكر من طموحاته هذه ".

أخيراً أقول: نعم لقد رحل والدي الحبيب ومعلمي الأول وصديقي الأثير داوود يعقوب في 17 تشرين الأول / أكتوبر 1986م.. أي قبل أربعٍ وعشرين عاماً ، لكنه سيبقى في البال طويلاً ، ولن ننسى نحن الأبناء أو الأحفاد أن ننقل رفاته ، ذات يوم قادم لا محالة ، إلى طيرة حيفا ـ مسقط رأسه في الوطن المغتصب ـ وهذا عهد وأمانة في أعناقنا.أربع وعشرون عاماً مرت على رحيل الفلسطينيِّ المُعبَّأ بزهر البُرتقال والشَّمس، والوعد
الأديب والفنان والإذاعي الشَّامل داوود يعقوب .. كما عرفه كبار الشعراء والكتاب والإعلاميين الفنانين الفلسطينيين والسوريين


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى