الجمعة ١٥ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم نوزاد جعدان جعدان

عامل التنظيف الولهّان

حينما يهطل الثلج ،وعندما تلبس السماء رداءها الأبيض خالعة ثوبها الأزرق لتنشر البرد في أرجاء الشارع الذي يخلو من المارة والذين فضلوا الجلوس في المنزل قرب المدفئة .
يتراءى من منظور الشارع الطويل شخص يدفع عربة مثقلة بالنفايات ،ويتحرك ببطء، وصوت لهاثه السريع ينتشر، وسيجارته المنزاحة على طرف شفته تطرح دخانا كثيرا على وجهه فتدمع عيناه ليتوقف ويستريح قليلا ،فبسام شاب في الخامسة والعشرين من عمره لم يرث من أبيه شيئا إلا قصر قامته ونظارات غليظة تحجب عيونه ، في صعوبة الحياة وزحمة العيش نال الابتدائية وتوظف في البلدية كعامل للتنظيفات يلّم ما يخلفه الناس من أوساخ حولهم ويحمل في قلبه أعباء كثيرة،فبسام أراد الخير للجميع إلا أن الحياة خذلته فالأولاد يرشقونه بالحجارة وينعتونه بكلمات هابطة أما الناس فيتحاشون النظر إليه ويخشون ملامسته .

لم يكن لبسام أصدقاء إلا قطة مسكينة مشردة كان يطعمها ويستمتع بالحديث معها وعندما اشتدّ هطول الثلج وقف بسام عند القطة محدثا إياها :
اسمعيني أيتها القطة ..اليوم أنا احمل في جعبتي حديثا شيقا وحكما كما يقول المثقفون ،فترد القطة بالمواء، ويكمل بسام :
هناك شيئين في هذه الحياة تسّيرانك إما أن تقرصك نحلة فتنتج عسلا يرتوي منه الناس أو أن تعضك بعوضة فتنتج خرابا في الدروب ،ولكن السؤال الذي يحيرني أنا من الذي قرصني أو عضني حتى احمل أعباء الناس ونفاياتهم على كتفي! وبالمقابل ألقى النكران،فلماذا يعاملونني بتكبر وغرور ألا يعلمون أن دولاب الدنيا يدور؟! .
فلكم تصلبني دروبي الشاحبة يا صديقتي ، لأعدّ بها عدد الحاويات التي تقارب عدد الساعات ثم أغفو تدريجيا في بارقة الحزن، فأنا منذ زمن غارق في هذه الشوارع الغبية وتأتي الأيام وترحل الساعات وتمضي الدقائق ويبقى التشرد بين الحاويات صديقا لي ..
آه منك أيتها القطة لو تستطيعين الكلام لقلتي أنك اليوم تتكلم كما يتكلم الكبار، ولكن يا قطتي،الصغير هل لابد له من أن يكبر أما الكبير فهل سيكبر أكثر أم سيموت ؟..

استأذنك الآن بالانصراف يا سيدتي القطة لأن الثلج قد توقف وعلي الذهاب إلى عملي ..
انصرف بسام لعمله في شارع الأثرياء ليدقّ على الأبواب ويضعوا أكياس القمامة بين راحتيه ثم ينقلها إلى عربته التي تبدو له كسيارة مرسيدس.

في إحدى الأيام وأثناء لمّه للقمامة دق على أحد بيوت الأثرياء، لتفتح له الباب فتاة ترد عليه بابتسامة أنثوية جميلة وترحب به وكأنه شخص هام ،أما بسام فقلبه أمسى كمطر تموز جنونيا مرطبا للأجواء ،فأسرع بسام باستلام كيس النفاية فبدا له الكيس باقة من الزهور ، ونزل الدرج مسرعا وكله نشاط وهمة غير طبيعية ليجلس في عربته متأملا وجهها راسما أحلاما وكأنه يركب سيارة فخمة وهي جالسة جنبه.
لم يستطع بسام إخفاء هذا السر عن صديقته القطة فتوجه إليها مسرعا مصطحبا معه هدية لها ،فجلس بجانبها والقطة مستغرقة في الطعام فسألها بسام:
أتعلمين يا قطتي ، أنا سمكة ولكن لاتفكري بأكلي فأنا أصبحت كسمكة وهذه الفتاة غلاصمي التي أتنفس بها اليوم فلقد علقتني بالحياة وبدت لي الحياة كأسا من الشوكولاتة فهل أنا في الصبابة يا عزيزتي؟ لترد القطة بالمواء..
ويستطرد بسام : آه، إنها تبدو لي كهلال شوال الذي يظهر مصطحبا معه العيد في قلبي فلقد طال صيامي في الدنيا يا صديقتي ، فأنا أبحر في عينيها ولكني لا أملك مجاذيفا فإن سبحت أو غرقت فسأصل إلى الضفة في النهاية ،فهل أنا في الصبابة يا عزيزتي؟ ..
كم هي هادئة! فمنظر وجهها يوحي لك بالهدوء فتبدو لي كنهر هادئ ،ولكنهم يقولون أن النهر الساكن عميق جدا أصحيح ذلك ؟ ..على كل النهر العميق أفضل من النهر الأهوج المجنون الذي يدمر كل ما يصادفه ..

و لكن هل يعرف الناس الساكنون في حارة الأغنياء طقوس الحزن أم أنا وحدي أعرفها ،وكيف سأجعلها تحبني، فهل يمتزج النار والماء؟ ..وأين هي وأنا أين، أتذكر معلمي في الصف الثالث كان يقول لي من الصعب السيطرة على فتاة أو جواد، فأنا لم أسيطر على حمار فكيف أسيطر على فتاة!..ولكن يقال أن القدر يتحكم في كل خطواتنا والله يبارك طيبي القلب بغض النظر عن أوضاعهم وأشكالهم،فهل أنا في الصبابة يا رفيقتي ؟

كان يقولها وهو شبه نائم فاستسلم للنوم ورأى مناما غريبا حلم بأنه ملك والفتاة جارية عنده وعندما اقترب منها استيقظ على صوت القطة التي كان يهاجمها كلب ضال .
توجه بسام للعمل وكالعادة كان يذهب لبيتها يوميا ليستمتع بوجهها المبتسم فيبدو وجهها كقهوة الصباح ،فهي فاتنة عمره وأول ابتسامة في حياته .

في إحدى المرات وهو منهمك في أكوام الحاوية قرب بيتها يلمحها ويصادفها في الطريق مع مجموعة من أصدقائها وهم يتنزهون والابتسامة لا تفارق وجه الفتاة، وعندما رآها بسام اقترب منها لعله يحصل على ابتسامة التي هي بمثابة مسكن ألم لمريض يعاني ،بيد أنها تجاهلته ولأول مرة يعبس وجهها وتتحاشاه مبتعدة عنه، فصعق بسام لهذا المنظر ولنظرتها المزدرية له فابتعد وغادر الشارع نهائيا مرددا بغناء خجول مع نفسه :

يا عاشقا للخير. .
سّل الرياح أين اختفى الطير ..
الجو غائم والضباب كثيف فأين المسير..
كم طال علينا الطريق ..
وأضنانا هجر الصديق ..
فرحلتنا شاقة بلا رفيق ..
كنجمة منطفئة البريق..

ثم بدأ يتحدث مع نفسه :آه يا قلبي ،كانت غلاصمي التي أتنفس منها ولكن الغلاصم هذه المرة أحكمت الإغلاق على نفسها فهل أغرق في شارعي وليس لي إلا غلاصمي .

تابع بسام عمله واضعا أكياس القمامة في الحاويات فكم بدت الأكياس ثقيلة في نظره وعندما كان يضع إحدى الأكياس لاحظ صوتا غريبا منها.. ليفتح الكيس وعيونه لا تصدق فالكيس مليء بالنقود التي لم ير منظرها قط ،لتعزف السعادة في قلبه سيمفونيتها ويبتسم ملء الفم كطائر مغرد من الفرح وبقمة سعادته وذروة فرحه تجاوز الشارع دون انتباه وإذ بسيارة مسرعة توقف فرحته وتضرب عربته لتتناثر أكياس القمامة في الشارع حول بسام الذي طار في السماء.

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى