الاثنين ١ آذار (مارس) ٢٠٠٤
بقلم إيمان الوزير

المجد للكلاب

الظلام يلتهم الضوء ...ينبئ بوحشة عارمة ...وقسوة الشتاء تنقل لفحات البرد إلى الوجوه المرتعشة ...الثلوج تغطي كل شيء كأنها مارد لا يقاومه سوى فوهات المدافئ المنتشرة في كل مكان ....كان خروجه في هذا الطقس المتجمد ضربا من الجنون ...لكنه صمم على الخروج ...خطواته مبعثرة تستجمع قوتها من ذاته الكئيبة ...ومع ذلك فقد استمر بالمسير ...كانت مشاعره توّاقة للهروب من وجه المدفأة بحثا عن عالم فسيح ...حين انعطف إلى الشارع الرئيسي تنفس الصعداء فقد بدت شوارع المدينة تضجّ بحركة السيارات ....وأقدام المارة تسير بارتعاشة قارصة ...بحث في نفسه عن سبب خروجه فلم يجد سوى أنه يريد أن يشعر بنبض الحياة رغم قسوة الشتاء ...تبصر في وجوه الناس فلم يجد علامات تدله على أنهم يسيرون مثله أو لأمر ما ....

بدأت فرائصه تنهره مطالبة بالعودة إلى مقعده ومدفأته ....لكن عالم اللاوعوي الذي سيطر عليه دفعه إلى متابعة السير رغم الكآبة المسيطرة على كل ما حوله ..ضبابية الرؤية المنبعثة من طوفان الثلج يطبق على صدره ....حاول أن يصرف تفكيره عن البرد والضباب إلى حيث الحنين المستشري في نفسه الممزقة ....تذكر دفءالوطن رغم خرائب الحال وقسوة الواقع ! .....سبح خياله في طعم الشرق الساحر فراح يقول في نفسه : ما أصعب الاغتراب ! حين تسيل الدموع لوعة لوطن .فتتجمد أول دمعة على حافة الخد ويتحول الباقي إلى سياط تضرب في القلب الحنين ....

أفاق من موجة الأحزان على ألوان زاهية بددت اللون الرمادي الذي ملأ المكان ..أطال النظر إلى تلك الأزهار التي تحدت قسوة البرد .وراح يتأملها بانتعاش ....كم كان بحاجة لعبير ينزع من أنفه رائحة الخشب المحترق ...استجمع ما تبقى من بصره الذي سرقته الأحزان ليستمتع بمشاهدة ألوان الزهور ....تنبه بعد لحظات أن هذا الجمع الغفير من الألوان النضرة موجودة في مقبرة ....وهذا ما لم يكن يحلم به .حاول أن يطرد فكرة الأضرحة من مخيلته لكنه لم يستطع ....فقد أعادته إلى حيث كان قبل عام ...حين دفن إخوته في مقبرة جماعية في مخيم جنين .يومها لم يجد سوى كومة تراب وحفرة يطوي بهما شبح الرعب الذي سيطر على وجه الموتى ..هل يمكنه المقارنة بين هذه المقبرة وتلك ؟ ....
أسرع يطرد الفكرة من راسه ويهم بالخروج ...حين استوقفته أقدام سيدة متوسطة في العمر ...راحت تقترب من أحد القبور وتجهش بالبكاء ....نظر إليها وشعر بانه مطارد من هيئة الحزن العليا أينما حلّ ,أينما رحل ..وكأن الأقدار تترصده لتعاود اعتقاله في معسكرات الدموع ..توقف ونظر إليها فبادرته قائلة : ما أصعب أن يفقد المرء أحبته !!!

شعر بطعنات تنهال عليه وأيقن أن محكمة الحزن العليا بدأت بتطبيق قرار الاعتقال ....

لكن السيدة لم تعطه مجالاً للتفكير فقد انهالت كلماتها كالسيل الجارف : كم كنت أحبه !! لقد رحل دون نظرة وداع .. لم أشعر بطعم الحياة منذ عام ..حين فارقني شعرت بالأيام تسير بي نحو موت بطيء ...وأجهشت السيدة ببكاء حاد زاد من قناعته بان محكمة الحزن العليا قررت اعتقاله مدى الحياة .....

عادت السيدة إلى الحديث وكانت هذه المرة تصف قيسها بعنفوان ليلى ....لم يكن يهتم بتفاصيل كلماتها فقد قفز إلى نفسه سؤال عجيب : هل يعرف الغرب معنى الوفاء للأصدقاء ..إذن لماذا يفعلون كل هذا بأصدقائهم العرب ؟

كانت السيدة مستمرة بكلماتها كالقطار المجري الذي فقد كوابحه ....حتى وصلت إلى جملة أصابته بالذهول : كنت أطعمه أغلى المأكولات .حتى الماء أحضرت له ماءً مقطرا كي لا يصاب بحمى الكلاب ......

جحظت عيناه وتسمر أمام المرأة لا يقوى على الرد أو التفكير ..كلاااااااب ؟ وما دخل الكلاب في قيس ليلى ؟......استطردت السيدة حديثها غير عابئة بذهوله أو ربما لم تلحظ من طوفان دموعها ما أصابه من ذهول ..لكن الخوار الذي أصابه أشعره برغبة في إيقاف طوفانها ولو كلفه الأمر أن يصيح في وجهها .فصرخ قائلا لها : من الكلب يا سيدتي؟ ....فتوقف سيل الكلمات من فمها وقد صدمها بصوته ....فقالت : إنه بوب كلبي الذي كان كل حياتي .وقد جئت اليوم إلى هنا كي أضع على قبره باقة زهور ...فقد مضى عام على فراقه ...

رد عليها ساخرا : وأنا أيضا .مضى عام على وفاة عائلتي باكملها ...أصابتها الدهشة وقالت له : عفوا ولكن هذه المقبرة للكلاب....قاطعها بسخرية : علمت الآن أنها مقبرة كلاب ..فعذرا لصياحي الذي ازعج أرواح السادة الكلاب ...

غادر المكان مسرعا ...وكأن محكمة الحزن العليا قد قررت عليه الحكم بالأشغال الشاقة إضافة للسجن مدى الحياة ....أحس بالألم يعصر قلبه ...فتذكر جنين ورفح . ....وصاح بأعلى صوته : أيها السادة الكلاب هذا زمنكم فخذوا مجدكم ولتحيا الكلاب !!!!!!!!!!


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى