الثلاثاء ٢٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٤
بقلم فراس حج محمد

آخر مشهد في قطاع الموت

[مهداة لسيّدة ظلّت تصارع البقاء في غزّة]

توطئة لأغنية جارحة
ونحن نبحث في المدينة عن مكانٍ هادئٍ، لم أكُ هادئاً إلّا بمقدار المسافة بيننا
لم أكُ متعباً أو جائعاً أو هارباً منّي إلّا لأنّك كنت طير قلبي الجامحِ
ونحن نأتدم الحديث الناعم فجأة يبزغ شوكٌ
نضع الإصبعين معاً على مسيل الجرحْ
كنتِ تأتدمين سرّ سرّي الجارحِ
نضحك عنوةً ويسندنا الجبلْ
ما الذي يشهد أنّنا كنّا هناك؟
كنتُ ظلّاً خارجاً من فيء أوكار الشتاءْ
مرّت عليه وَهْناً بعضُ أنفاس الملاكْ
فعرفت أنّ الله حيّ فيّْ
يمنحني البصيرة في هواكْ
كوبليه (1)
كنتُ ليلاً في المدينةِ خالياً من كلّ شيءْ
ليسَ لي غيرُ ساعاتٍ ثقيلةْ
يحرُسُني النومُ من شكلي المُلبَّد بالخطايا
باردٌ هُوَ هذا الليلْ
والأحلامُ لا تأتي على موعدِها
وبقيتُ مُخْتَمِراً بأوجاعِ الشِّتاءْ
غارقاً بحمحمةِ الصَّوتِ المُحمَّلِ بالسَّفَرِ الطَّويلْ
كوبليه (2)
أودّعها الوداع الأخيرْ
بتلويحةٍ مطلقة في الفضاء
لعلّ ما تبقّى من رياح الشتاء تحملني إليها
لم تصافحني عند انتهاء اللقاء
تركت يدي الوحيدة باردة
كوبليه (3)
يبدو أنّ كلّ ما أشاعته يدُ الشِّتاءِ
ينبت في الحواري…!
يصبّ في حِجْرِ الجواري
وأنّ ذاك الغيمَ الأسودَ لم يكذبْ
يبدو أنّني المطعونُ كنتُ بخاصرة "الحكايةِ"
وحدي من صار شوكةً توجعُ حلقي
وحدي فقط وحدي
من قتلته الشّمسُ ذات حرارةٍ ملتهبةْ
كوبليه (4)
الأفْقُ كان إشاعةً حمقاءَ مبتذلةْ
واليوم يغدو فعلَ جريمةٍ مكتملةْ
الآخرونَ مثل هذا الشّتاءِ
جثّتي آخرُ عشبة يَبِستْ على النّصّ الأخيرْ
ما زلتُ أشهد أنّني متُّ قبل هذا اليومْ
وها أنا الآن أيضاً
أفرّ من الموتِ إلى الموت أصيرْ
كوبليه (5)
لا تتركوني غريبا في التُّرابْ
أريد شيئا آخر يقتلني
غير قلبي
وغير حكاية هذا الشّتاءِ العنيفْ…!
أغنية ثانية لصخب الموت
أنا جاهزٌ لأموتْ
كما كنت جاهزاً لأعيشْ
بضعةُ أيّام وينتهي كلّ شيء
تنام الحجارة ملء كفّ ضاربها هناك على الطاولةْ
ويبرد صوتها المتلاشي في مسمع المقهى البعيد
تشرينُ يُسقط ما تبقّى من العمرِ
ذاكرةَ الحبيبة والصديقةِ والصديقْ
الزوجةَ الأخرى القصيّة التي ربحت بموتي الغريبِ خسارتينِ شهيّتينْ
وتنهي باكتظاظ الحزنِ سفر الثرثرةْ
أمّي وحدها من ستدمع دمعتين سخينتينْ
وتبكي بصمتْ
وأبي- لو كان حيّاً- سيذكرني عند المساء بلهفةٍ ويقولْ:
لمن تركت الأغاني والأماني والشجرْ؟
لمن تركت الوقت يمضي كأنّه السلحفاةُ
الظلُّ
الشتاءُ
وكيف تطيق أن يشحب لي في الليلِ وجهُ القمرْ؟
ولمن تركت القصيدة والجريدة والكتابَ وتلك المحبرةْ؟
أنا جاهز لأرحل حيث مثواي الأخيرْ
لحفرة باردةٍ وسؤال الله لي
أنا جاهز لأقرأ باليمين كتابيَهْ
فيا رضوانُ أفسحْ لي ولا تسألنيَ البتّة
فربّي قد أجاز لي "الصراطَ المستقيمْ"
ترنيمة سوداء لآلهة الموت
أعطيتني أملاً عريضاً واسعاً
وقدرة محدودة... فقزّمتِ الفرحْ
وجعلتِ الحول من حولي فراغْ
وجفّ ضرع في الربيع المرتحلْ
وأطلتِ أعمار الشِّتاءْ
وخلعتِ عنّي الدفء في هذا الصقيع
وأمتِّ صيفاً دون أيّ ثمرْ
وأتيتني برياح صرصرة الخريفْ
وكنتِ خالقة الخوفِ
سيدة الخوفِ وآيات الخطلْ
وآلهة الأساطير الحقودة
ودائرة الريح العقيمةْ
وحفرتِ أخدودي بنيران الجبلْ
يا عجلا مُرَجّسْ!
أعطيتني (الأيروس) يوماً في الصورْ
وأنت الآن سورة من (ثاناتوس)!
تخرج الجثّة من تحللها
لتصرخَ بي وتعلن أنّك الوحيُ المدنّسْ
لازمة في اللحن كما هي في الجنازة
سقط الورق
وترنحت شجرة
ونامت على شفتي عبارات الودق
والريح تغزل خيطها لتشمَّ ريحاً قادمة
تحبو إلى جهة،
تبادل عرسها الأرواح
سبحت، ونامت، وارتمت، وتناوحت، واستيقظت،
فإذا الشفاه تنوء بالأحمال من معنى الحدَقْ

سقط الورق
هذا الشتاء المخمليّ الناعم الساكتْ
تودّعه عبارات المطر
وتوقظ فيه إحساس المرارة للرعود
وللخطر
هذا الشتاء يدفّئ الأحزانَ،
ينشرها جفافاً،
وتندبها السماء الساخرة؛
لا دمع في المؤقِ
لا دمع في الغيم الرقيقِ، ولا غرقْ
***
سقط الورق
أشجار حقلتنا تصيحْ
شلَّحها الحَرُور لباسها
جلست تستقبل الأحلامَ، تغسلها،
وتحجرت في جذره لغة
وغامت في حنين النفسِ تبكي لسوأتها المطر
والشمس أمّنت الخروج، فلا غيابَ و لا قلقْ

سقط الورق
نامت على لغتي لغاتٌ واستعاراتٌ أُخَرْ
وتكوّنت صور لصورتها الغريبةْ
وتراكضت معانيها لتبحثَ عن سماء آخِرة
لكنّها... وجدت عيون النجم تندب حظّها
في كلّ يوم غائم بالشمسِ يلطم خدها حرّ الشفقْ

سقط الورق
سقط الكلام على الورق
وسقطنَ في ليل النهار.
وتلَوْنَ في صدر اللغات كلامنا
والبدر والشجر الحزين
والإنس والحيوان قد غرقوا
في وحل أرتال النسقْ

سقط الورق
وتدثرت تلك الدروب بعجزها
تبغي انتظار الشوق،
لا عين الحُرَقْ

سقطت عيون في الشرك
سقط التحلي بالمطر
سقط القمر
من بعد أن سقط الورق
سقط الورق
سقط الورق
الندب على طرف المفازة
أشهدُ أنّهم سرقوك منّي
واحداً واحداً... يوماً فيوما
يتسلّلون إلى المكانْ
ليحتلوك فيهْ
ويبعدوا شبحي الضئيلا
يكتبون من لغتي ولهي القديما
أشهد أنّهم عبروا دمي وعاثوا في شفاهي الصامتةْ
أقعدوني على لهب الصدى
وجرجروا الأشواك في حلقي
وعلّموني الغرغرة!
أشهد أنّهم قتلوك في كتبي
ومن وقتي الغريبْ
صادوا الغزالة والحجل
تركوا ظلالك في تشرين تبكي
في خفايا أضلعي
أشهد أنّهم حجرٌ، عطاشٌ، مجرى دون ماءٍ، أيدٍ ناخرةْ
وليل شتاء طامس أعمى
وكذّابون قد مرّوا على وحيي
فحرّفوني في كلّ مزمار ومحراب وتسبيحة
أشهد أنّهم لا يتقون رهافة نجواك الحريريّة
صلبوك في الناي العتيق
وخلّوني بلا وتر ولا عود ولا غيم ولا أنداءْ
أشهد أنّهم قتلوا الغناء بمسرحيكِ وصادروني
وشجّوا رأس شيطاني وإعجازي
وفجّروا... بك وادي عبقرْ!
تركوا الحديث بلا معانيَ أو متونْ
أشهد أنّهم لا يشبهون ملامحي
لكنّهم سرقوك منّي...!
رثاء النظرة الأخيرة في مقبرة جماعيّة
هي الأقدارُ تصنعُ ما تشاءُ
فإنّ شاءت فإنّا لا نشاءُ
وتنذرنا بأوجاع وليلٍ
طويلٍ مدّ في سهر عناءُ
فكيف إليك والأقدار تمضي
وهذا البعد يعزفه الخواءُ
فأرحل مع نجومك والحكايا
لترسم طيفك النائي السماءُ
فأين اليوم من أمسٍ قريبٍ
يطاوعني بلهفته النداءُ
فقد غابت هناك بلا رجاء
فودعني مع الأسف الرجاءُ
أناجيها وكلّي هوىً يناجي
يردّد حرقتي ذاك المساءُ
فيا ليلي كفاك اليوم بؤسٌ
ويكفيني الضياع والابتلاءُ
وكانت جنّتي وهدوء نفسي
وذاك الحلم يكبر والهناءُ
فصارت قصّة بجحيم رؤيا
وشاءت أن يحلّ بيَ الشتاءُ
فمدّيني بروحك واحتويني
فقد تعبَ الفؤاد وحلّ داءُ
إليكِ الروح ترحل في اضطرامٍ
فهل كنت السما ليكون ماءُ؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى