الأحد ١٠ آذار (مارس) ٢٠٢٤
بقلم صبحي فحماوي

أعشاش العصافير في جنوب افريقيا

هل تخيلت أنك تزور أو تتجول في جنوب افريقيا وأنت تشاهدها تتربع على قمة الشرف الدولي، والإنسانية التي تبخرت من ربوع عالم رأسمال المال غير الحر، خاصة بعد نجاحها بالتحرر من جبروت المستعمر، ومن ثم وقوفها ضد مجازر غزة الإسرائيلية الصهيونية الناتوية الأمريكية التجويع والقتل الذي لا يُتَخَيّل ولا يُصدّق ولا يُحتمل، وهي تسير على هَدي الثائر الأكبر نيلسون مانديلا، الذي قال أن "لا حرية لجنوب إفريقيا من دون تحرر فلسطين. كل فلسطين"؟

هل تخيلت أنك قد ذهبت إلى هناك لتخالط شعباً عظيماً مقاوماً بجبروت المقاومة، لدرجة أنه استطاع خلع أبشع عنصرية رجل فايكنج أبيض قادم من أقصى الشمال ليستعمر ويستعبد أقصى الجنوب، معتقداً مثل الفايكنج الصهاينة أن: (أية أرض تدوسها أقدامنا، فهي لنا) فوجدوا أن أصحاب الأرض السود في جنوب افريقيا قد داسوا على أقدامهم التي تدبُّ على أرض إفريقية؟

هل تخيلت أنك تتعامل مع هؤلاء القوم السود الطيبين المتعايشين مع بعضهم ومع الآخرين بمنتهى البساطة والسعادة واللطف والكرم الإنساني، وعدم التمييز بين الأبيض والأسود، في أرض هي " جنات عا مد النظر...ما بينشبع منها نظر" حسب غناء الفنان وديع الصافي..

هل تخيلت أنك وصلت لتُسلِّم على القوم السود الذين واجهوا بطش رجل الفايكنج الأبيض وتعذيبه وتجويعه وتشريده لهم، وهدم بيوتهم بآلياته ومجنزراته ودباباته الشبيهة جداً بدبابة المركافا وناقلة الجنود السميكة الجدران الفولاذية، المسماة "النمر" المتحركة في كل مكان لقتل مقاوميهم، وبعد أن طُردوا من جنوب افريقيا سلَموها للصهاينة الإسرائيليين، فجاءت لتعيث الدمار والخراب في فلسطين الغزاوية، كما الضفة الفلسطينية..نعم دعونا نسميها بعد اليوم: "فلسطين الغزاوية." وليست "غزة الفلسطينية" إنها "غزة، قائدة العزة..قائدة المقاومة"؟

هل وصلت إلى "مدينة سويتو" المنتشرة بيوتها الصغيرة على مساحات واسعة بسيطة، حيث كان يعيش المناضل التاريخي الأكبر نيلسون مانديلا..لتكتشف أنها أشبه بكثير، أو أبسط بكثير من مخيمات فلسطين المتناثرة شظاياها على مساحات الوطن العربي المحيط بفلسطين..وتجد أن نيلسون مانديلا لم يكن يسكن القصور كثوارنا الأشاوس..يوم جاء القائد الفيتنامي "الجنرال جياب" لزيارة الثوار في غزة العهد البائد، يومها قال لقادة المقاومة:

" إنكم لن تنتصروا." قالوا: "لماذا"؟ قال: " ذلك لأنكم تعيشون في قصور، والثورة تحتاح لمغارات وأنفاق وجحور"..وأضاف:
"ولأنكم تقبضون أجوركم من الدول المانحة وهي الدول المحتلة لبلادكم، بينما يقبض الثوار عادة من رفاقهم ومن أهلهم، ويأكلون من عرق جبينهم." ويوم جاء الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر -المتأثر بالصهيونية كي يعيش- وزار غزة في عام 1966 ، قال لأهلها: "أنتم لستم مظلومين، ذلك لأنكم تعيشون في بيوت كالقصور.."..اليوم تجلس نساء قادة ثوارهم في قيعان الأنفاق وتقاتل معهم وتستبشر بالنصر.

هل تصورت أن تزور متحف الفصل العنصري في جوهانسبرغ، فتمر إلى جوار الجدران الشبيهة بجدار الفصل العنصري الإسرائيلي، وتشاهد الأفلام والصور الجدارية حيث الصرخات الجماعية، والتشوهات والأفراح بالانتصارات على العدو الفايكنجي الغاشم.. وخارج هذه الصرخات المدوية، تندهش وأنت تشاهد مجاميع العصافير وقد بنت أعشاشها على أشجار باب المتحف وهي تزقزق داخلة خارجة من ثقوب الأعشاش سعيدة رضية هانئة، لتُعبِّر عن الحرية والفرح والمرح الذي يتمتع به شعب وحتى طيور جنوب افريقيا بعد التحرر؟

ليتك هنا لتشاهد أعشاش الحرية بأم عينك.حتى العصافير تشاهدها هنا سعيدة متطايرة عاشقة وهي تدخل وتخرج أمام السُّياح في منتهى الفرح والحرية..حتى الطيور تحررت بتحرر السود في جنوب افريقيا...وحتى حيوانات الغابة تحررت من عبودية جلبها من هناك وبيعها في سجون الحيوانات العالمية التي يسمونها حدائق الحيوان..وبتحرر جنوب افريقيا أصبح هناك توجه لمنع اصطياد الفيلة والأسود والنمور ومنع تصديرها إلى باقي دول عالم رأس المال الذي يشتري كل شيء.. الوطن والشرف والحرية.. حتى الحيوانات كانت مستعبدة في جنوب افريقيا..ولكنك تشاهد على الجسر مظاهرة إنسانية تطالب بمنع تصدير حيوانات الغابة.. أصبح مواطنو جنوب افريقيا يشعرون بلذة الحرية..تجدهم في كل مكان يتضاحكون بأصوات عالية وهم يرافقون بعضهم بعضاً. وهم يعملون في كل مكان..وهم يديرون هذه الجمهورية الفتيّة بكل إتقان، ويتصرفون بمنتهى المساواة بين الأبيض والأسود..ليت الحاكم الأبيض كان يعطي الفرصة للمساواة بين الأبيض والأسود، ليتهم وصلوا إلى هذه المرحلة الحرة من دون تحديات ولا تعذيب ولا قتل ولا تشريد ولا هدم بيوت..

هل أنت مستعد لقطع عشر ساعات طيراناً من عمان إلى جوهانسبرغ الغارقة بسعادتها وهدوئها بين الغابات، إضافة إلى ساعتين ونصف إضافية إلى كيب تاون المتشمسة بدفئها شبه عارية على شواطئ بريئة لا نهائية، وتشاهد جبالها الشاهقة الارتفاع بشكل مذهل، وخاصة جبلها الشاهق الارتفاع المسمى: "قمة الطاولة" لأنه أفقي القمة الغريبة، وكأنه طاولة، وتتفاعل مع ناسها النظيفة السعيدة الهادئة، وتشاهد عماراتها الجميلة وشوارعها النظيفة وأرصفتها التي لا يوجد مثلها في بلادنا العربية.

لعلك زرت مباني الثقافة، المتواجدة في كيب تاون وليست العاصمة جوهانسبرغ، سواء وزارة الثقافة ومبنى المكتبة العامة الضخم وجميل البناء، الحضاري جداً، والتقيت مسؤوليها من الوزير إلى الخفير، فاستقبلوك بما يليق الاستقبال بكرم أهله السود، للآخرين، سواء كانوا سوداً أم بيضاً، أم سمراً كما هم ذوي الأصل الهندي المتكاثرين هناك.

هناك قدمت لهم إحدى رواياتي التي هي بعنوان"على باب الهوى" والتي تسرد تفاصيل قصة حب كادت أن تتم بين فلسطيني وفتاة شقراء في مؤتمر ألماني لقادة شباب الأرياف في العالم، وذلك في عام 1980، إذ توجها عصراً إلى خارج مبنى المحاضرات حيث شاطئ بحيرة بافارية ساحرة الجمال، ودار بينهما حوار رومانسي، وفي المساء اتفقا أن يذهبا إلى صالة مرقص قريب، وأثناء الرقص تبين للسارد أنها من جنوب إفريقيا، فسألها: أنت شقراء فكيف تقولين إنك من جنوب ىافريقيا؟ فقالت: إن جنوب إفريقيا لنا نحن البيض.قال:لا. إنها للسود..قالت: بلا..إنها لنا..قال: من أين أتى جدك وجدتك؟ قالت: من بريطانيا وألمانيا. قال : إذن عودوا إلى بريطانيا وألمانيا لتكونوا مواطنين هناك.. حصل ذلك الحوار الراقص بينما كان شعب جنوب افريقيا يناضل في الشوارع لتحقيق التحرر والنصر، وكان نيلسون مانديلا يقبع في سجن جوهانسبرغ ومنه إلى سجن "جزيرة روبن"، حيث قضى سبعة وعشرين عاماً منقولاً في السجون، إلى أن تحرر.. غضبت الصبيّة من وجهة النظر هذه، وشعر سارد الرواية أن وجهة نظره غير منسجمة مع الجو الرومانسي، فاضطر أن ينسحب من الرقص، وعاد كل منهما وحيداً إلى مبنى المؤتمر الألماني.

هذه الرواية أعجبت السيدة نيليسا لونيكا مديرة المطبوعات والنشر الجنوب افريقية فأخذتني بسيارتها إلى وزير الثقافة الذي رحب بي هو وباقي مدراء دوائر الثقافة ووعدتني السيدة بمزيد من التواصل الثقافي الذي لم يحن بعد.

هل شاهدت حيوانات الغابات تسرح وتمرح بصحة جيدة في محميات جنوب افريقيا مثل القرود والفيلة والنعام وحتى الأفاعي، فلا يعتدي عليها أحد؟

لم أكن أتخيل كل هذه الجماليات الطبيعية، والشواطىء الساحرة والجبال لا نهائية العلو، والحدائق النباتية المسجلة كثاني أجمل الحدائق الدولية موجودة في كيب تاون.

ولم أكن أتخيل أن السفر بالطائرة بين جوهانسبرغ وكيب تاون يحتاج إلى ساعتين ونصف طيراناً..وأن القطار يحتاج إلى يومين ونصف كما قال لي أحد السائقين هناك.

لم أكن أشعر بقيمة اللقاء بين الأبيض والأسود، إلا عندما وقفت لألتقط لي صورة بين الأشجار الغاصة بالزهور، فتقدم مني شاب أسود يسألني:

"أنا سائح من غينيا..هل تسمح لي أن أتصور معك أنا وزوجتي؟" قلت له: "تفضل." فجعلاني أقف بينهما في صورة تذكارية..وعندها نزلتْ من حافلتهم السياحية الصغيرة فتاة سوداء أخرى وقالت إنها مع مجموعة غينيا، وطلبت مني أن أتصور معها، فرحبت بها، وسألت مرافقي:

“ولكن لماذا هذا الطلب الغريب؟" فقال لي:

"إن الأسوَد في كثير من الدول الإفريقية غير مسموح له أن يقف إلى جوار الرجل الأبيض، أو يتحدث معه..قلت: ولا حتى أن يصبِّح عليه؟ قال:

"ولا حتى أن يُصبِّح أو يُمسِّي عليه. وتجد سائقي السيارات السود يتم إيقافهم للضرورة عند نقاط الأمن في الطرقات، بينما يستمر السائقون البيض في سيرهم بلا إيقاف أو تفتيش أو مساءلة. ولذلك تجد هؤلاء السياح السود الأجانب سعداء وهم يقفون إلى جوارك بصفتك رجلاً أبيض، في صورة تذكارية نادرة بالنسبة إليهم، بينما تحررنا نحن أهل جنوب افريقيا من هذه العُقدة، ونجدنا نتعامل مع الأبيض والأسود بنفس السوية."

هذا هو الفصل العنصري الذي ما يزال يسود في بعض دول افريقيا المنهوبة استعمارياً، مثلها مثل فلسطين الأبية على الاستسلام للعدو العنصري الفايكنجي الإسرائيلي، والتي تسعى لتحقيق النصر والحرية بكافة السبل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى