السبت ٦ نيسان (أبريل) ٢٠٢٤
بقلم عبد القادر ياسين

الوجيز الكافي في تاريخ فلسطين السياسي -١/٣

المقدمة

غنيٌ عن القول بأن التاريخ مدرسة سياسية بامتياز؛ حيث لا غنى للكوادر السياسية المشتبكة من أن تطلع على تاريخ العالم، عبر العصور، مع التركيز على الثورات الكبرى، قبل الانتقال إلى التاريخ الوطني، الذي يعتبر – إضافة إلى المدرسة- هوية وانتماء.
نحن هنا أمام وجيز وافي لتاريخ فلسطين السياسي المعاصر، ما بين سنتي 1918- 2004.
القاهرة في 30/7/2023 المؤلف

القسم الأول

(1918-1948) م

المدخل

ما كان للقضية الفلسطينية أن تظهر إلى الوجود، إلا بعد وصول الرأسمالية الأوروبية الغربية إلى مرحلة الإمبريالية، ما أفضى – ضمن ما أفضى – إلى ظهور الحركة الصهيونية؛ فبوصول الرأسمالية الغربية إلى مرحلة الإمبريالية، في الثُلث الأخير من القرن التاسع عشر، عمدت إلى التوسُّع في احتلال أقطار أخرى؛ الأمر الذي أفضى إلى ضغوطات اقتصادية على الفئات الوسطى، في الأقطار الإمبريالية نفسها، وبضمنها الفئات الوسطى اليهودية في هذه الأقطار؛ فطفقت الفئات الأخيرة تفتش عن حل فريد لأزمتها تلك، ولتجنُّب ما سبق لهذه الفئات، ما لاقته من اضطهادات، في عصور شتى، بأوروبا. ووجدت الفئات الوسطى اليهودية الأوروبية أن حل أزمتها لن يكون إلا بملاذ اقتصادي، وسياسي، آمن لها؛ فاستُحدثت الحركة الصهيونية، التي نجحت في عقد مؤتمرها الأول (بال،آب/أغسطس 1897م)، وأخذت تناقش، في مؤتمراتها السنوية الأولى، الموقع المراد لهذا الملاذ، بعد أن احتارات ما بين قبرص، وسيناء، وأوغندا، والأرجنتين، ولم تجد بريطانيا صعوبة في إقناع المؤتمر الصهيوني السادس (1903م)، في أن يرسو على فلسطين، ويشطب بقية الخيارات.

باندلاع الحرب العالمية الأولى (1914م)، ودخول السلطنة التركية القتال إلى جانب ألمانيا، في مواجهة بريطانيا، وفرنسا، انتقلت الإمبريالية، والصهيونية بخطتهما من الورق إلى الأرض، ومع إكمال القوات البريطانية احتلال فلسطين (خريف 1918م)، دخلت المؤامرة حيِّز التنفيذ.

في الوقت الذي كانت طبقة كبار الملاك العرب الفلسطينيين قد تبلورت؛ بعد أن أصدرت السلطنة العثمانية، فرمانين (1858،1873م)، اللذان أنهيا مشاعية الأرض، ما مكَّن بعض أعيان المدن، والريف العرب الفلسطينيين، بالاحتيال على الفلاحين الفقراء، الذين خالت عليهم حيلة أولئك الأعيان؛ بأن تسجيل أراضي فقراء الفلاحين بأسماء أولئك الأعيان، سيحمي الأوائل من التجنيد الإجباري، كما سيحجب عنهم عسف الملتزمين بجباية الضرائب؛ وهكذا، استُحدثت طبقة كبار الملاك، وسادت اقتصاديًا، وبالتالي سياسيًا، ما أهَّلها لاحتكار قيادة المرحلة الأولى من الحركة الوطنية الفلسطينية (1918-1929م).

-الخلفية التاريخية

لأربعة قرون كاملة، وقعت فلسطين تحت الحكم العثماني (1516 – 1918م) لم يقطعها إلا حكمان استقلاليان: ضاهر العمر (1695 – 1775م)، وأحمد باشا الجزار (1721 – 1804م)، فضلاً عن محاولة نابليون بونابرت، عبثًا، احتلال فلسطين (1799م)، وبعد حين، جاءت حملة إبراهيم باشا المصرية (1832 – 1840م). هنا، أفضى لورد بالمرستون، وزير الخارجية البريطانية، ثم رئيس وزرائها، إلى قنصله في اسطنبول على ضرورة زرع جسم غريب في الوطن العربي، يحول دول تكرار دولة قوية هناك. لم تكن هذه مجرد أمنية شخصية، بل تعبيرًا عن وصول رأسماليات أوروبا الغربية إلى مرحلة الإمبريالية، بما اقترن بها من فتوحات استعمارية، تسببت في ضغوط على الفئات الوسطى بالأقطار الإمبريالية نفسها، وبضمنها الفئات الوسطى اليهودية، هنا طفقت الأخيرة في التفتيش عن حل فريد لمعاناتها، فكانت الحركة الصهيونية، التي نجحت في عقد مؤتمرها الأول (بال 1897م)، بهدف اختيار "وطن قومي لليهود"، بينما اليهود مجرد ملة، تنتمي كل فئة إلى قومية القطر الذي عاشت فيه. وطُرحت الأرجنتين، أو أوغندا، أو قبرص، أو سيناء، لكن الإمبريالية البريطانية طرحت على المؤتمر الخامس الصهيوني (1903م)، فلسطين، فكان قراره باختيارها؛ وهم يزعمون أن الله وعدهم بالعودة إليها، الأمر الذي لم يتم على يد الله، بل على يد آرثر بلفور، صاحب الوعد الشهير (2/11/1917م)، بعد أن كانت الدولة العثمانية اختارت التحالف مع ألمانيا، ضد بريطانيا، وفرنسا في الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918م)؛ فاتفقت الأخيرتان على اقتسام الولايات العربية، بعد إخراج العثمانيين منها (اتفاق سايكس – بيكو [مايو 1916]م) ، بعد أن كانت بريطانيا وعدت الحسين بن علي، شريف مكة، بمنح تلك الولايات استقلالها، في حال أعلن الشريف الثورة على الدولة العثمانية.
غني عن القول بأن فلسطين – شأن بقية الولايات العربية تحت الحكم العثماني- عانت كثيرًا من التخلف الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، والثقافي. وفي1856م، أصدرت السلطات العثمانية فرمانًا، قضى بتسجيل الأراضي بأسماء أصحابها. فأغرى المتنفِّذون الفلسطينيون، وبعض السوريين، واللبنانيين، صغار الفلاحين بتسجيل أراضيهم بأسماء أولئك المتنفذين؛ بما يحمي الفلاحين من الضرائب، والتجنيد، في آن. وبذا تبلورت طبقة كبار الملاك الزراعيين، التي هيمنت على الحياة، الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية الفلسطينية، حتى آخر المرحلة الأولى من الحركة الوطنية.
المرحلة الأولى من الحركة الوطنية

ما أن أكملت القوات البريطانية احتلال فلسطين (أيلول / سبتمبر 1918م) حتى استحوذ كبار الملاك، في يسر، على قيادة الحركة الوطنية. الأمر الذي استمر، على مدى المرحلة الأولى من الحركة الوطنية (1918 – 1929م). وعلى ضفافها، توالدت حزيبات هزيلة، لم يمتد بها العمر، وعجزت عن إنجاز أي شئ.
بعد أن فرض مؤتمر "سان ريمو" الإمبريالي انتداب بريطانيا على فلسطين (1919م)، نشبت صدامات بين العرب واليهود في فلسطين (نيسان / أبريل 1920، وأيار / مايو 1921م) ، ظاهرها طائفي، لكن جوهرها وطني، وطبقي؛ بعد أن فزع الشعب العربي الفلسطيني من المشروع الصهيوني، الذي أطل برأسه، وأشهرت الحركة الصهيونية شعار "العمل اليهودي"، وسرعان ما طورته إلى "احتلال العمل"، وبهما تم طرد العمال العرب الفلسطينيين من مشاريع الأعمال اليهودية، ما وسّع البطالة في صفوفهم، فضلاً عن أن الانتقال الواسع للأراضي الزراعية إلى أيدي الصهاينة، بمحاباة الانتداب البريطاني، حرم الفلاحين العرب الفلسطينيين من مصدر رزقهم، لحساب الصهاينة. وتكرَّرت صدامات مشابهة ( نيسان / أبريل 1924م)، بعد أن كانت "عصبة الأمم" اعتمدت انتداب بريطانيا على فلسطين (تموز / يوليو 1922م) ؛ ما أسلم الحركة الوطنية إلى قنوط، أعجزها ، حتى عن مجرد عقد مؤتمرها السنوي، وامتد هذا الهبوط الوطني، حتى صيف 1928م، بعد أن اجتاح الطاعون، والجراد، البلاد، ومعهما هتفت جموع الصهاينة، قرب "حائط البراق": "الحائط حائطنا!" الأمر الذي تكرَّر ، بعد نحو العام، في "عيد كيبور"، الديني اليهودي، فاندلعت صدامات بين الطرفين، العربي والصهيوني، امتدت من القدس، إلى الخليل، وصفد، لنحو أسبوعين، ما بين آب/ أغسطس، إلى أيلول / سبتمبر 1929م. وسقط في "هبَّة البُراق" قتلى من الطرفين، فاق عددهم كثيرًا ما سقط في مجموع الصدامات الثلاثة السابقة. على أن الأهم ما تيقنت منه الجماهير العربية الفلسطينية، من تحيُّز القوات البريطانية للصهاينة، ما أكد مدى عقم برنامج كبار الملاك، الذي فرض مجرد المؤتمرات، والوفود، ومذكرات الاحتجاج، كأشكال كفاح، وعادى اليهود كدين، وليس الصهيونية كحركة استعمارية، استيطانية، اجتثاثية، إحلالية. والأنكى أن كبار الملاك احتكموا، في هذا العداء، للانتداب البريطاني! هنا أخلت المرحلة الأولى من الحركة الوطنية موقعها للمرحلة الثانية.

المرحلة الثانية

فضلاً عن ذاك التطور السياسي، فإن تطورات اقتصادية، واجتماعية قد حدثت، وتضافرت مع المجال السياسي؛ إذ تطوَّرت البرجوازية العربية الفلسطينية، التي تمكنت من إنشاء بنوكها (البنك العربي [1930م]، والبنكين الزراعي العربي، والصناعي العربي [1935م])، وعبَّرت تلك البرجوزاية عن تطورها ذاك، بعقد مؤتمرات محسوبة على تلك البرجوزاية (الصحفيين، والشباب، والطلاب [ فيما بين العامين 1927 – 1929م])؛ ما حفَّز كبار الملاك إلى تلفيق "المؤتمر النسائي الأول" غداة الهبَّة، ووضعوا على رأس هذا المؤتمر قريناتهم!
أدارت الجماهير العربية الفلسطينية ظهرها لبرنامج كبار الملاك، بينما دخلت البرجوازية العربية الفلسطينية شريكاًا صغيرًا في قيادة الحركة الوطنية، وإن تجاوز حضورها في تلك القيادة حجمها داخلها، بعد أن استقوت البرجوازية هنا بالحركتين العمالية والفلاحية، فضلاً عن البرنامج الكفاحي لتلك البرجوازية وذلك بعد أن صحَّح "الحزب الشيوعي" برنامجه السياسي، بمجرد أن تخلص الحزب من بعض قادته، الذين فرضوا برنامجًا يمينيًا على الحزب، منذ نشأ، ربيع 1919م، وإلى ما بعد الهبَّة المذكورة. كما عقدت الطبقة العاملة مؤتمرها النقابي الأول، في العام نفسه، وانتخبت قيادة لها، فكانت أول حركة نقابية عمالية، تظهر في الوطن العربي.
في أول اختبار للقيادة الوطنية الجديدة، دعت إلى تنظيم مظاهرات، خريف 1933م، في كل مدينة، على التوالي، ضد سياسة الانتداب، الذي اعتبره برنامج البرجوازية أُس البلاء، والصهيونية مجرد ذيل له.
سقط في هذه الانتفاضة عشرات القتلى والجرحى، وأقدمت سلطات الانتداب على اعتقال عشرات النُشطاء السياسيين، وعاملتهم بقسوة وحشية. ما أربك البرجوازية؛ فعمدت إلى وسائل كفاح أخرى!
في الأسبوع الأول من تشرين الثاني / نوفمبر 1935م، اكتشف عمال ميناء يافا بأن صناديق الأسمنت الواردة لحساب شركات صهيونية في فلسطينن إن هي إلا صناديق أسلحة؛ فأضرب عمال الميناء، احتجاجًا، وعبَّر الغضب الشعبي عن نفسه في غير مجال؛ فاستثمر الشيخ عز الدين القسام هذه اللحظة الثورية، وخرج ومعه بعض أنصاره، إلى أحراج يعبد، محاولاً تأسيس "بؤرة ثورية". لكن أحد مقاتلي القسام أغراه وجود شرطي أجنبي، فعاجله برصاصة قتلته، ما كشف موقع مشروع البؤرة، مبكرًا، فحاصرتها قوات بريطانية، تمكنت من اغتيال معظم أفرادها، وأسر آخرين، بينما تمكنت القلة من الإفلات (19 / 11/ 1935م).

بذا، اغتيلت "حركة القسام"، في مهدها. لكن مجموعة قسامية أخرى، كمنت لقافلة صهيونية، وقتلت معظم ركابها، في منطقة المثلث، (منتصف نيسان/ أبريل 1936م)، فردَّ الصهاينة بقتل عددٍ من العرب الفلسطينيين العُزَّل، في مدينة يافا، التي أعلنت الإضراب السياسي (20/4/1936م)، وتبعتها بقية المدن، والقرى.
هنا، اجتمعت قيادات الأحزاب العربية الفلسطينية، في 25 نيسان / أبريل 1936م، وقرَّرت إعلان الإضراب! واستحداث جبهة وطنية بين تلك الأحزاب، حملت اسم "اللجنة العربية العليا"، وترأسها رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، الحاج أمين الحسيني.
استمر هذا الإضراب نحو ستة أشهر متصلة، وشارك فيه الجميع، بما في ذلك رجال الشرطة، وإن استٌثني موظفو الحكومة، الذين اكتفوا بتقديم مذكرة إلى سلطات الانتداب! ولم يتوقف هذا الإضراب، إلا بطلب من الملوك، والأمراء العرب؛ "اعتمادًا على حُسن نوايا صديقتنا بريطانيا"!
لعل ما لا يثير الاستهجان هنا أن المندوب السامي البريطاني في القدس هو الذي صاغ هذا البيان!
ما أن توقف هذا الإضراب، حتى سارعت سلطات الانتداب إلى منح مئات تصاريح الدخول لصهاينة إلى فلسطين؛ فأعلنت "اللجنة العربية العليا" مقاطعتها للجنة التحقيق الملكية البريطانية (لجنة بيل)، وإن عادت "اللجنة العربية العليا" فأذعنت لطلب الملوك، والأمراء إياهم بضرورة المثول بين يدي اللجنة، التي انتهت بإصدار تقريرها (7/7/1937م)، الذي أوصى بتقسيم فلسطين بين العرب، واليهود؛ فتجددت الثورة، بأشد مما كانت عليه، ما دفع سلطات الانتداب إلى اعتقال معظم أعضاء "اللجنة العليا"، بينما تمكن رأسها، الحاج أمين الحسيني، من الإفلات إلى لبنان. على أنه ما كان لهذه الثورة أن تنتصر، وهي المفتقرة إلى السلاح والذخيرة، والسند العربي، والمؤازر الدولي، على العكس من الصهاينة؛ لذا، سرعان ما بُحَّت أصداء هذه الثورة ، خريف 1939م، بعد أن قُتل من العرب الفلسطينيين 5032، منهم 112 نفَّذت فيهم سلطات الانتداب الإعدام، إلى 8958 اعتقلتهم هذه السلطات، وصدرت على نحو ألفين منهم أحكام جائرة، كما تم هدم أكثر من خمسة آلاف منزل لعرب فلسطينيين.
هنا، لاحت في الأفق سُحب الحرب العالمية الثانية، فعمدت بريطانيا إلى تخدير شعوب مستعمراتها، وبضمنها فلسطين، فدعت القيادة الفلسطينية ، والأنظمة العربية، فضلاً عن الحركة الصهيونية إلى "مؤتمر المائدة المستديرة"، في لندن، وإن أخفق هذا المؤتمر في التوصٌّل إلى تسوية، فأصدرت الحكومة البريطانية "الكتاب الأبيض" (أيار / مايو 1939م)، وفيه وعدت بمنح فلسطين استقلالها، بعد عشر سنوات ! يتم خلالها التخفيف من معدلات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والحد من انتقال الأراضي للصهاينة. لكن الطرفين – العربي والصهيوني- رفضا الكتاب. وسرعان ما اندلعت الحرب العالمية الثانية، فقال القائد الصهيوني المعروف، ديفيد بن غوريون: "سنقاتل إلى جانب بريطانيا، وكأن (الكتاب الأبيض) لم يصدر، وسنقاتل ضد (الكتاب الأبيض) وكأن الحرب العالمية لم تندلع".

المرحلة الثالثة

قنطت البرجوازية من جدوى الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني، وطفقت تبحث عن أشكال أخرى للكفاح، الأمر الذي عزَّزته الحرب العالمية الثانية، وفيها اضطرت سلطات الانتداب إلى الاعتماد على الصناعة الفلسطينية، يهودية، وعربية (مع محاباة الأولى)، لسد احتياجات القوات البريطانية في فلسطين، بعد أن توقفت السفن البريطانية عن التنقل، بين بريطانيا ومستعمراتها، بتأثير قيام الغواصات الألمانية بإغراق كل سفينة بريطانية ، تجرؤ على الإبحار إلى خارج بريطانيا، ما دفع بالصناعة العربية الفلسطينية خطوات وئيدة إلى الأمام؛ فانتقلت تلك البرجوازية إلى الشعارات الاقتصادية؛ وهذه يومية "الدفاع" اليافية، تكتب، العام 1945م: "نريد تجارة حرَّة، واجتماعات حرَّة، نريد أن تستأنف الحكومة عملها، جريًا على سياسة الكتاب الأبيض. نريد أن تحوَّل ميزانية الحكومة الضخمة، إلى تنفيذ مشروعها الإنشائي؛ ليعم الرخاء، ويستتب الأمن، وتتوفر للجميع ضروريات الحياة الشريفة."
على أن مجموعة أٌخرى من البرجوازية العربية الفلسطينية ذرَّت قرنها، مع بزوغ نجم الإمبريالية الأمريكية، بعد أن أبقت هذه الإمبريالية أراضيها في منأى عن التدمير النازي، الذي احتل فرنسا، بسهولة ويُسر، كما أعمل تدميرًا في القوات، والمدن البريطانية؛ ما جعل لندن تقع تحت طائلة ديون أمريكية باهظة، واقترن ارتهان بريطانيا الاقتصادي بالارتهان السياسي لواشنطن. والتقط مثقفون عرب فلسطينيون، مولعون بالغرب، ما استجد من هذا المشهد؛ وتأسس "المكتب العربي"، برئاسة موسى العلمي، وبتمويل من عراق نوري السعيد؛ واجتهد هذا المكتب، والعاملون فيه لإنقاذ ما ادعوه "الرأي العام الغربي" من النفوذ الصهيوني!
حين ودَّع العلمي، أحمد الشقيري، بعد تعيين الأخير مديرًا لفرع المكتب في واشنطن، أكد العلمي للشقيري بأن القضية الفلسطينية ستُحل في واشنطن، وليس في لندن.
سبق للجامعة أن وافقت على استثناء فلسطين، من بين الأقطار العربية التي لم تنل استقلالها، فسمَّت فلسطين مندوبها إلى الجامعة، وهو موسى العلمي، الذي ما أن وصل إلى مصر، حتى فوجئ بمصطفى النحاس باشا، رئيس الوزراء المصري، آنذاك، يُبلغه بعدول الدول العربية عن تسمية فلسطين، ونصحه النحاس الاتصال بكلايتون، مدير المخابرات البريطانية في الشرق الأوسط ، فذهب العلمي إليه ، في السفارة البريطانية بالقاهرة، حيث قطع للعلمي قصاصة ورق، دون عليها المسئول البريطاني موافقته على عضوية فلسطين في الجامعة. رحَّب النحاس، وهشَّت بقية الوفود العربية، وبشَّت، وأحسنت استقبال المندوب الفلسطيني، بعد طول عبوس، حسب أمين سر "الهيئة العربية العليا"،حسين فخري الخالدي.

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية (أيار / مايو 1945م)، وعودة قادة الحركة الوطنية من منافيهم، فإنهم فشلوا في إحياء "اللجنة العربية العليا"، بسبب تمترس جمال الحسيني، رئيس "الحزب العربي"، وراء مطلب رفع عدد مندوبي العربي في تلك اللجنة، إلى خمسة مندوبين، مقابل عضو واحد لكل حزب! ما دعى أحزاب : "الدفاع"، و "الإصلاح"، و "مؤتمر الشباب"، (مطلع حزيران / يونيو 1946م)، إلى التحالف مع اليسار العربي الفلسطيني في "الجبهة العربية العليا"؛ وكأن حيَّة لدغت "جامعة الدول العربية" الوليدة، فسارعت إلى إيفاد وزير خارجية سوريا ، آنذاك، جميل مردم بك، إلى فلسطين؛ كي يُجهز على هذه الجبهة، وقد أفلح، بمجرد أن أقنع جمال الحسيني بضرورة استمرار عزل اليسار! وأُعيد تشكيل "اللجنة العربية"، ولكن بعد أن أعطتها "الجامعة" اسمًا جديدًا هو "الهيئة العربية العليا"، وأوكلت الجامعة رئاسة هذه الهيئة إلى الحاج أمين الحسيني، الذي أفلت من ألمانيا إلى مصر، في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، فرحب به الملك فاروق، وغدا لاجئًا سياسًا في مصر .
خفتت الحركة الوطنية، على مدى سني الحرب العالمية الثانية الست (1939 – 1945م)، بينما التقطت القيادة الصهيونية احتلال واشنطن موقع لندن، على رأس المعسكر الإمبريالي؛ فعقدت الصهيونية مؤتمرها، في "فندق بالتيمور"، بنيويورك (9-11/ 5 / 1942م)، وبان في قرارات "مؤتمر بالتيمور" هذا الاتجاه الجديد لتلك القيادة، الذي عبَّر عنه قرار المؤتمر بنقل عضوين من اللجنة السياسية للحركة الصهيونية، من بين ثلاثة، كانوا في لندن، فضلاً عن تطوير المؤتمر هدف الصهيونية إلى "إقامة دولة يهودية في فلسطين".

ما أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، حتى كشفت الإمبريالية الأمريكية عن مدى تحيُّزها المطلق للصهيونية؛ فطالب مؤتمرا الحزبيْن الأمريكييْن (الجمهوري، والديمقراطي) بالسماح لمئة ألف يهودي بالهجرة إلى فلسطين، وتجاهلت حكومة لندن هذا الطلب. لكن الرئيس الأمريكي، هاري ترومان، ضغط، فاستُحدثت "اللجنة الأنجلو – أمريكية" إلى فلسطين، فأوصت، ربيع 1946م، بالسماح نفسه. لكن الحكومة البريطانية تغافلت عن هذا المطلب؛ وعيًا منها بأن الكيان الصهوني سيغدو مواليًا للإمبريالية الأمريكية، التي كشفت عن نواياها بوراثة الإمبرياليتين، البريطانية والفرنسية، في كل مستعمراتهما، بما يوازي النمو الجديد للدور الأمريكي، في النظام العالمي الجديد.
إزاء هذا الرفض، بدأت العصابات الصهيونية المسلحة (الهاغناه؛ الأرغون؛و شتيرن)، تشن هجمات خاطفة على القوات البريطانية، فقتلت العشرات من هذه القوات.
هنا، دعت لندن إلى مؤتمر عربي _يهودي ثان، في لندن، لكنه أخفق؛ فنصح خبراء الخارجية البريطانية وزيرهم، إرنست بيفن، بتحويل القضية الفلسطينية، برمتها، إلى الأمم المتحدة، التي ستعجز عن التوصُّل إلى قرار؛ بفعل التوازن الحرج بين الأصوات الموالية لواشنطن، وتلك المؤيدة لعدوها اللدود، الاتحاد السوفياتي.
على أن الذي حدث أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، اتفقت على إرسال "لجنة دولية"، لاستطلاع الأمر في فلسطين، وقدَّمت اللجنة تقريرها إلى الجمعية العامة، في نيسان / أبريل 1947م، وفيه أوصت أغلبية اللجنة بتقسيم فلسطين.
المستهجن أن قيادة الحركة الوطنية مثلت بين يدي "اللجنة الأنجلو – أمريكية"، المعادية لقضايا العرب، بينما قاطعت تلك القيادة "اللجنة الدولية"، وفيها أصدقاء لقضايا العرب. ولم تستمع تلك القيادة لهذا الرأي من قيادة "عصبة التحرر الوطني"، التي اكتفت، بدورها، بتقديم مذكرة إلى اللجنة الأخيرة، ولم تمثل بين يدي اللجنة، حفاظًا على "وحدة الصف الوطني".
هنا، عرض أندريه جروميكو، وكيل الخارجية السوفييتية، على الوفود العربية، مشروعًا متوازنًا، لكن الوفود العربية رفضت مجرد تسلم المشروع السوفييتي، عدا مندوب سوريا، الذي ناله تقريع رئيس جمهوريته على هذه الفعلة!
إلى أن حلَّ موعد التصويت على المشروع الدولي، وهنا دعا فشنسكي، المندوب السوفييتي للأمم المتحدة، الوفود العربية، إلى حفل شاي، للتنسيق بشأن التصويت على المشروع، إلا أن أيًا من المندوبين العرب لم يحضر! بينما كان الوفد الصهيوني يتحرك، كبندول الساعة، بين الوفدين، الأمريكي والسوفييتي.

انتهى الأمر- كما هو معروف- بالموافقة على مشروع التقسيم، بأغلبية 33 صوتًا، ضد 13 صوتًا، وامتناع 10 عن التصويت.
هنا، اندلعت الاشتباكات المسلحة، بين المناضلين العرب الفلسطينيين، بتسليحهم، وتذخيرهم الشحيحين، وبين العصابات الصهيونية المسلحة، خير تسليح، والمدعومة دوليًا على نحو حاسم. إلى أن تقرَّر انسحاب القوات البريطانية، فتنازلت عن مواقعها، وأسلحتها للصهاينة، فزادتهم قوة، وتم الانسحاب، يوم 15 أيار / مايو 1948م، وقبلها بيوم واحد أعلنت القيادة الصهيونية قيام دولتها، في الوقت الذي دخلت الجيوش العربية فلسطين، لكنها أخفقت في مهمتها المعلنة؛ وبعد أن كانت نسبة ما بأيدي العرب الفلسطينيين ، من الأرض، يفوق 80% ، فإنه لم يبق لهم إلا نحو 22% فقط!
أما الهزيمة العربية المدوية، فقد حلَّت بنا، لأسباب عدة:

ثمة اختلال ميزان القوة العسكري، لصالح إسرائيل؛
إرسال خمس دول عربية ما مجموعه 20500 جندي إلى فلسطين، بينما تقضي البديهية العسكرية إرسال ثلاثة أضعاف القوة المدافعة، وليس أقل من ثلثها؛
عدم إلمام تلك الجيوش بطبيعة الأرض، وبدل أن تستعين بالمقاتلين الفلسطينيين، فإن الجيشين المصري والأردني، سارعا إلى نزع أسلحة هؤلاء المقاتلين، ومن رفض منهم أودع السجن! وجاء استبعاد أولئك المقاتلين، حتى لا يُفسدوا تعهد نظامي هذين الجيشين، لحكومة لندن ، بعدم تخطي قواتهما خطوط التقسيم؛
فضلًا عن جهل النسبة الأكبر من المقاتلين بالهدف الذي يقاتلون من أجله؛
ناهيك عن القهر الطبقي السائد في هذه الجيوش؛
مع تنافرها ، في التشكيل، والتنظيم، والتسليح، والتدريب؛
خضوع تلك الجيوش لخمس قيادات عسكرية؛
ناهيك عن شُح الأسلحة والذخيرة، وامتناع الدول الغربة عن بيع أسلحة للدول العربية، مقابل تدفق الأسلحة والذخائر إلى العصابات الصهيونية.

كانت الجبهات الداخلية العربية قد تخلخلت؛
زاد الطين بلة أن بعض الدول العربية تذرعت بهذه الحرب لتفرض الأحكام العرفية، في أقطارها، حتى تقمع القوى الوطنية فيها؛
ناهيك عن خضوع أنظمة الدول العربية للإمبريالية البريطانية (مصر، الأردن،و العراق).
بذا، تكون الإمبريالية البريطانية قد سحبت قواتها من فلسطين، التي وقعت تحت استعمار استيطاني، اجتثاثي،إحلالي، عمد إلى تنظيم المذابح للشعب العربي الفلسطيني، ورفض حتى تنفيذ مقرَّرات الأمم المتحدة، بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. ما يعني أننا أصبحنا أمام حالة جديدة، في سياق آخر.

القسم الثاني

دار بدائل للطبع والنشر والتوزيع
القاهرة 2023


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى