الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم رحمة رجب بسيوني عبد العال جعفر

آخر ما بقي منها

بِوَرَقَتِي وَقَلَمِي البَالِيَينِ، وَفِي غُرفَتِي الصَّغِيرَةِ وَالمُتَوَاضِعَةِ، وَتَحتَ ضَوءٍ خَافِتٍ لِشَمعَةٍ اختَرَقَت قَلبَ الظَّلَامِ، أَكتُبُ لَكُم عَن تِلكَ اللَّحَظَاتِ الأَخِيرَةِ لِطِفلَةٍ صَغِيرَةٍ حَالِمَةٍ، أَكتُبُ بِحِبرٍ جَافٍ وَقَلبٍ شُجَاعٍ، فَأَنَا لَا أَستَطِيعُ الخَوفَ بَعدَ اليَومِ. أَكتُبُ وَأَنَا تَنسَابُ مِنِي الكَلِمَاتُ كَمَا انسَابَت رُوحُهَا بِسَلَاسَةٍ مِن جَسَدِهَا الهَزِيلِ، أَكتُبُ وَأَنَا لَا أَعرِفُ كَيفَ أَصِفُ ِتلكَ اللَّحَظَاتِ لَكُم، فَأَنَا لَستُ بِرِوَائِيٍّ كَبِيرٍ، وَلَستُ مِن كُتَّابِ الجَّرَاِئدِ المَاهِرِينَ، لَستُ بِرَسَّامٍ وَلَا شَاعِرٍ، أَنَا رَجُلٌ مِن أَبسَطِ مَا يَكُونُ، لَقَد كُنتُ كَذَلِكَ، وَلَكِني لَا أَعلَمُ بَعدَ اليَومِ إِن كُنتُ أَستَطِيعُ العَودَةَ إِلى هَوِيَّتِي القَدِيمَةِ، وَإِن كُنتُ أَستَطِيعُ الرُّجُوعَ إِلى حَيَاتِي، فَتِلكَ الطِّفلَةُ بِلَحَظَاتِهَا القَصِيرَةِ وَأَنفَاسِهَا التي لَازِلتُ أَستَطِيعُ سَمَاعَهَا رَغمَ انقِضَائِهَا قَد مَحَت رَجُلًا كَامِلًا مِن الوُجُودِ، بَينَمَا أَوجَدَت آخَر تَنسَابُ مِنهُ تِلكَ الكَلِمَاتُ الآن.

مَاذَا أَصِفُ لَكُم؟ وَكَيفَ لِي أَن أَبدَأَ كَلِمَاتِي؟ أَأَبدَأُ بِوَصفِ أَنفَاسِهَا؟ تِلكَ الأَنفَاسُ التي التَقَطَتهَا مِن تَحتِ رُكَامِ الحَضَارَاتِ وَصِرَاعِ البَشَرِيَّةِ، أَأَبدَأُ مِن ذَلِك النَّفَسِ .... النَّفَسِ الدَّافِئِ؟ النَّفَسِ الذِي كَانَ مَصدَرَ اطمِئنَانٍ لَنَا جَمِيعًا، وَمَصدَرَ إِلهَامٍ لَنَا جَمِيعًا، النَّفَسِ المُشَابِهِ لِجَمِيعِ الأَنفَاسِ بِشَهَقَاتِهِ وَزَفَرَاتِهِ لَكِنَّهُ المَحَارِبُ فِي كُلِ لَحَظَاتِهِ، النَّفَسِ المُوجِعِ لِفُقدَانِهِ، النَّفَسِ الذِّي دَلَّ عَن وُجُودِ قَلبٍ نَابِضٍ فِي جَوفِهَا لَازَالَ يُصَارِعُ بِكُلِ شَجَاعَةٍ وَصُمُودٍ، النَّفَسِ الذِّي سَيَصِفُهُ التَّارِيخُ بِقَلَمِهِ الأَحمَرِ فِي صَفَحَاتِهِ. أَم أَبدَأُ مِن تِلكَ الكَلِمَاتِ الأَخِيرَةِ لَهَا، كَلِمَاتُهَا التِّي وَصَفَت فِيهَا مَعَانِي الطُفُولَةِ المُعَذَّبَةِ، كَلِمَاتُهَا التِّي انحَفَرَت فِي ذَاكِرَتِي إِلَى آخِرِ رَمَقٍ فِي الحَيَاةِ، بِكُلِ حَرفِِ فِيهَا بِكُلِ عِبَارَةٍ وَكَلِمَةٍ وَجُملَةٍ، فَبَينَمَا كُنَّا نَرفَعُ عَنهَا الأَنقَاضَ بَدَأَت هِيَ بِهَمسِهَا:
"لِي جِدَارٌ فِي غُرفَتِي عَلَّقتُ عَلَيهِ كُلَّ مَا تَعَلَّقَ فِي جُدرَانِ قَلبِي، رُسُومَاتِي الطُّفَولِيَّة، شَهَادَاتِي المَدرَسِيَّة، صُورُ العَائِلَة، حَتَّى أَبسَطَ الأَشيَاءِ وَأَسخَفَهَا، كَأَوَّلِ قَلَمٍ مَدرَسِيٍّ لِي، أَولِ كَلِمَةِ مَدحٍ كَتَبَتهَا لِي إِحدَى مُعَلِّمَاتِي، بَعضُ أَغلِفَةِ الهَدَايَا القَدِيمَةِ، كَانَ الجِدَارُ يَتَّسِعُ لِلكَثِيرِ مِنَ الأُمُورِ وَلَكِنَّهُ مَعَ مُرُورِ الأَعوَامِ بَدَأَ يَضِيقُ عَن حَملِ كُلِّ تِلكَ الذِّكرَيَاتِ؛ لِذَا وَبِصُعُوبَةٍ بَالِغَةٍ أَقنَعَتنِي أُمِّي أَن أَتَخَلَّصَ مِن بَعضِهَا لِوَضعِ أُخرَى، كَانَ مِشبَكُ شَعرِي هُو أَولُ مَا تَمَّ التَّخَلُصُ مِنهُ، لَقَد شَعَرتُ حِينَ نَزَعتُهُ وَكَأَني أَنزَعُ قِطعَةً مِن قَلبِي، وَبَكَيتُ حِينَهَا بِسَخَافَةٍ كَبِيرَةٍ، وَلَكِنَّ سُبحَةَ جَدِّي التِي أَهدَانِي إِيَّاهَا كَتِذكَارٍ كَانَت تَستَحِقُ المَكَانَ بِجَدَارَةٍ. جِدَارِي المُلَوَّنُ بِزُرقَةِ السَّمَاءِ فَوقَكُم قَد حَمَلَ أَجمَلَ مَا جَمَعتُهُ فِي حَيَاتِي، قَد كَانَ أَوسَعَ مِن بَعضِ قُلُوبِ البَشَرِ، وَهُو يَتَّسِعُ لِي الآنَ لِيَضُمَّنِي تَحتَهُ وَأَنَا أَقبِضُ بَينَ يَدَيَّ عَلَى حِجَارَتِهِ الدَّافِئَةِ، وَعَلَى قِطعَةٍ مِن قَمِيصِ أَخِي، ذَلِكَ القَمِيصُ الذِّي أُردِيَ فِيهِ قَتِيلًا، وَكَانَت رَسمَةُ العَائِلَةِ فِي العِيدِ هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَعتُهُ عَنِ الجِدَارِ لِوَضعِهِ، فَهِيَ لَم تعُد لَهَا أَيُّ مَعنًى بَعدَ رَحِيلِهِ، مِن بَعدِهَا تَوَالَتِ الأَشيَاءُ التِّي تَخَلَّصتُ مِنهَا، وَهَا أَنَا أَضُمُّ فِي يَدِيَّ حِجَارَتَهُ الدَّافِئَةِ، لِيَضُمَّنِي بِكُلِّ مَا فِيهِ مِن حُبٍّ وَذِكرَيَاتٍ تَحتَ رُكَامِهِ كَمَا ضَمَّ جَمِيعَ عَائِلَتِي. جِدَارِيَ المُلَوَّنُ بِلَونِ السَّمَاءِ وَزُرقَتِهَا، أَنَا لَستُ خَائِفَةً فَلِمَ النَّحِيب، لَيتَكُم تَرَونَ لَونَ السَّمَاءِ مِن هُنَا، وَتَشُمُّونَ عَبَقَ أُمِّي المُنتَظِرَةِ بِشَوقٍ، وَتَسمَعُونَ تَمتَمَاتِ جَدِّي المُسَبِّحَةِ بِهُدُوءٍ، وَتَرَونَ جَمَالَ أَخِي، لَيتَكُم هُنَا مَعِي الآنَ تَرَونَ وَتَسمَعُونَ مَا أَرَى وَأَسمَع."

قَد ظَلَلتُ أَستَمِعُ إِلَى تِلكَ الكَلِمَاتِ التي نَفَذَت إِلَى رُوحِي وَكَأَنِّي لَم أَتَعَلَّم السَّمَاعَ قَبلًا، لَم أَتَعَلَّم الكَلَامَ قَبلًا، أَيُ لُغَةٍ كَانَت تَتَحَدَّث؟! بِأَيِّ تُرجُمَانٍ كَانَت تُعَبِر؟! بِأَيِّ قَلبٍ كَانَت تَشعُر؟! بِأَيِّ عَينٍ رَأَت وَسطَ الظَّلَامِ؟! مِن أَينِ أَبدَأُ وَمِن أَينَ أَنتَهِي؟! فَلَقَد بَدَأَ صَوتُهَا الصَّغِيرُ يَخفُتُ، وَبَدَأتُ أَصرُخُ كَالمَجنُونِ "بِضعَ لَحَظَاتٍ بَعد وَنَصِلُ إَلَيكِ"، لَكِنَّ صَوتِي كَانَ لَا يَبُثُّ لَهَا الأَمَانَ، فَلَا رَجفَةَ خَوفٍ فِي قَلبِهَا، لَا دُمُوعَ جَافَةٍ فِي عَينَيهَا، ظَلَلتُ أَتَحَسَّسُ صَوتَ أَنفَاسِهَا وَأَنَا أَرفَعُ عَنهَا جِدَارَهَا المُلَوّنَ جُزءًا جُزءًا، لَقَد رَأَيتُ أَغلِفَةَ هَدَايَا العِيدِ، رُسُومَاتِهَا، أَقلَامَهَا، أَلعَابَهَا، نَجَاحَاتِهَا المَدرَسِيَّةِ، كَلِمَاتِ الشُّكرِ وَالثَّنَاءِ، كُنتُ أَرفَعُ أَنقَاضَ حَيَاتِهَا بَحثًا عَن أَنفَاسِهَا، كُنتُ أَتَحَسَّسُ تِلكَ الأَنفَاسَ وَسطَ الكَثِيرِ والكَثِيرِ مِن الحِجَارَةِ، كُنتُ أَستَطِيعُ سَمَاعَهَا تَتَنَفَّسُ بَبُطءٍ وَثَبَاتٍ، تَتَنَفَّسُ بِكُلِّ مَا فِي الحَيَاةِ مِن عَبَقِ الحَيَاةِ، تَتَنَفَّسُ كَطِفلٍ يَتَهَدهَدُ فِي حِجرِ أُمِّهِ حَتَى غَفَى......

لَحظَةٌ تَوَقَفَ لَهَا الزَّمَانُ وَانهَارَت لَهَا أَعمِدَةُ السَّمَاءِ، لَحظَةُ صَمتٍ قَصِيرَةٍ سَكَنَ لَهَا دَوِيُّ العَالَمِ، تِلكَ اللَّحظَةُ حِينَ هَدَأَ فِيهَا قَلبُهَا المُنَاضِلُ مُعلِنًا قَد آنَ الرَّحِيلُ، وَلَم أَعُد أَسمَعُ سِوَى أَنَّاتِ بَعضِ المُحِيطِينَ بِي، حِينَهَا فَقَط تَوَقَفتُ عَن رَفعِ الحِجَارَةِ، وَظَلَلتُ أَنظُرُ لِأَكوَامِ التُّرَابِ مِن حَولِي، كَم مِن نَفَسِِ حَوت؟ وَكَم مِن جِدَارٍ ضَمَّت؟ كَم مِن قَلبٍ صَارَعَ بِعُنفُوَانِ الحَيَاةِ حَتَّى قَضَى؟

أَنَا لَا أَملِكُ الكَلِمَاتِ لِوَصفِ تِلكَ اللَّحَظَاتِ التِّي مَرَرتُ بِهَا، وَلَا أَملِكُ الأَوصَافَ لِأُخبِرَكُم عَن تِلكَ الطِّفلَةِ، هِي فَقَط تِلكَ الكَلِمَاتُ، تِِلكَ الذِّكرَيَاتُ، فَلَا أَحَدَ رَآهَا، لَا أَحَدَ قَد يَصِفُهَا، لَا لَونَ لِبَشرَتِهَا، لَا لَونَ لَِعَينَيهَا، لَا اسمَ لَهَا، لَا شَيء سِوَى بَعضِ الحِجَارَةِ المُلَوَّنَةِ وَالذِّكرَيَاتِ، لَا شَيء لِيَخُطَّهُ التَّارِيخُ، أَو لِتَتَذَكَّرَهُ العُقُولُ البَشَرِيَّةُ، وَلَكِن كَيفَ لِتِلكَ اللَّحَظَاتِ أَن تُنسَى؟ كَيفَ لَهَا أَن تَمضِي كَمَا مَضَت بَاقِي أَيَّامِنَا؟ كَيفَ لِلبَشَرِيَّةِ أَن تَغُضَّ الطَّرفَ عَنهَا؟ هِيَ الصُّمُودُ، هِيَ الحِجاَرَةُ الصَّغِيرَةُ المُحَارِبَةُ، هِيَ الوُجُوهُ البَاسِمَةُ فِي وَجهِ الحَيَاةِ، هِيَ ذَلِكَ الجَسَدُ الصَّغِيرُ المَدفُونُ تَحتَ الأَنقَاضِ، الذِّي خَلَّفنَاهُ وَرَاءَنَا رَاحِلِينَ بَحثًا عَن نَفَسٍ آخَرَ نَتَحَسَّسُهُ، لَقَد تَرَكنَاهُ وَمَعَهُ شَيءٌ مِن كُلِّ رَجُلِِ فِينَا، شَيءٌ لَا نَستَطِيعُ استِرجَاعَهُ مِنهُ، لَكِنَّهُ فِي آنِ اللَّحظَةِ مَنَحَنَا شَيئًا لَا يَبلَى مَعَ الزَّمَانِ، شَيئًا يَخُطُّ الآنَ تِلكَ الكَلِمَاتِ دُونَ وَعيٍ مِنِي، شَيئًا يُرِيدُ فَقَط أَن يَعلَمَ العَالَمُ عَن تِلكَ الفَتَاةِ الصَّغِيرَةِ، أَن يُخبِرَهُ عَنهَا بِتِلكَ الكَلِمَاتِ الرَّقِيقَةِ وَالمُهَذَّبَةِ، شَيئًا سَيَظَّلُ يَهمِسُ فِي أُذُنِي بِذَاتِ الكَلِمَاتِ، وَيَتَنَفَّسُ مَعَ أَنفَاسِي دُخُولًا وَخُرُوجًا فِي كُلِّ شَهقَةٍ وَفِي كُلِّ زَفرَةٍ، شَيئًا سَيَأخُذُنِي إِلَيهَا فِي كُلِّ لَيلَةٍ لِأَزُورَ آخِرَ مَا بَقِيَ مِنهَا جَسَدَهَا الهَزِيلَ القَابِعَ تَحتَ الأَنقَاضِ، وَجِدَارَهَا المُلَوَّنَ بِلَونِ السَّمَاءِ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى