أحلام البرية
أول الليل.. الأرض الرمادية الموحشة تمتد تحت سماء معتمة تلتصق بها حبات ملتمعة، تبعث بضوئها فوق البر الراكض بخفة إلى امتداد لا يدركه البصر، في ظلمة باردة تسري في عظامه وروحه الغائصة في جوف الخوف والرهبة الجاثمة فوق جسد نحيل، يسابق به الريح العاتية المرعبة في ذلك الليل الطويل الموحش.. يصعد حلم ويهوى أخر، مع كل خطوة تغرز آثارها على الرمل الطري البارد، الذي يلامس جسد الصبي الراكض وراء الرجل المسرع الحافي، فتلفه قشعريرة تسري في أطرافه الصغيرة المرتجفة السابحة في بحر الرمل.. لم يمتلك غير لحظات تخرج منفجرة من رأس ساخن متلبد بغيوم الحيرة والقلق، يواري فيه حكاية الهيكل الحجري النائم في بطن الصحراء منذ آلاف السنين وما يحويه تحت أطلاله الواقفة.. قال لابنه الراكض خلفه: تلك حكايات أهل القرية.. وضحك ضحكة ضاعت في أرجاء الظلمة الباردة السارية في عروقهما المندرسة تحت الأجساد النحيلة.. ساعات تمضي والليل الطويل الصامت ينشر رهبته فوق المكان القابع في عمق البر الموحش، لا شيء غير نباح بعيد وأنفاس مفزوعة لاهثة منبثقة كنافورات من ألم متدفق من رؤوس متعبة، تترقب لحظة الوثوب على حلم ظل يحوم في فضاءات مساحتها لا تتعدى جسدين هزيلين سبحا في بحار التمني..
صاح الأب: أسرع يا ولد. لقد كنت بمثل عمرك عندما صحبت والدي لنفس هذه الرحلة! ثم توقف الأب فجأة وقال لابنه الساكت..
لقد مات أمام عيني في تلك الحفرة اللعينة.. سقط ولم يقم بعدها، كانت لحظات قاسية مرعبة وأنا أرى الموت يدنو مني، تحجرت في مكاني للحظات ثم ورايته بقلب ثابت قوي، وعدت أخبر القرية بأن والدي اختطفه رجل كله من حجارة خرج من حفرة أمضى والدي يوماً كاملاً في حفرها، وعندما حاول رفعه إلى الأعلى سقط التمثال عليه وهو واقف في الحفرة، فتمدد التمثال الحجري فوقه.. كانت رواسب الليل الطويل قد حطت على جدران متآكلة تقف مترنحة، تتناثر في مكان محاط بسواتر ترابية يتخللها ممر ضيق طويل..
أشعل الرجل فانوسه الصغير فهربت بعض الظلمة وأمسك بمعوله وراح يفرغ جوف مكان حدده وسط الأحجار فأزاح ترابه بدراية رجل عارف، ظل الصبي يمسك بالفانوس يقربه كلما صاح به الأب السابح بعرقه فيرتعش الضوء حول الحفرة التي بدأت تكبر، والرجل يتابع عمله دون كلل وسط الليل الذي يتدفق في صحراء لا يشق صمتها غير هجمات المعول على الأرض التي انفتحت أمام إصرار الرجل اللاهث، ونظرات الابن المملوءة بالتضرع الخفي، والدموع الساكنة والأطراف المتراقصة رعباً، وهو يرى الأب قد غط في جوف الحفرة بلا حراك، وران سكون باهت للحظة غير أن صرخة مدوية انطلقت من العمق هزت المكان، وألقت بالصبي فوق الأحجار المتناثرة فتهشم فانوسه، ودخلت أسراب الظلمة مسرعة إلى المكان.
– لقد وجدته.. ارم لي الحبل يا ولد.. نهض الصبي المترنح يبحث عن الحبل في سيول الظلمة الهادرة، وقذف به إلى الرجل الهائج الذي شده وسط التمثال الحجري ورمى بطرفه إلى الصبي الذي أمسك به وراح يرمي بما يمتلك من قوة ليسحب الحجارة الثقيلة الرابضة في القاع، لكن الأب مد يديه تحتها ورفعها قليلاً فيما راح يحدق بالحفرة المظلمة التي لم يظهر منها شيء عدا صرخات الأب وهيجانه.. ظل الولد يسحب الحبل المشدود فعثرت قدمه بحجارة ناتئة وسقط جسده على الأرض، فيما دوى صوت ارتطام قوي داخل الحفر مصحوب بشهقة مكتومة ساد بعدها سكون موحش تغلفه خيوط الفجر البعيدة..