

أربعون دقيقة خالدة
يمكنُ للطَّوق أن يكون من ذهب أو ورد أو يدين عاشقتين...
مازحته وهي ترتِّب ياقة قميصه: في المرَّة المقبلة ستأخذني معكَ وإلَّا كسرتُ لك الكاميرا.
لفَّ يده حول خصرها، غرز أصابعه في شعرها، همس في أذنها: أعدكِ بذلك.
وقفَ يطمئنُّ على أناقته قبالة المرآة، وجهُه لا تبدو عليه آثار التَّعب على الرّغم من أنّه لم ينم سوى قليلاً، واليوم لديه رحلة إلى بلد آخر، وقد سبقه إليه اسمه، ولن يكون بصحبته سوى طيفها، تلك التي تتأبَّط ذراعه ويتأبَّط قلبها. لقد فاز حقَّاً بامرأة أحبَّته على الرّغم من أنَّه لا يراها إلَّا بعين واحدة.
يمكن أن يكون الطَّوق جنوداً...
الوقت يعلك نفسه ببطء، أنينُ جدَّته يزداد ويسود، لا يقطعه سوى طلقات رصاص يتسلَّى بها أولئك الجنود الذين اقتحموا المدينة وتغلغلوا في كلِّ أحيائها وحاراتها منذ صباح أمس.
الأرض، أرض المخيَّم صارت وليومين متتالين حكراً على هؤلاء المدجَّجين بالأسلحة. الهواء اللَّطيف والعليل أيضاً صار ملكاً لهم وحدهم، فيما حُشر النَّاس في بيوتهم رغماً عنهم ولا أحد يعرف متى سيُخلى سبيلهم.
قرب النَّافذة جلس الصَّغير مراقباً الشَّارع حيناً والجدَّة حيناً آخر، وجدَّته تحاملت على آلامها ببعض الشَّكوى، ثمَّ بالصَّمت، ثمَّ بالأنين الخافت، ثمَّ بالنِّداء، ثمَّ بالصَّلاة، وبالصَّمت الدَّامع غزيراً، وبالعويل، وبالصَّمت...
الكلُّ في البيت يبحثُ عن حبَّة أخرى من دوائها ربَّما تكون محفوظة في أحد الأدراج أو الحقائب أو تحت السَّرير.
وحده واظبَ على مراقبة الشَّارع من النَّافذة بانتظار البرهة المناسبة.
شيئاً فشيئاً غابت الشَّمس تماماً. صارت الحارة مظلمة، وأيقنَ أنَّه سيفعلها.
تأكَّدَ من انشغال الجميع بالجدَّة، وبحركة خاطفة فتح الباب فاستدارت الرُّؤوس إليه، صاحت أمُّه به أن ارجع، أشار برأسه لا، أمسك مقبض الباب الخارجيّ للبيت وفتحه، أطلَّ برأسه خارجاً متفقِّداً جانبي الحارة، وضعَ قدمه الأولى خارج الباب ثم الثَّانية، شدَّته أمُّه نحو الدَّاخل فتشبَّث بعمود الباب، قال حازماً كرجل: سأحضرُ الدَّواء لجدَّتي.
لم تعرف المرأة ماذا تفعل، أمُّها ستموت من الوجع، وابنها يترصَّده في الخارج طوقٌ أمنيٌّ يحرِّم على أيٍّ كان الخروج، حاولت الأمُّ الاستعانة بزوجها، فيما كان الصَّغير يتأكَّد من خلوِّ الحارة من الجنود.
حارة ليست طويلة سيعبرها ركضاً باتّجاه اليسار، هناك بيت الصَّيدلانيّ، وسيحضر الدَّواء خلال لحظات.
على يمين الحارة كان عساكر العدوّ يتسلُّون ويدخِّنون ويتوعَّدون الأهالي بمزيد من التَّعذيب في الأيام القادمة، أمَّا الآن فقد ابتعدوا وحلَّ محلَّهم هدوء مؤقَّت.
ركض الصَّبي متزوِّداً بخفَّة الأمل، قلبه يخفق أن تماسكي يا جدَّتي، يده تطرق باب الصَّيدلاني بخفوت، يستقبله الرَّجل متوجِّساً، وخلال لحظات قليلة يناوله الدّواء.
لم تنتهِ الحكاية هنا. فجأة أُحيط الصَّبيُّ بأربعة جنود تعلَّمَ قليلاً من لغتهم العبريَّة، وقفَ ابن الثَّامنة صغيراً ضئيلاً يتلقَّى منهم السُّخرية والصَّفع، قامتهُ لا تصل سوى إلى ربع قاماتهم، والبيوت القريبة المألوفة صارت بعيدة جدَّاً، بعيدة وصامتة.
جسمه يرتجف، لا من البرد فحسب، بل خوفاً على الدَّواء.
أربع بدلات عسكريَّة تحيط به، ثمانية أيدٍ تضربه على رأسه ووجهه وبطنه، ثمانية أحذية ثقيلة تركله، وهو صامت ويشتمهم. الضَّرب يستعر، صمته يستفزُّهم، أربع بنادق تغوص في لحمه، أربع فوّهات مفتوحة عليه!
صرخ: أريد أن أذهب إلى البيت. أطلق أحدهم النّار فانفجر الطّفل بالبكاء، النَّوافذ فُتحت، النَّساء أطلَّت منها وهي تصرخ وترجو، بعض الشبَّان خرجوا من البيوت ليدافعوا عن الصَّبيّ، أمُّه هرعت إليه خائفة وقويَّة، دفعت عنه الجنديّ القصير فأرداها أرضاً، أبوه هوجم بكلِّ عنف وحقد من هؤلاء وظلُّوا يضربونه حتّى كادوا يدفنونه في أرضه، الأرض تحوَّلت إلى أنهار دماء ودموع. الحارة بأكملها استبيحت وأمست كساحة حرب، حاول الصَّغير الهروب إلى البيت لكنَّه قُيِّد تماماً بجيش مستعر، لهاث جدَّته ظلَّ يغزو سمعه، علبةُ الدَّواء سقطت من جيبه وخطفها جنديّ، أمسكَ هذا البغيض الدَّواء حبَّة فحبَّة، فتِّتها أمام مرأى الصَّغير ضاحكاً بأعلى صوته، وأرتال طويلة سلَّطت فوَّهات البنادق على عين الطِّفل، العين كما أيدي النِّساء الخارجة من النَّوافذ تنزف.
لم يعد النَّاس إلى بيوتهم في تلك الليلة، ولم يُسمح لسيَّارات الإسعاف بنقل الجرحى. ربضَ الصَّبيُّ في مكانه كجثَّة هامدة مودِّعاً والده الذي جرُّوه نحو الغياب.
يحدثُ أن يكون الطَّوق أضواء...
حين دخل إلى الفندق استقبله بعض الأصدقاء من منظِّمي الحفل، سيستمرُّ عرض الأفلام المشاركة من عدَّة بلدان ثلاثة أيام، يلتقي خلالها بمخرجين عرفَ منذ أوّل فيلم أخرجَه أنه سيجلس وإيّاهم إلى مائدة واحدة في يوم ما.
تجوَّلَ في جناحه المطلِّ على جنَّة، كاد يضحك بهستيريَّة. بعينٍ واحدة قبضَ على نور، وبالعين ذاتها كان طوال حياته يرى البيوت المترهِّلة والأزقَّة المعتمة في المخيَّم، ويشرد بها مع أطفال بثياب اكتفت من الرَّتق. هل يمكن لعين واحدة أن تقبض على الجمر؟
أربعون دقيقة منذ أن قرَّر الخروج من البيت إلى أن عاد ممزَّق الثِّياب والأعضاء، أربعون دقيقة وعينٌ واحدة باتت تقضم الحياة بكلِّ شراهة، كان دائماً يعلم أنَّه لن يبقَ مهمَّشاً إلى الأبد، لذلك قرأ كثيراً بهذه العين، وبها تمعَّن في الوجوه والحكايات والبلاد المحتلَّة، وكان دائماً يعدُ والده الذي تلقَّى الضَّرب بعنف في ذلك اليوم: سأثأر لك حتماً.
صالةُ السّينما امتلأت بالمخرجين والممثّلين، الجميع يتبادلون التَّحيات ويضحكون أحياناً بلا سبب، جلسَ في الصفِّ الأول يسأل نفسه: هل أرى حقَّاً كلَّ شيء بعين واحدة؟
تصفيق حارٌّ وطويل أعقبَ فيلمه، في تلك اللحظات وحين وقف الجمهور احتراماً له ولفنِّه ولقضيَّته شعرَ بسعادة غامرة ووجع عميق، مرَّ كلُّ شيء في خياله تباعاً: حياته والمخيَّمات والمدن المهدَّمة والأطفال الحفاة والقنابل المتفجِّرة والقلوب المفجوعة والأمَّهات الثَّكالى، والرِّجال الذين يحتاجون إلى البكاء ولكنَّهم لا يبكون.
انتهى التَّصفيق الطَّويل والحارّ، واقترب بعض الزملاء منه مهنِّئين إيَّاه، كلُّ هذا النَّصر شاهده وحفظه بعين واحدة.
وسط الأضواء والاحتفالات الصَّاخبة تخيَّل جدَّته التي شاخت وفقدت معظم حواسّها، لكنّه يعرف أنَّها تشاهد الحفل وتبكي.
من قال إنَّ طفلاً في الثَّامنة ينسى؟