الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم أحمد علي كُرَيِّم

أرض يونس

عادة ما تكون الطفولة مشوشة في الذاكرة، تعلق بالذاكرة منها اللحظات شديدة التطرف سعادةً وشقاءً. فإذا نظرتَ إلى طفولتك تجدها مجموعة من الصور فقدت تتابعها، ولكن كل صورة منها هي صورة مميزة؛ فرحا وحزنا، وفرة وقلة، صحة ومرضا. و لكني إذا ما نظرتُ إلى حياتي أجد كل لحظة محفورة في وجداني، فلا أنسى شيئا مهما صغر، أحفظ تواريخ كل شيء، كل صرخة وضحكة، كل صمت وحديث، كل ليل ونهار. أحفظ كل حجر وضع فوقي، وإن هدم بعدها. أذكر كل لوحة علقت على جدار لي، وإن كسرت بعدها. أحفظ كل مولود رزق به أهلي، أذكر كل حمى أصابته، متى نطق أول كلمة، ومتى خطا أول خطوة.

يونس الذي عشق بحر مدينته غزة، يذهب إليه كل مساء ساعة الغروب، يكررها دائما: "لا غروب أجمل من غروب الشمس على بحر غزة". كان قد ورثني عن أبيه، قطعة أرض على البحر مباشرة بدير البلح، وهي تلك القطعة التي أصر أن يبني عليها بيته رغم ما عاناه من ضيق العيش بعد أن توفي أبوه في طفولته؛ تاركا له بيتا بغزة، وتجارة على وشك الإنهيار، وقطعة أرض على بحر دير البلح، وثلاث أخوات ليعيلهن.

لم يتزوج يونس، ولم يسمح لعينيه ولا لقلبه أن يلاحظا أي فتاة لعشرين عاما، عمل مذ كان في الثانية عشرة من عمره من أجل إخوته، علمهن، وجهزهن، وزوجهن، وأحب فتاة جلست على شاطئ غزة.

عرس صغير رائق، شاركْتُهم إياه، كان أمام البيت الصغير ذي الغرفتين الذي بناه فوقي، بناه وضرب حولي سياجا لينعم بحديقة صغيرة أمام بيته الصغير. على ضيق حاله، رفض أن يبيعني مهما زاد الثمن، ترك بيتا ذا ثلاثة طوابق في مدينة غزة لإخوته؛ ليعمر فضاء أحبه.

إبراهيم، أول من استهل صارخا من أبنائه تحت سقف البيت، تلاه يحيى وعيسى، وكانت مريم فاكهة البيت وفرحته وسعادته، كبر الأبناء لتكبر معهم تجارة أبيهم ويشاركوه فيها، وكبرت مريم لتساعد أمها في البيت، وكبر البيت نفسه ليصبح ذا أربع غرف، وتقلصت الحديقة. تعلموا جميعا -فرغم كل ما يمرون به قلما تجد أميًّا في بلادهم- والتحقوا بالجامعة الإسلامية بغزة.

كبر البيت وارتفع، ثلاثة طوابق وسطح يطل على البحر، فبعدما تولى الأبناء تجارة أبيهم؛ صار يونس لا يجد متعة إلا الجلوس على سطح البيت، يناجي البحر ويهامسه. تزوج إبراهيم، تلاه عيسى، ويحيى لم يرد الزواج، والصغرى مريم رفضت أن تُزَوج إلا تقيًّا. البيت يتسع لهم جميعا، حتى مريم فلها شقتها في البيت لكي لا تبتعد عنهم إن تزوجت.

ظل البيت شامخا وإن توالت عليه الحروب والأزمات والغارات، أبى إلا أن يعلن وفاءه لأهله. ظل وفيا لهم، يحميهم، إلى أن تهدم جداره بصاروخين، ولكنه يأبى الركوع، وسيأبى.

استشهد يحيى، كان ينتظر دوره في طابور المخبز ليحصل على أرغفة تكفيهم نهارهم هذا، أو حتى نصفه، استهدف المخبز، استهدف الطابور، ولم ينج منهم أحد. لا أتذكر يومها إلا صراخا ونحيبا كلما ردَدتُه عني أرجعته جدران البيت إليّ. انتظرت عزاء ومعزين، لكن من يعزي من؟ فالكل مكلوم، وكلهن ثكالى.

كان هذا قرار من يونس، أن يأخذ إبراهيم أهل البيت جميعا وينزح جنوبا؛ إلى رفح. لم يوافق إبراهيم: "لا أغادر بيتا أنت فيه يا أبي"، وحينما اجتاحوا شمال غزة قالها يونس: "بل أنتم البيت والوطن". تركوا البيت وارتحلوا. وودت حجارة البيت أن ترافقهم، ولكن أبت إلا الصمود، وستأبى.

خطوات تطأ ترابي، أرجعوا؟ لا فليست بخطواتهم ولا تلك بأصواتهم، إنما هي عائلة نزحت من الشمال قد احتمت بالبيت. حياة أخرى هاهنا، سعيد وإياد وناصر وفاطمة، إخوة معا. ناموا في غرفة واحدة خشية أن يفارق أحدهم الدنيا دون الآخر، ففارقوها معًا.

أخبارٌ حملتها الرياح إلى الحجارة، فقد صارت غزة حجرا فوق حجر، تعزي الحجارة نفسها وتأبى إلا الصمود، قالت الرياح للحجارة: "ماتوا جميعا"، وقالت الحجارة للحجارة: "قُصفوا برفح"، وقالت لي حجارتي: سيعود منهم صامد، له الحجارة وله الأرض، ولن يدخل أرضا، ولن يحمل حجرا إلا من كان منهم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى