

أكرم.. موتٌ وحياة
عاش حياته كالخائف، لكن المفارقة أن الأماكن والأزمان الخائفة قد ملّت أقدامه من تردده عليها.
ولد مريضا في الجسد وفي النفس، عاش كثيرًا إذا ما اقترن ذلك بحالتيه النفسية والجسدية. لكنّه مات كثيرا إذا ارتبط ذلك بعناوين حياته العريضة، الحياة البائسة؛ التي ترفض أمثاله من التعساء والمهمشين، الذين رأوا كل شيء دون رؤية أي شيء.
يُخيّل إليّ أحيانا أنَّ المصائر الحزينة والمُعدمة بكل الفوضى التي تبدو كنعتٍ لصيق لها، وكواقعٍ لا يُبارحها.. أنها مرتبة ترتيبا لا شك فيه. فأي مُشاهدٍ أو مطلع على حياة هذا الولد المشرد في الشوارع، وطريقتها والأخيلة المصاحبة لها.. فإنه من البديهي أن يتوقع هذه النهاية.
كان أكرم مفتونا بقصص الأساطير الشعبية المرتبطة بالمقاومة والتصدي لقوات الاحتلال. هذه الفتنة غير الخاضعة لمعايير الأسوياء.. المختزلة في الهذيان بهذه القصص، وترديدها على مسمع كل من يصادفه، وكلها دون استثناء مُختلقة كتداعي من تداعيات الألم النفسي الذي يقود إلى انفصامٍ في الشخصية، والتي أهم أعراضها أن يكون سلوك الشخص في اتجاه وتفكيره في آخر.. وتلك علامة بارزة من علامات شلله العقليّ الذي بدأ نفسيا.
كان مرضه الجسدي يمنعه من أكل الخبز، وقد تبدو المشيئة في ذلك النوع الخارق من المنع القسري متواطئةً مع طريقة تخيله للاستثناء. كان منطقه يدعوني وكل من يعرفه للسخرية منه.
كان أكرم أعرجًا، نتيجة تعرضه لطلق ناريٍّ إسرائيلي خلال فترة الانتفاضة الثانية في قدمه اليسرى، فقد كان ضمن مجموعة من "المجانين" الذين تجدهم في كل مخيم من مخيمات قطاع غزة.. تجدهم في تنور الأحداث خلال أي حدث من الأحداث الساخنة في أرض لم تخفّ سخونتها يوما، هذه الأحداث التي تتطلب ترجمة عملية على أرض الواقع وتعكس صورته بإتقانٍ تفاصيليٍّ محكَم، نحو؛ إشعال الإطارات أو رمي الحجارة أو المظاهرات، أو حتى طابور لتوزيع الكابونات.. المهم أنّه كان شبحا من أشباح ميدان النضال الشعبي الملحمي. وبعرجته طاف خانيونس شارعًا شارعًا، وزاوية زاوية.. ولو ذهبت لشاطئ بحر خانيونس ستجده في منطقة "النُّص" وهي أول منفذ للبحر يراه القادم من المخيم للبحر، وإذا ذهبت لمنطقة "الضهرة" ستجده هناك يعرج، إذا وجهت وجهك صوب مستشفى ناصر ستجده متكئا على بابها الشرقي في واجهتها الشمالية، هذا الباب ربما مسجّل ضمنًا باسم مجانين مدينة خانيونس.. فلو ذهبت ظهيرة أي يوم أو في المساء فستجدهم جميعا هناك، بأيدي نصفهم سجائر رديئة، وبأيدي النصف الآخر ساندويشات "المونة" المحشوة بالفلافل والفلفل الأحمر الحار.. إذا قصدت منطقة "دوّار أبو حميد" ستجد أكرم هناك يجلس بجانب بسطة من بسطات القهوة الصغيرة والموجودة على الرصيف بكثرة، بيده سيجارة وكأس من القهوة.. وطبعا بالمونة. هذه الأماكن المذكورة هي أماكن شهيرة ومعروفة ومحفوظة في خانيونس المدينة والمخيم، ولا يوجد أحد من الذين عرفوا خانيونس على الأقل إلا عرفها وفهم جمالية هذه الأماكن، أو مر بتفصيل من تفاصيلها..
تزوج قبل ثمان سنوات، وأنجب أربعةً من الأولاد.. تكنّى بأبي زهير، نسبةً إلى خاله زهير كما أخبرني.. لم يكُن أكرم على علمٍ بأنّه أب أو زوج حسب مقتضيات المعنى الجوهري للحياة.. أهلُ الهامش يعيشون في هامشٍ آخر عنوانه "لا أدري شيئا" وكل شيء يحدث لهم، فهو يحدث فقط، ولأجل الحدوث..
كان من أشهر روّاد حفلات زفاف غزة، وما أدراك ما حفلات غزة.. كانت حفلات بالمعنى الثقيل، ثلاث أيام من الفرح الهستيري المثير للسخرية. طبل وزمر وعادات استثنائية لا تشبه أي عادات أخرى.. جدير بالذكر أنّ حفل الزفاف ثلاثة أيام، المهم هو اليوم الثاني، أو ما يعرف بسهرة الشباب، أحيانا يحيي السهرة مطرب شعبي، وأخرى دون مطرب، بمكبرات الصوت فقط.. وذلك حسب حالة أهل العريس المادية.. ما يعنينا من ذلك أنّ هذا النوع من السهرات تجد فيه كل أنواع وفئات الذكور بمختلف الأعمار والعقول، ومعظمهم من معارف وأقارب وأصدقاء العريس، ولا وجود للنساء فيها.. هناك فئة، تجدها في كل حفلة في خانيونس، وقد أسميتهم "كتيبة الحفلات".. على رأسهم أكرم، كانوا يجلسون جميعا في واحدة من زوايا مُعرّش السهرة، يرقصون ويغنون، يطلبون السجائر من الجميع ويشربون الشاي بالقرفة... الجميع يوزع عليهم السجائر، يمازحهم ويرقص معهم.. كما أن الجميع يمازحهم، يأتوا بأكرم أو واحد من هؤلاء ليداعبوهم ممازحين بطريقة أهل خانيونس العدمية في المزح.. أذكر من مجموعة المجانين هذه: حسن جعفر، رامي الجردلي، الدجاني، مكوك وغيرهم...
كانت تربطني به الشفقة والسخرية في آن، شأنه في ذلك شأن كل مجانين وهوامش خانيونس.. كان يزورني في البيت، ويجلس معي بالساعات، وهو يختلق بالطريقة السالف ذكرها.. حيث كانت تراوده أفكار البطولة المفقودة في واقعه ومن حياته.. بمعنى أنّه كان يحدثني عن قدرته القتالية، وجبروته في التصدي للاحتلال، عن سفرياته التي لا تتوقف، عن قدرته الخارقة في كل شيء.. في بعض المرات، كان هو نفسه يستدرك ويضحك على نفسه، ويرجع ذلك إلى حجم "الكذبة".. حيث كانت قدرته الضمنية على معاينة حجم كذباته قدرة فائقة، وكان يعرف بمعرفتي لكذبه.. كان يتخيل ويسرد، ويعرف بذلك معظم إن لم يكن كل سكان "المعسكر الغربي" أنَّ أكرم "بيعتر في الصدق عترة". ولم يكن يضيره ذلك أو يضير الناس.. لأنّه كان خفيف دم، وطريقته في الكلام لطيفة، تجعل الجميع يبتسم لها، ويحن عليه.. كنت ألتقيه أيضا في شارع من شوارع المخيم فأوقفه أو يوقفني، وتبدأ حفلة "الهشت" المعهودة، وتُختَم بسيجارة رويال أو "سيجارة الضاني" كما كان يسميها.. كان مُلمًّا بقصص المعسكر الغربي بكل أنواعها، حتى الأحاديث التي تدور بين المرأة وزوجها في غرفة نومهم.. لأنّه كان جوّالا في كل شوارع المعسكر، في الليل والنهار..
بدأت حرب السابع من أكتوبر 2023، وبدأت معها شهية الموت لكل شيء.. لم يسلم منها الآمن في سربه والنائم بسريره، فكيف بمن هم أمثال أكرم من أهل الهامش والشارع.. حيث حصدت هذه الحرب ثلاثة أرباعهم.
في مطلع يناير عام 2024 _الشهر الثالث للحرب_ طُلب من سكّان المعسكر الغربي إخلاء بيوتهم من قبل جيش الاحتلال، وبالطبع غادر الجميع بيوتهم.. لم يبق في المعسكر إلّا أكرم وعدد من أمثاله.. عانى خلالها أشد وأقسى أشكال الجوع والخوف، ولم يكن في المستطاع أن يغادر البيت، لأنَّ الاحتلال سد كل منافذ المعسكر. في نهاية يناير، ومع اشتداد وطيس المعركة في خانيونس، أسقطت طائرة استطلاعٍ صاروخا أعمى وحاقدا على بيت عائلته، حيث كان يتواجد فيه وحده بعد إخلاء أهله.. فقتلت الحرب أكرم، ولم يستطع أحد إحضار جثته للدفن إلا بعد أيام، تُرِك في بيته أياما، أكلت قطط الحي وكلابه جزءً من جسده.. الجسد النحيل الذي صلّت عليه التعاسةُ صلاةً أبديةً وخالدة..
كان خبرُ استشهاده أقل من عادي في هكذا ظروف، لأنّه أكرم المنسي على ضفاف الهامش أولا، ولأنّ الحياة ذاتها في غزة أصبحت باردة، وكل المشاعر فيها سواء.. الموت أصبح يشبه الحياة شبها دقيقا، بل إن الحياة تفوق الموت موتا.. ففي زحمة هذا البُهت الذي تعيشه أرواح سكان خانيونس وقطاع غزة عموما.. كانت تقول الأرواح بضمنيةٍ صامتة: لن يُحدِث موتُ أكرم فارقًا كما لو كان في وقت عاديّ، فلقد أخذت هذه الحرب كل شيء، ولن يقف أخذها عند أكرم. لكنّ موته، وفي زحمة الموت الكبيرة هذه أشعرني بالفارق ولو في خيالي، أبكاني، وحملني إلى تخيل هوية خانيونس المخيم والمدينة، الهوية الجديدة وهي خالية من أكرم وغيره من الذين ذهبوا إلى السماء تاركين الأرض فارغة من البركة والنكهة وجماليات الهامش المهمة في سياق أي تجمع بشري على الأرض..
دعاني ذلك لعهدٍ صامتٍ كصمت الجرح الكبير، بيني ونفسي بأن لا أتوقف عن الحديث عن أكرم، وتخليده إن استطعت.
ألا يستحق هذا الولد الصعلوك بعض الذكر، لاسيما أنَّ هناك فرق كبير ولذيذ بين سرد القصة وعيشها..! لقد عشت وعايشت هذه التفاصيل الكثيرة، ضحكت وبكيت وأشفقت... عشت كل المشاعر مع أكرم وأخوته وأخوتي المهمشين والمجانين وصعاليك السوق والأزقة وزوايا الشوارع.. تشاركتُ معهم كل شيء، شربنا السجائر والقهوة سويا وتجولنا في كل الأزقة الضيقة، ضحكتُ معهم بصوتٍ عالٍ دون أبهٍ أو قيود أو اعتبارات تمليها على النفس قوانين الذوق العام البائرة..
لقد قال لي ذات مرّة بطريقته المعهودة في الكلام، تلك التي لم آخذها مرّة على محمل الجد، حيث كنت أنظر لكل شيء يقوله نظرة سخرية: "ياريت أموت شهيد، ويعملولي جنازة ويضلهم يطخوا فيها، بدي أسمع صوت الرصاص من قبري". ضحكتُ كثيرًا وقتها، ولم أكن أدري أنني سأبكي بمقدار ضحكي لاحقا، سأبكي كثيرا وأنا أتذكر هذه الكلمات بلهجته المضحكة، وأسأل من أعماق الذهول: هل مات الولد؟ هل عاد الولد؟
هوامش:
*الانتفاضة الفلسطينية الثانية: بدأت في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 2000. بسبب اقتحام رئيس وزراء إسرائيل الأسبق: أرئيل شارون للمسجد الأقصى، وسميت بانتفاضة الأقصى.
*الضهرة: هي بوابة غرب خانيونس حيث المخيمات، تقع غرب مستشفى ناصر. وهي منطقة مركزية، يقع فيها السوق والعيادات والمحال التجارية.
*سندويشات "المونة": وهو لفظ شعبي يستخدمه أهل خانيونس، ويعني سندويشات مجّانية، تُعطى للمَن على الشخص، وقد ذكرت محتواها في نص القصة.
*عبارة "لم يكُن أكرم على علمٍ بأنّه أب أو زوج". هذه عبارة مجازية، تعكس مستوى براءة أكرم وعدم درايته بحقيقة الحياة.
*الشاي بالقرفة: هي عادة من عادات أهل خانيونس، حيث يقومون بتقديم الشاي بالقرفة للزوار، الذين يأتون للمشاركة في سهرة الشباب.
*المعسكر الغربي: وهو المكان الذي يجمع مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في مدينة خانيونس، يقع في غربها وهذا سبب تسميته بالمعسكر الغربي.
*عبارة "بيعتر في الصدق عترة" تعني يتعثر في الصدق تعثُّرا، يستخدمها أهل خانيونس لوصف شخص كاذب ولكن بطريقة ساخرة.
*كلمة "الهَشِتْ": كلمة غزاوية تعني كثرة الكذب.
*سيجارة رويال: هي سيجارة شعبية شهيرة، تصنع في اليونان، وتُهرّب عبر الأنفاق لغزة. يدخنها جميع المدخنين من أهل غزة.