الخميس ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم هبة محمّد اللتقاني

أنا الموت

موجودٌ حتَّى الأبد، أُتابع كلَّ شيء يحصل عن كثبٍ، وأضحك حتَّى أشبع، ما زلتُ أتذكّر تلك الوليمة التي دُعيت إليها منذ عدّة سنين وقد امتدَّت اثنتا عشرة سنة كُنتُ أحظى فيهنّ بالعديد من الوجبات؛ أنا الموتُ لا أشبع، ولا يُوقِفني حد.

في عام 1933 ميلاديَّة عُيّن هاتر مستشارًا لألمانيا، ومع أول يومٍ له بدأت تلك الوليمة، فقد كان هاتر عنصريًّا؛ يميل إلى عرقه دون آخر، واتّخذ سلطته سبيلًا للقضاء على من دونهم بأريحيَّة، وقد كان له كثيرٌ من المساندين الذين عاونوه على ذلك، فقتلوا وحَرَّقُوا وصلبوا، وفعلوا الكثير من الأفعال الوحشيَّة التي كانت تُهيِّئ لي وجباتٍ عدّة، فقد التهمتُ من البشر الكثير، كان من ضمنهم ياووديّون بلغوا من الموت ما بلغوا في أحشائي، ولم تكُن تلكَ بدايتهم، فقد طردهم الربُّ الأكبر من أرضه منذ آلاف السنين، فضاعوا وشُتّتوا، ومات منهم من مات، ولعلَّ ما حدث على مرِّ تلك السنين جعلهم يخمدون أو يهتدون، فقد نشروا حِبال الغَلِّ ولفوها حول رقاب الكثيرين، وبالطبع لم أغفل عمَّا حصل في عام ألفين فقد اكتسبتُ الكثير من الغذاء حينها أيضًا، عندما تمكّن الياووديُّون من أرضٍ عزيزة، استولوا عليها، وقتلوا ساكنيها، وهجَّروا من بقيَ منهم.

  تخبّأ هُنا يا بُنيّ، لا تبتعد عنّي.

اغرورقت عينا الطفل بالدموع، وهو يرتجف، تتجلّى أصوات الانفجاراتِ من كلِّ مكانٍ حوله، فضغط أذنيه بكفيه الصغيرين مُحاولًا كتم الصوت عنهما، فلم يستطع، كنتُ أشمُّ رائحة الخوف الصادرة من جوفه إلى جوفي، رُبَّما لو لم يصبه الياووديُّون برصاصهم لخُلِع من شدة الخوف، ذُهِل الأب عندما رأى ولده مرميًّا على رجله بلا حراك، لم يعد يسمع له تنهيدةً ولا يتحسس له حركةً، أمّا عني فقد تحسستُ كلَّ شيء؛ خوفه، رجفته، وجسده، فقد بات محمّد برمته فيّ.

غطّى هذه الأحداث شاب صحفيّ يُسمّى وائل الدحدوح، كان الحنق ظاهرًا على ملامحه يكلِّله الأسى، لا شيء يدعوه للفرح سوى ضحكة صغيره حمزة كلّ مساءٍ يعود إليه فيه سالمًا، أؤمن أنّ السلام بأسره يكمن في ضمّةِ طفل صغير، حتّى أنّني حينما أحمل طفلًا بداخلي، أشعر كأنَّني أقتنص كنزًا من هذا العالم، بالضبط كان هذا ما شعرتُ به عندما ضممتُ محمدًا اللذيذ الطعم إليَّ.

عاد وائل إلى خيمته، استلقى، وأغمض عينيه بعدما نظر إلى ولده النائم في حضن أمه آمنة بابتسامة باهتة متذكًّرا أيام شبابه التي قضى سبع سنواتٍ منها خلف أسوارِ الياووديين، ذاق تعذيبهم وآمن أنَّ الموت أهون منه، شعر بشيء ما يلعب في جسده ويقترب عليه فاندمجت الأفكار مع الواقع مُخيّلة له أنَّ أحد الجنود يعبث به، ففاق مفزوعًا، ثم هدأ روعه عندما لقي نفسه حول أولاده، ووجد حمزة يحبو عليه، فابتسم ولعب في خدي الطفل قائلًا: "آهٍ منك يا حمزة الصغير"، ثم دعا في سريرته سائلًا المولى ألَّا يريه في أبنائه أيَّ مكروه.

مضت الأيَّام بثقلٍ على كلِّ القلوب، فالجميع ينتظر حتفه مُعتقدًا ألّا مفرَّ من ذلك، يُغمضون أعينهم فلا يرون إلَّايَ، وعندما يفيقون يبكون، لأنّهم لم يموتوا، فيعودون إلى نفس دائرة الانتظار، وأنا بينهم أخطفُ منهم الكثير، واحدٌ آتاني إثر طلقةٍ طائشة، والآخر توقَّف قلبه من الخوف، والثالثة كانت طفلةً لم تتحمَّل شدَّة الجوع، فرحلت عن أرضهم إلى جوفي، وبين كلِّ هذا أرى أبًا _برغم كلِّ الظروف_ ما زال مخلصًا لأرضه وعائلته، وأرى حمزة يلعب ببندقيته البلاستيكيّة ممثلًا قدرته على سحقِ العدوّ تارةً، وأخرى يُمسك قطعةً بلاستيكيّة أو خشبيّة _حسب ما تيسّر أمامه من أدواتٍ_ ليلعب دور الصحفي الذي أعلن انتهاء قبيلة الياووديين إلى الأبد، وعلى ذلك كبُر جميع أطفال غزة، على أمل الهروب منّي، لكنّي حولهم، حاشاي أن أتركهم!

زغاريد.. زغاريد! أسمعها بصوتٍ عالٍ، بعد خمسِ سنواتٍ من الأسى ارتفعت زغاريد آمنة وهي تضمُّ أبناءها وزوجها "وائل" والدموع تغطِّي وجهها، فقد وُقِّعت اتفاقيَّةٌ تنصُّ على وقفِ العدوان، بعد خمس سنوات! بعدما قُتِل أكثرُ من أربعة آلاف شخصٍ، أصبح الثامن من فبراير بالنسبة للجميع _إلَّاي_ يومًا يستحقُّ الاحتفال بحقّ!

مرَّت الأيّام على أرواح من ماتوا خفيفًا، وعلى قلوب من فقدوا أحبتهم كأنَّه عربة ثقيلة تُهِشِّمهم بلا هوادة، وبقيتُ أنا أترنَّح بين الحانات مُنتشيًا، أخطف من بين البين جزءًا، وهكذا. كان حمزة حينها طالبًا في الصفِّ الرابع، يحبُّ المذاكرة، ويهوى المشاركة في الإذاعات المدرسيَّة، مجتهدًا، لم تُفقده الحرب الحاصلة مرحه، أو حبه للحياة، فرغم صغره آمن بأنَّ لكلِّ شخصٍ رسالةً يؤديها ثُمَّ يرحل، وكان دومًا يتمنَّى أن تكون رسالته تحرير الأرض، ثم لا يهمُّ شيء بعد ذلك.

عاد حمزة من مدرسته سعيدًا يضمُّ والده، ثمَّ دخل إلى غرفة والدته وطبع قبلتين، الأُولى على جبين آمنة، والثانية على جبين أخيه الصغير "محمود"، وتبعه وائل متسائلًا عن سبب سعادته تلك، فأجاب الولد بفرح: "كان في معهدنا اليوم زائرون، وأجزم أنَّ فقرتي الإذاعيَّة أعجبتهم جميعًا، الكلُّ أشاد بها، ولهذا أنا سعيد". أخذ يتبختر في الغرفة بقفزٍ في خطواته ثم نظر إلى والده وقال: "تُرى هل سأصبح مثلك يومًا؟". ابتسمت آمنة وبدّلت نظرها بين وائل وحمزة، ثمّ تابعت وائلًا عندما تحرّك من مكانه ضامًّا ابنه وهو يقول: "رُبَّما ستكون أفضل منّي حينها"، تنحنحت آمنة وقالت: "أدعو الله أن يُتِمَّ علينا نعمته، فنعيش حتى ذلك الحين يا حمزة، لنراكَ وأنتَ تحقِّق حلمك يا صغيري".

آمّن الجميع على الدعاء في نَفَسٍ واحدٍ، وشاركهم محمود ذلك بضحكةِ طفلٍ عالية، فضحكوا جميعًا، ومرَّ يومهم هادئًا.

 هيَّا يا محمود، هيَّا.

كان حمزة يقف أمام أخيه بفرحٍ وهو يمدُّ إليه يديه، ليُشاركه أول خطوة يخطوها على قدميه الصغيرتين، وتحفظ هذه اللحظات آمنة في هاتفها الصغير، وفي قلبها أيضًا، تترقرق الدموع في عينيها بغتةً متسللة بين ضحكاتها، ثُم تمسحها موقنةً أنَّ اللّه لن يخذلهم، وأنا أرمقهم بنظرةِ جائعٍ مالٍّ ينتظر طعامه بفارغ الصبر، وبقيت على ذلك الجزع، أتغذّى قليلًا وأتتبّع رائحة غدرٍ يقترب، حتى جاء السابع من أكتوبر عام ألفين وثلاثة وعشرين، فقد قرّر أصحاب الأرض طيشًا أن يأخذوا جزءًا من ثأرهم، وكان هذا بداية وليمة جديدة لي، فبعد ما عملوا انقلب عليهم الياووديين شر انقلابٍ، وعادوا عليهم أبشع عودة، وأنا أشاهد ما يحصل بحفاوة.

عاش وائل مرّةً أخرى أحداث حرب ألفين، يجيء ويذهب بين الخيام لكن هذه المرّة عجوزٌ في الرابعة والخمسين، أمَّا حمزة فقد تقمَّص شخصية والده قديمًا، يخرج للعمل، يعود إلى الخيمةِ، يُتابع ولدَه بعينيه، والخوف يملؤهما، ينام، يصحو، يجري وراء الأحداث وينشرها، والهمّ يتفاقم بداخلهما، وبالأخصِّ وائل، فبعدما كان يخاف على نفسه وولده وآمنة فقط، أصبح ينعي هم أسرة كبيرة؛ بنات، أولاد، وأحفاد، غير زوجته التي لم تكن عيناها تجفَّان.

عاد حمزة برفقة والده إلى مأوى العائلة، ينظر كلٌّ منهما إلى الآخر بصمتٍ، كأنَّهما يعزيَّان بعضهما فيما رأيا خلال اليوم، والأيَّام السابقة والآتية؛ فلا أنباء تُوحي لهم بحَسنٍ آتٍ، كلُّ ما يجري ينبِّئ أنَّ لا مفرَّ من الموت، لكنِّي كُنتُ أسمع دعاء آمنة الصادح بداخلها "ربِّ نجِّنا منها، كما نجيتنا ممّا سبقها".

كانت الأيَّام تمشي متردِّدة، عمل، إحصاء لأعداد الموتى، عمل، نزوح وهرب، ثم إنّ المآل لي وحدي، وهذا كان أجمل شيء يقدِّمه لي أصحابي الياووديُّون.

ظهر وائل على الشاشة كالعادة، يُمسِك بمايكروفونه ويحكي عن أُناسٍ رحلوا من الدنيا إليَّ، حيث الهدوء التام إلى الأبد، انقطع الاتصال.. وائلٌ لا يظهر على الشاشة! تشوّشٌ في الرؤية، أرى روحًا تتمنّى لو تنفر من جسد صاحبها واختناق، عاد الاتصال.. وائل بخير، يرتجف صوته أكثر من العادة، كاد المايكروفون يسقط من يده، تمتم باختناقٍ من بين عبراته: "اليوم.. في الخامسِ.. بعد العشرين.. من أكتوبر.. مات... ماتت آمنة، وماتت ابنتي، و... لا عائلة لي اليوم، فقدَت عائلة الدحدوح.. ثلاثة عشر شخصًا، ارتدُّوا قتلى".

كتم في نفسه: "يا ليتني مِتُّ قبل هذا.. يا ليتني!".

فقد وائل سبيله للحياة، بعدما حللتُ مكان أبنائه، يدور في المكان، يتذكّر محمود، ضحكته التي صدحت في صغره عندما دعت لهم آمنة.

"تُرى أكان يشعر؟ هراء، فلا أحد يعلم شيئًا، فمثلًا لو كان عندي ذرّة شكٍّ باتجاه الفقد لكنتُ قد بالغتُ في الوداع، أو اتفقت معهم على طريقةِ عيشي بعدهم! أرى ملامح آمنة في ابنتها الباقية، ومحمود في عينيْ حمزة، ومع كلِّ دمعة تسقط منهما، وأرى حفيدي في مخيَّلتي يلهو ويلعب، لا مجال لشيءٍ سوى القهر والدموع في هذه الأحيان، الخامس والعشرون من أكتوبر.. يوم فقداني لنفسي".

سمعتُ هذا في نَفسِ وائل الذي شدَّ حمزةُ على يديه مواسيًا إيّاه رغم انكساره، ودعمته في ذلك زوجته التي _وبكلّ أسفٍ_ قُدِّر لها أن تبعد عن مكان القصف في ذاك الوقت لتفرَّ منّي، لكنّ نظراتهم المُتبادلة لا تفي بالتهوين، فجميعهم ذوي نظراتٍ منكسرة، لا تُخفّف ولا تُغني من حزن.

انطفأت الأضواء، واضطجع كلُّ منهم على جانبه، وفي كلِّ عينٍ قصةٌ انغلقت عليها، وكنتُ أنا نهاية جميعهم.

مرّ أكتوبر، وتبعه نوفمبر، والحربُ لا تزال تفتك بالأرض، وساكنيها، وأنا أتتبَّع رائحة موتاي لأقتنص منهم، أقرُبُ بيت الدحدوح فأحسُّ أنَّ لا حياة لحمزة وأبيه بعد ذلك اليوم، دُفن قلباهما، وسارا مؤديين الرسالة بألبابٍ حائرة، وكلّ دقيقة تمر تحمل في طيَّاتها آلاف الانفجارات، وهما يسجلان وينقلان، يكسبون الكثير من التعاطف حول العالم، لكن بلا فائدة، فمن أين المعونة والجميع تحت الاحتلال، وأنا فوقهم جميعًا؟!

في أواخر ديسمبر، بردٌ قارص والجميع في خيامهم نيام، يدور بألباب البعض أنَّه ما دام الشتاء قد حلَّ، سيكون صعبًا على الياووديين أن يُشعلوا النيران، ولكن بعُد ذلك، فهم لا يستطيعون النوم إلّا على دمار، أصوات انفجارات، ودُخَانٌ يكتم الأنفاس.
الباقون من عائلة وائل يركضون فرارًا؛ بحثًا عن أمان سُلِب عنوة، يجرّون ورائهم الأمتعة الباقية، وخيبتهم اللامفارقة لقلوبهم. هدأ الصوت، وجلس ابن حمزة في حضن أمِّه يبكي، يسألها عن ابن عمته المفقود، لكنها تصمت كالعادة وتكتفي بضمِّه بشدَّة، والبكاء، النظرات بين وائل وحمزة مُتبادلة؛ يواسيان بعضهما بغير اقتناعٍ، صوت النواح يملأ الحانات المجاورة، والرمادي خلفيّة الموقف، دُخانٌ نابعٌ من حرائق البشر يجذبني إلى لمكان!

انتهى العام، وما زال النزوح مستمرًّا، الانفجارات لا تخمد لحظة، ولا مُستشفيات تُسعفُ أحدًا فقد دمر الياوود كلَّ شيء، ومع هذا ما زال أهل الأرض راسخين فيها، لا ينتحون عنها.

مع أول دقيقة في العام الجديد، انقسم العالم: نصفٌ تتزين سماؤه بالمفرقعات الملوّنة، والطعام ممتدّ على موائده، والنصف الآخر سماؤه مُعبّأة بألوان الفراق، كل قلبٍ منغلق على ما فيه، تجمعهم أمنية واحدة ورغبة في الأمان، ولا أحد يحظى بالطعام هنا غيري.

 أظنُّ أنَّ الحرب آن انتهاؤها يا أبي، يُقال إنّه سيُعقد اجتماع لمناقشة الأوضاع في أرضنا، أرجو أن يكون مآله الفرج.

نظر وائل حوله، ليرى أسقف المنازل المسوَّاة بالأرض وقال بحسرةٍ: أتمنّى.. ثُمّ أسرَّ في نفسه: ولكن بعد ماذا؟

ربت حمزة على كتف والده وقال له بصوتٍ مرتعش: لا شيء يستدعي المواساة، فما خسرنا يفوق هذا بكثير، لكن عسانا نرسوا على برِّ أمانٍ، فنُحقّق مرادنا في تحرير الأرض، ويكون هذا السبيل الذي راحت فيه دماؤنا.

مسح دموعه، وقبّل رأس أبيه، ثُمَّ سار مردِّدًا: "أرجو ألّا تكون مصيبتنا هباءً!".

ومرَّ الحال على ما هو عليه، كلّ يومٍ يجلسون، يتبادلون الأحاديث والنظرات؛ كأنّ بعضهم يودّع بعضًا، يسيرون واضعين أيديهم على قلوبهم خشية الفقدان، بئسوا جميعًا فهم لا يحبونني، وكلٌّ منهم يخاف الحياة دون الآخر!

مساء السادس من يناير، كان حمزة متكئًا على فرشته يُفكّر في ما هو آتٍ وما سيحدث بعدما رفض الياووديون وقف المجازر الحاصلة، تتسلل الدموع بغتةً إلى عينيه إذا لمعت فيهما صورة محمود وهو يُشاكسه، ويتردد في أذنه صوت آمنة تُهدئ النزاع الناشب بينهما، وهكذا حتّى ينتهي الحال بعناقٍ يجمع الثلاثة. "والآن يا أمي، ضمّتك الأرضُ، وأخي، وأنا هنا لا أراكم إلَّا خيالات، أضمُّ ملابسكم، لا أجسادكم، ليتني كنتُ مكانكم حينما حصل ما حصل، أو يا ليتني أحقّق أمانيكم". قطع أفكاره صوت ابنه: "بابا، هل سنموت اليوم؟".

اقشعرَّ جسد حمزة إثر ما سمع، واعتدل قائلًا: "قُل ربِّ نجنا، ولا تنتظر الموت، بل انتظر النصر، وإنّا بإذن الله منتصرون".

ضحكتُ! فأنا أضحك دومًا حين يظنون أن البكاء يؤخِّرني، أو أن الدعاء يغفلني، فالطريقُ دومًا ممهَّدٌ إليّ.

ضمّ الصغير والده بقوة، وبكى في حضنه حتّى نام.

في طليعة اليوم الثاني، ارتدى حمزة بذلته وسار إلى عمله، ولكنّه لم يعُد مرَّةً أخرى، فقد سنحت لي الفرصة أن أضمَّه إلى الأبد، لم أعد شبحًا يطارده، بل صار جزءًا منّي!

السابع من يناير، في العام الرابع والعشرين بعد الألفين، فقدت الأسرة فردًا آخر، دُفِن معه تحت الثرى قلب وائل، أحلام زوجة، ودموع الآلاف من أصحاب الأرض المخذولين، دُفن حمزة في أرضه التي لم يتخلَّ عنها، بعدما قُتل هو وصديقه "مصطفى"، وضُمُّوا إليّ؛ أنا الموتُ، لا يمكنني أن أقول إلّا أنني أحتوي الكثير ممن تحبُّون، وأنا لا يحبني أحد.. سوى ساكني هذه الأرض، إنَّهم يحبونني بقدر حبهم لتلك الأرض التي نشؤوا عليها، فهم يضعونني في كفَّة، وفي الأخرى يضعون أرضهم، لا خيار ثالث عندهم!

إني أرى الآن وائلًا مُقدمًا على عمله؛ رُغم انكسارات قلبه، لم ينثنِ عن دوره! كان الخامس والعشرون من أكتوبر يوم انقلاب حياته كلّها، وبرغم ذلك ما زال يهرب منّي في كلِّ مرةٍ أقرب جواره، رُسِّخ في عقله أنّه إذا جنى الهدف من عمله، فقد أخذ بثأر عائلته، والآن بعدما دُفن سائر قلبه مع حمزة، اشتدّ سعيه، حتى إذا توفّي واكتمل اللقاء طمأنه قائلًا: "يا بُنيّ، قد أديتُ الرسالة"، فاقترب منه ضامًّا إليه جسده، ومن حولهم آمنة وابنتها، وشهداء العائلة كافة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى