الثلاثاء ٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٠
في تأمّل تجربة الكتابة
بقلم فراس حج محمد

أنا وحفلات إطلاق كتبي الفاشلة جداً

لم تكن حفلات إطلاق كتبي ناجحة، ولا بأي مستوى من المستويات، مع أن بعضها شهد حضورا نوعيا (غير كبير بطبيعة الحال).

كان أول حفل إطلاق في مدينة نابلس لكتابي "ديوان أميرة الوجد"، لم يقدمني فيه أحد. قدمت نفسي متحدثا عن الديوان وألقيت قصيدة، وكان حفلا مشتركا لعدة إصدارات. وتم توزيع الديوان مجّانا على الحضور، ولولا ذلك ما فكر باقتنائه أحد حتى الأصدقاء المقربون.

ثم تمّ حفل توقيع آخر على هامش أمسية شعرية ذات تموز حار جدا حضرها ثمانية أشخاص وأربعة شعراء ومديرة مركز حواء في نابلس حيث كانت الأمسية، وأيضاً قدمت نفسي بنفسي لديوان "مزاج غزة العاصف"، وألقيت قصيدة طويلة مملة، وكذلك تم توزيع الديوان على الحضور مجانا وكنت سخيا بالنسخ الزائدة الكثيرة؛ فأودعت المركز العديد منها، ولم أدر ما فعلت بها مديرة المركز. كل همّي ألا أعود إلى البيت محملا بالنسخ مغمّسة بأعباء الفشل النفسيّة.

ومرة أخرى وللديوان ذاته تم حفل توقيع فاشل جدا على هامش مهرجان المنارة الأول للشعر الذي أقيم في مدينة نابلس، وعلى الرغم من الجمهور الكبير الذي حضر المهرجان إلا أن فقرة توقيع الديوان كانت باهتة في ذيل المهرجان، على الرغم من أن هذه المرة وجدت من يقدمني بمقدمة قصيرة، أذكر هنا أنني بعت ثمانية نسخ فقط، وحمّلت أصدقائي الذين حضروا من الخليل أربعين أو ثمانين نسخة ولا أدري إلى الآن ما مصيرها، مكتفيا بنشوة وصول الديوان إلى صديق من غزة عن طريق أصدقائي في الخليل.

ومن أسوأ حفلات التوقيع التي تمت لكتبي ما كان يوم 31-3-2016 عندما احتفلنا بمرور عام على تأسيس منتدى المنارة للثقافة والإبداع، وقد احتضن مركز حمدي مانكو هذه الاحتفالية، وعلى الرغم من أنني وجدت من يقدمني بشكل جيد يومئذ وتحدثت كذلك عن الكتب إلا أنه لم يلتفت إلى تلك الكتب التسعة المركونة على طاولة بمحاذاة الباب أي من الحضور حتى الأصدقاء، وكنت قد أحضرت ما يقارب من مئة نسخة متعددة من تلك الكتب، وحتى لا أضطر لإرجاعها معي ودفع تكلفة إضافية باستئجار سيارة خاصة من أجل القفول بها خائبا فقد قمت بتوزيعها كلها على من تبقى من الحضور، راجيا منهم أن يأخذوها، فقد كنت خائفا أن يرفضوها حتى مجانا فأضطر إما إلى تركها في المركز ليكون مصيرها حاوية النفايات والحرق وإما أن أجرجرها، أو تضطر لحملها ابنتي وابني اللذان صاحباني يومذاك إلى حفلة الفشل تلك، فأزيدهم إرهاقًا وتعبا زيادة على ما كنت واقعا تحته من حالة نفسية سيئة نتيجة ظروف في العمل وظروف خاصة أخرى، شعرت يومئذ أن وجودي ككاتب قد انتهى فعلا، وكرهت الكتب والتأليف ولعنت الكتابة، وحزنت على تلك المبالغ التي دفعتها في سبيل كتب كاسدة لا تجد قارئاً ولو حتى بالمجان. ولم يربح أحد سوى سائق السيارة التي استأجرته "بطلب خاص" ليحملني ويقلّ معي الكتب لموقع الاحتفال.

أمّا أفشلُ حفلة توقيع وإطلاق كتاب على الإطلاق في التاريخ العامّ للكتّاب جميعا، وتاريخي الشخصي غير اللائق بالمعرفة والعلم، فقد كانت تلك المخصصة لديوان "ما يشبه الرثاء"، وقد رعته بخجل شديد ودون ترتيبات دار النشر. لم يكن حفل إطلاق لا في الحقيقة ولا في المجاز، كان "شيئا" أقرب إلى "الهبل" واللعب على الذقون. لم تقدم لي فيه دار النشر حتى طاولة لأضع عليها الكتاب لأوقع عليه لمن أراد نسخة. كما أن دار النشر لم تتعامل معي بالكيفية التي تعاملت بها مع كتاب آخرين من حيث التجهيزات الأخرى. لم يحصل يومئذ أحد على الكتاب إلا مجانا، وهي كما قال الناشر، من أجل إنقاذ ماء وجهي، فكيف يمرّ حفل توقيع ولا يشتري أي شخص نسخة. إنها كارثة. فتم توزيع أربع نسخ مجاناً على الحضور لأمثل أنني أوقع على الديوان، مراعاة لأصول ما سينشر على الموقع الخاص بالدار من صور، مع أن الشخص الرابع كان يمتلك نسخة، ولكنه أحب أن يشارك في صناعة تلك المسرحيّة العبثية، وقد أبديت له استغرابي لما فعل، ولكنه اكتفى بابتسامة صفراء غير ظريفة. ربما كان أولى لدار النشر ألا تقوم بعمل حفل توقيع بهذا المستوى التافه، إذ كانت على علم أنه لن يكون هناك حضور.

هذه كانت حفلات هامشية لإطلاق كتب لكاتب ما زلت مقتنعا أنه فاشل وفاشل جدا، ولكنني تراجعت عن حزني البئيس هذا وقبلت حفلة إطلاق لكتابي "كأنها نصف الحقيقة" الذي رعته مكتبة بلدية نابلس وقدمني فيه اثنان من الكتاب وحضره مجموعة من الأصدقاء. أعترف أنه كان ناجحا قليلا بالقياس إلى ذلك الفشل الذريع في الحفلات السابقة، وتمكنت من تسويق عشر من النسخ!

وأما حفلات الإطلاق في متحف محمود درويش فاعتراها ما اعتراها من سوء وفشل، وإن تخللها شيء من نجاح أوهم نفسي به؛ كتاب "وأنت وحدك أغنية" وكتاب "في ذكرى محمود درويش" قدمني فيهما كاتبان، كانا حفلين ناجحين قليلاً، فقد حضر الأول مجموعة من مثقفي رام الله وصاحبته هالة إعلامية لم أكن أتوقعها، على الرغم من أن توقيع الكتاب الثاني في "ذكرى محمود درويش" كان في أجواء عاصفة وممطرة فكان الحضور قليلا، وغاب عنه الكثير من الأصدقاء الكتاب إلا أنه كان جيدا وربما كان سبب نجاحه ارتباطه بمناسبة اليوم الوطني للثقافة الفلسطينية أكثر من كونه مرتبطاً بمؤلفه. وأما حفل كتاب "شهرزاد ما زالت تروي" فاختلط فيه الفشل بالانكسار، وابتعدت المقدمة عن فلسفة الكتاب لمناقشة فرعيات وشكليّات، ودخلتُ في هوّة من عدم الجدوى.

أما أسوأ حفل توقيع في المتحف فكان عندما قدمني أحد الأكاديميين النّقاد لإطلاق كتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية". بادر الجمهور أول حديثه أنه لم يقرأ الكتاب كله، وإنما الفصل الأول منه، أو ربما فقط موضوع "اللغة في الرواية"، هذا الموضوع الذي أخذنا نحرث ماءه مدة ساعة دون أن يكون الكلام له أدنى فائدة نقدية أو فكرية. ولم أذكر أننا تحدثنا عن موضوع آخر.

وبالمجمل لم تكن تلك الحفلات ناجحة من جهة أخرى؛ على مستوى التسويق، فقد كان حظ النسخ المبيعة قليلاً، ولماذا ترونني أذكر كل مرة النسخ المبيعة؟ فهل كنت أؤلف من أجل التجارة؟ بالقطع لا، ولكن الإقبال على الكتاب دليل اهتمام بموضوعه ومؤشر على الحرص على قراءته، وإذا لم يحصل ذلك فمعنى هذا أن الكاتب ومؤلفه لم يكونا مقنعين وناجحين. أقارن على سبيل التندر مثلا حفلات توقيع كتبي البائسة بحفلة توقيع كتاب "شهيا كفراق" للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي الذي استمر لسبع ساعات متواصلة ضمن فعاليات الدورة السابعة والثلاثين من معرض الشارقة الدولي للكتاب عام 2018. لكم أن تتخيلوا الازدحام والبهجة والانتعاش الثقافي والاقتصادي لمثل هذه الاحتفالية النادرة، ولو وضعت تجربتي بالمقابل كم سيكون الوضع محزنا ومخزيا وسيئا وبلا فائدة.

بعد كتاب "ما يشبه الرثاء" أصدرت كتابين "بلاغة الصنعة الشعرية" و"نسوة في المدينة"، فهل يا ترى لو قمت بحفل إطلاق لهما سيكون الوضع أفضل؟ أظن أن فكرة الاهتمام بإقامة مثل هذا النشاط في ظل الأوضاع الجديدة سيمنحني الفشلُ مزيدا من عطاياه. ولكن لا يهم ما دمت ألبس جلد تمساح، وأدفن رأسي العفن في الرمل، وأغرق في الوهم حتى لا أستطيع التفكير جيداً. ولكن من سيقرأ كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية" الذي يقارب الـ (600) ليقدمه، أو يتجرأ ويقرأ كتاب "نسوة في المدينة" المفخخ بالجنس والكلمات "الخادشة" للحياء ليقف على المنصة ليمدح الكتاب وليسوّقه، ويزفّه إلى مجموعة من الحضور، ربما جاءوا على استحياء.

هذا الوضع المقيت جعلني أفكّر كثيرا بحرق كتبي، وحذفها من أجهزة الحاسوب الشخصية، والتخلص منها نهائيّاً، وأترك تماماً الكتابة، كما كتبتُ ذلك في كتاب "نسوة في المدينة"، إذ لم تحقق هذه الكتب أي هدف من أهدافها حتى تلك الأهداف الخاصة البسيطة التي يرجوها أيّ كاتب ولو كانت محصورة في حفلة توقيع تُرضي شيئا من غروره بوصفه كاتباً. كل شيء بقدرٍ. صحيح، ولكن ليس هناك ما هو أقسى من قدرٍ، تكتبُ فيه يداه فشلا مركبّاً.

كم من حفلات إطلاق كتب فاشلة ككتبي ولم يعترف أصحابها بذلك الفشل؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى