أهلاً وسهلاً بك سيّد يوسا في بيروت.
كثرٌ هنا يتابعونك ويطالعون أدبك ويحبّون أعمالك التي قرأوا قسماً منها بالفرنسية وقسماً آخر بالانكليزية، والتي تُرجم بعضها الى العربية. صحيحٌ ان معظم ما تُرجم منها تُرجم بدون علمكَ، لكنها اللهفة الصادقة الى قراءتك، كانت (وستظل) اقوى من موجبات الحقوق الفكرية والعقود والبنود. أعلم انك تصل الى عاصمتنا مع عائلتك بعد غد، لذلك دعني أخبرك قليلا عن مدينتي، قبل ان تزورها ويخطفك خدرها على حين غرّة. إسمح لي أن اكون مرشدتك التمهيدية الى بعض خباياها وأسرارها، والى ما يوصف، بالمتاح من الكلام، من أحلامها وفضائها وأفقها وهويّاتها وجنونها. أعدك أني سأحاول ان أريك النصف المملوء من الكأس، لا نصفها الفارغ.
هذه مدينة لها تاريخ ثقافي عريق، لا بل إنها تمثل استثناء ثقافيا في المنطقة العربية، وربما في العالم اجمع؛ مدينة لم تنفك تجدّد نفسها بشجاعة ونبل، وتخلع عنها جلدها القديم حتى قبل أن يصير قديما، ولم تنفك تثور على الانغلاق والقوقعة والظلامية والتعصّب والاحادية؛ مدينة ذات رحابة انسانية خلاّقة، ومكوّنات فكرية وحضارية وثقافية ولغوية فريدة من نوعها؛ مدينة تؤمن بالحرية والتنوع والحداثة والاختلاف، حد انها دفعت، ولم تزل تدفع، أثمانا باهظة إكراماً لكينونتها وخصوصيتها المشتهاة هذه؛ مدينة متمسكّة بماضيها الأبيّ بقدر ما تتطلع الى مستقبلها الذي ستصنعه مشرقاً، من أجل جميع الذين بذلوا أنفسهم في سبيل أن يكون مشرقاً؛ مدينة لا تفتأ تزداد وتتوهّج، رغم أمسها المنهك وحاضرها المهدَّد...
وتسألني عن النصف الفارغ؟
في بيروت يبحث الأخوة عن حجّة واهية ليتخاصموا، والأعداء عن حجّة واهية ليتحالفوا، ومَن يزعم أنه يملك حلاً للمشكلة هو مشكلة في ذاته. لن يدهشك ان تعرف ان الطباع في هذا البلد نارية والهِمم جليدية: إنه "الشغف" في الدماء رغم تبالد الروح. "الشغف" فحسب.
في بيروت تحبّ الناس الألوان وتقدّر الرايات، حتى صارت المدينة مشهداً قوس قزحياً مفرفشاً، فما أسعدنا وما أهنأ انظارنا. في بيروت، التلفزيون ملك والفوتبول ملك والفيديو كليب ملك والـ"دي جاي" ملك والكتاب شحّاذ. في بيروت دور نشر بالعشرات وحفنة من الكتّاب الجيّدين، إصدارات بالمئات وحفنة من القرّاء الجديين، حكّام اكثر من الهمّ على القلب وحفنة من "المسؤولين" المهتمين. في بيروت ولاءات ولاءات ولاءات: اميركا، سوريا، ايران، فرنسا، فلسطين، وقريبا ربما الصين. لم لا؟ لن يدهشك، أعتقد، ان تعرف أن في بيروت سبع بيروتات على الأقل، و"الخير لَـ قدّام": انه رهاب التجانس وهاجس التعددية والانفتاح. حقاً، ليس انقساماً ولا تبدداً. هو هاجس "الانفتاح" فحسب.
في بيروت الهواء ملوّث ومغذّ، والسياسة عفنة ومثيرة، والاقتصاد فاسد ومزدهر، والصحافة مسمومة ونشيطة، والسيارات مفخخة وفاخرة، والثقافة منخورة وخصبة، والأخلاق منحطة وحقيقية، والطب نصّاب ومتطوّر، والعمارة عمائية ومتقدّمة، والفن داعر وبوست مودرن، والانسان نجس ومهضوم، والتقاليد بالية وصامدة، والمجتمع منحلّ ومتبدّل. لن يدهشك أن تعرف أن كل شيء في بيروت مضمّخ بنقيضه، وأن لكل أسود ملمحاً باسماً: إنه جبروت الازدواجية وغناها الرائع. إنه "غنانا" نحن فحسب.
بيروت اليوم فاتنة كبيروت الأمس، وربما اكثر، لكنها ضائعة الهوية، مسجونة في دوامة من عمليات التجميل، تبالغ في النظر الى المرآة بدلا من ان تنظر في روحها. أين ينبض قلبها، تسألني؟ لست أدري. على الأرجح في انتمائها للأمل. في ايمانها بالمستقبل. في ليلها اللامتناهي الأطراف. سيعجبك عريها الغريزي في العتمة، وصخبها المناوِر، واستسلامها المجنّح لشهواتها ونزواتها. بيروت في النهار مفرطة التزيين، أما ليلاً فلا ترتدي المساحيق ولا تضع شعرا مستعارا. بيروت في النهار تاجرة في الدرجة الأولى، اما ليلا فتصبح امرأة، وتصير اكثر صدقا وشفافية واقترابا من جوهرها ومعناها.
سيّد يوسا، أذكر انّك قلت لي، عندما قابلتك في لندن صيف العام الماضي، إن السحر يخفت مع المعرفة، وإن الإمعان في التفتيش والاكتشاف يفقدنا الوهم الذي "تبيعنا" اياه الأمور الجميلة المرغوبة، أكانت نصاً ام عملاً فنياً ام إنساناً ام بلداً نحلم بزيارته.
نصيحة متواضعة لكَ إذاً: لا تمعن في اكتشاف بيروت. اتركها في عينيك خطيرة وغامضة و"موهومة". دعها مغوية وضبابية، نرجسية وملعونة، كافرة ومعذَّبة، هاذية ومخيفة و"ساقطة". أنت، صاحب "دفاتر دون ريغوبرتو" و"الخالة جوليا والكاتب"، أفضل من يعرف ان شرّ انتقام من امرأةٍ قدرية هو تحويلها زوجة.
اعشق بيروت يا سيّد يوسا. فرغم كل ما سبق، وبسببه، هي تستحق عشقك.
اعشق بيروت، لكن لا "تتزوّجها".