أين بيروت؟
متحف غوغنهايم الشهير سيفتتح فرعاً له في أبو ظبي: أُعلن عن القرار في أوائل الشهر الجاري، وسيبصر المشروع النور ما أن يكتمل تصميم المهندس المعماري الكبير، الأميركي من أصل كندي فرانك غيري، وهو الحائز جائزة بريتزكر المهيبة في مجال الهندسة المعمارية (1989). كان سبق لغيري ان صمم عام 1997 متحف غوغنهايم في مدينة بيلباو الإسبانية، الذي يشكل تحفة معمارية وتحدياً هندسيا وفنياً فريداً من نوعه، بمنحنياته المتموجة المصنوعة من ألواح التيتانيوم والزجاج.
من المتوقع أن تستغرق أعمال بناء الغوغنهايم الجديد خمس سنوات، وهو سيشيَّد على جزيرة السعديات على بعد 500 متر من شواطئ العاصمة الإماراتية، على مساحة 30 ألف متر مربع، ليكون بذلك أكبر من المتاحف الخمسة الأخرى التي تديرها مؤسسة غوغنهايم في أنحاء الأرض. وتأمل أبو ظبي في استقطاب جمهور حاشد من كل الجهات الى هذا المتحف، الذي سيكون مخصصا للفن الحديث والمعاصر، والذي سيشكّل مع الوقت مجموعته الخاصة فضلا عن استضافته المعارض المختلفة، علما أن جزيرة السعديات نفسها ستضم كذلك متحفا وطنيا، ومتحفا للفنون الكلاسيكية، ومتحفا بحرياً، ومعهدا لفنون الأداء.
لا شك في أن ابو ظبي تتوق الى أن تكون دعامة للثقافة العربية، وتعمل لتحقيق هذا الحلم. ممتاز! ونحن نفرح لها وبها لأجل ذلك.
لكن، أين بيروت وسط هذا كله، بيروت "عاصمة الثقافة" ورائدة الحداثة في الفنون والآداب؟
آه، نسيت. إنها تلملم أشلاءها للمرة الألف...
أفضل الجامعات الاجنبية وأرقاها باتت متمركزة في الخليج، وليس أقلها السوربون التي ستولد قريبا، ايضاً في أبو ظبي. فعلاً، تم توقيع اتفاق الشراكة والتأسيس في شهر شباط من هذه السنة، "بغية تعزيز الفرنكوفونية في المنطقة"، كما نص البيان الذي أصدره الطرفان والذي اطلعتُ عليه في موقع السوربون على الانترنت. صار تعزيز الفرنكوفونية في المنطقة يجيء من الإمارات، الأنغلوفونية بامتياز... عال، لم لا؟
لكن، أين بيروت وسط هذا كله، بيروت جاذبة الطلاب و"معقل الفرنكوفونية" وبؤرة إشعاعها في العالم العربي؟
آه، نسيت أيضاً: إنها تحصي قتلاها من جديد...
مركز للتزلج الشتوي وسط قيظ الصحراء، فندق ست نجوم تحت المياه، قبة فلكية عملاقة مجهزة بأحدث التقنيات العلمية تتيح القيام بجولة خيالية في الفضاء، جزر فردوسية اصطناعية للبيع، زيادة بنسبة 60 في المئة في عدد الفنادق والمنتجعات خلال العقد الأخير، ...الخ: إنجازات دبي في قطاع السياحة والترفيه والعقارات والبزنس لم تعد تحصى. بل تكاد هذه الإمارة النشيطة والطموحة تنافس أبرز الوجهات السياحية العالمية، مع زيادة مضطردة في عدد السياح سنوياً (نسبة النمو فيها على هذا الصعيد تبلغ 32 في المئة، مقارنة بمعدل نسبة نمو شامل لا يتجاوز الـ3 في المئة). وهي لا تكتفي بالسياحة الترفيهية، بل ستفتتح مستقبلاً "قرية ثقافية" كبرى (موازنة المشروع 14 مليار دولار)، تضم مجموعة من أبرز اكاديميات الرسم والموسيقى والكتابة الابداعية والرقص والحِرَف اليدوية ذات المستوى الرفيع، "بغية إظهار اهتمام هذه البلاد بالفن والخلق وتشجيع السياحة الثقافية في الإمارات"، على قول أحد المسؤولين عن الخطّة (هاشم الدبل، الرئيس التنفيذي لشركة دبي للعقارات، جريدة ITP business)... وهذا لعمري مدعاة افتخار وابتهاج لنا ولكل عربي!
لكن، أين بيروت وسط هذا كله، بيروت "سويسرا الشرق" وجوهرة المتوسط وقبلة أنظار السائحين من كل حدب وصوب؟
آه، نسيت أيضاً وأيضاً: إنها ترفع من شوارعها الركام الذي أفضت إليه تداعيات بطولاتها في وجه الوحش الإسرائيلي، وتوزّع الاعانات على نازحي نصرها المليون، وتكفكف ما يتكفكف من دموع الثكالى والأرامل، وتضمد ما يتضمد من جروح ضحاياها الإجباريين في المستشفيات، أطفالا ونساء ورجالا وشيوخا...
أيضاً: حدِّث ولا حرج عن مدينة دبي الاعلامية وشبكاتها المتكاملة والمتنامية ومنجزاتها الجديرة بالاحترام والتقدير في المجال الاعلامي، بشقّيه المكتوب والمرئي على السواء. وحدِّث ولا حرج عن إمارة راس الخيمة وخطتها لإنشاء مطار فضائي سيكون من المواقع الرائدة في خوض مجال السياحة الفضائية. وحدِّث ولا حرج عن نمو دولة قطر السريع وتحولها نقطة مركزية في ميدان السياحة والأعمال. في اختصار، التجارة، التعليم، المال، السياحة، الاعلام، العقارات، الثقافة...الخ: القطاعات كافة باتت أوراقاً خليجية رابحة. حتى قطاع التكنولوجيا المتطورة، الذي كان حكراً على قوى الأرض العظمى، الغربية خصوصاً مع بعض الاستثناءات الآسيوية، ستصير فتوحاته قريبا في متناول العرب، إذ يُحكى عن إقامة "وادي سيليكون" خليجي تتوافر فيه افضل الامكانات وتتخصب فيه أعصى الاختراعات... برافو يا أبناء الخليج وهنيئا لكم ولنا!
لكن، أين بيروت وسط هذا كله؟ أين دورها الثقافي والتربوي والاعلامي الريادي في المنطقة؟ أين "الاستثناء" الثقافي اللبناني الذي لطالما لهجت به الألسن والأقلام؟ أين الخصوصيات الجغرافية والروحية والبشرية والحضارية التي صنعت فرادة شعبنا؟ أين المكوّنات الفكرية والأدبية واللغوية والنشرية التي ينبغي لنا، نحن شباب هذا البلد، أن نتباهى بها إرثاً نحافظ عليه ونزيده ونغنيه؟ أين المعطيات الحداثية والتجديدية والثورية والمستقبلية، التي، قيل، لا مثيل لها في أي بقعة أخرى من بقاع دنيا العرب؟
أكرّر، أين بيروت، بيروتنا؟
إنها هنا، تسدّد فواتير القنبلة النووية الايرانية والانحياز الاميركي الاعمى الى اسرائيل ورفع اليد السورية عن لبنان ووو... نعم إنها تدفع ثمن حروب الآخرين على ارضها، كرّة بعد كرّة بعد كرّة.
سامحوني إذا بدت سوداويتي اليوم أكثر من طاقتكم – وطاقتي - على الاحتمال. هو الألم، هو الإحباط، هو الغضب. هي النقطة - البحر التي تجعل الكوب يفيض والحصاة - الجبل تقصم الظهر. أحد الأصدقاء يلحّ عليّ بشقّ نافذة يدخل منها بصيص ضوء وأمل، لكني لا أرى لهذه النافذة مكاناً هنا، ولا ذريعة الآن. حتى طائر الفينيق، هذا الذي نتكل عليه كل خمس أو ست سنوات لينتشلنا من سقطاتنا المتكرّرة، كفر بنا وبإصرارنا على الهلاك.
الأسطورة تعبت من إحيائنا. ونحن لم (ولن؟) نتعب من الموت.