الخميس ٢٥ آذار (مارس) ٢٠٢١
بقلم رامز محيي الدين علي

أيُّها الرَّعدُ

أيُّها الرَّعدُ! هلُمَّ وعجِّلْ بالفَرجِ.. الأرضُ والفضاءُ والبحارُ والأنهارُ والسُّهولُ والجبالُ والوديانُ تَسْتَغيثُ من شدّةِ الأوبئةِ والأمراضِ والجراثيمِ الّتي باتَتْ تَحصدُ أرواحَ الرِّجالِ والشُّيوخِ والنِّساءِ والأطفالِ، وراحَتْ تُهجِّرُ ملايينَ البشرِ، كي تستَوطِنَ باسمِ شريعةِ الغابِ في كلِّ حَنايَا الكونِ، تارةً باسمِ الرِّسالةِ، وتارةً أُخرى باسمِ القضيَّةِ، وتارةً ثالثةً باسمِ العدالةِ السَّماويَّةِ!

أيُّها الرَّعدُ! زمْجِرْ كمَا تَشاءُ.. وأيقِظِ الأمواتَ منَ الأحياءِ الَّذينَ سلَّمُوا كلَّ أشرعَتِهم لأنبياءِ السَّماءِ وخُلفائِها الطُّغاةِ الَّذينَ يمتَصُّونَ دماءَ الشُّعوبِ، ويَلعقُونَ رغيفَ الخبزِ وكبْسُولةَ الدَّواءِ، ويستَنْشِقُون كلَّ ذرَّاتِ الهواءِ، ويرتَشِفُون أشعَّةَ الشَّمسِ الصَّفراءَ وفوقَ الحمْراءِ، ويفتَرشُون الجُثثَ على الطُّرقاتِ، كيْ تَعبرَ قوافِلُهم عبرَ قارَّاتِ العالمِ وفي الفضاءِ..

تعالَ أيُّها الرَّعدُ، وحطِّمْ كلَّ أصنامِ فراعِنةِ الأرضِ الّذينَ بنَوا أهْراماتِهم على أجسادِ الفقراءِ والمستَضْعفِين، وأقامُوا حدائِقَ بابلَ المعلَّقةَ من دموعِ ودماءِ الأبرياءِ.. لقدْ بنَوا حاناتِ الخُمورِ على أرصِفةِ الوطنِ، ورفعُوا فوقَها شعاراتٍ بخطٍّ عريضٍ .. لا للمُخدِّراتِ! وأقامُوا النَّواديَ والمواخيرَ الّتي تسهرُ اللّياليَ، وترقدُ في وضحِ النَّهارِ، وقدْ علَتْ فوقَها شعاراتُ لا تَقْربُوا الفاحِشةَ!
لقدْ تاجرَ هؤلاءِ الفراعنةُ بكلِّ شيءٍ.. بالماءِ والهواءِ والدَّواءِ والأرضِ والسَّماءِ والبحارِ والأنهارِ والسُّهولِ والجبالِ وذرَّاتِ وحبَّاتِ الرِّمالِ.. تاجَرُوا باسمِ جميعِ آلهةِ الأرضِ، وفي أيديْهم رايةُ التَّوحيدِ تَخفقُ في السَّماءِ، وتدعُو إلى ارتداءِ عباءاتِ الخُضوعِ والخُشوعِ وإقامةِ الصَّلواتِ والدُّعاءِ!
هلُمَّ أيُّها الرَّعدُ وزمجِرْ من غضبِ الإلهِ والسَّماءِ، وأَحرِقْ أساطينَ الوحوشِ البشريَّةِ الّتي تَلْتهِمُ حياةَ الخلْقِ وسعادتَهم وراحتَهم وأحلامَهم، وكلَّ شيءٍ في الأرضِ وتحتَ الأرضِ وفوقَ الأرضِ وفي السَّماءِ، وفي الكواكبِ والنُّجومِ والمجرَّاتِ، وأَزِلْ كلَّ ذرَّةٍ من ذرَّاتِها مُسخَّرةٍ لهؤلاءِ الآلهةِ الّذينَ يرتَدُون ثيابَ الطُّهرِ والصَّفاءِ والنَّقاءِ، ويُقِيمُون صلَوَاتِ المؤمنينَ منْ وقْرِ السِّنينَ، ويُطلِقُون لِحَى النُّسْكِ والتَّعبُّدِ في محاريبِ السَّماءِ، وكأنَّهم ملائكةُ الرَّحمةِ وأجنِحةُ جِبرائيلَ تَنشرُ المحبَّةَ والسَّلامَ والهِدايةَ!

والنَّاسُ يُصدِّقُون ما قالَهُ أبو جَهلٍ، وما روتْهُ حمَّالةُ الحطَبِ، والكلُّ مُنهمِكٌ بخيَالاتِ شِعرِ القائلِينَ:

ودِّعْ هُريــرةَ إنَّ الرَّكْــبَ مُرتَحِـلُ
وهــتلْ تُطِيـقُ وداعــاً أيُّهـا الرَّجُلُ؟!
غَـرّاءُ فَرعـاءُ مَصقـولٌ عَوارِضُها
تَمشي الهُوَينا كَما يَمشي الوَجي الوَحِلُ
كَأَنَّ مِشيَتَها مِن بَيــتِ جــارَتِها
مَــرُّ السَـحابَةِ لا رَيـثٌ وَلا عَجَـلُ
تَسمَعُ لِلحَليِ وَسواساً إِذا اِنصَرَفَت
كَمـــا اِسـتَعانَ بِريحٍ عِشـــرِقٌ زَجِـلُ

الكلُّ يَبحثُ عنْ شِقَّةٍ فاخِرةٍ في السَّماءِ، وعَيْناهُ لمْ تُبصِرِ النُّورَ منْ نافذةٍ يحلُمُ بهَا على الأرضِ!
الكلُّ يُفتِّشُ عن حوريَّاتِ الخيالِ، وروحُهُ لم تَنْتشِ بعْدُ حتَّى بالنِّعالِ.. يُعلِّلُ شقاءَهُ وفقرَهُ بالسَّماءِ، ويَركُنُ في هزيعِ اللَّيلِ للدُّعاءِ.. وجُلُّ أحلامِه هالةٌ تَحُومُ حولَ رغيفِ خبزٍ أو دواءٍ.. وفي تلَابيبِ دماغِهِ بيادِرُ أوهامٍ وأفكارٍ، غرسَها مَن يُتاجرُ باسمِ السَّماءِ مِن رجالاتِ عَنترةَ وابنِ الورْقاءِ والرّفّاءِ!

الكلُّ يُعلِّلُ تعاستَهُ بأنَّها منَ السَّماءِ، فيرفَعُ يدَيهِ بالدُّعاءِ لرفعِ البَلاءِ.. ولمْ يُفكِّرْ هُنَيهةً بأنَّ رغيفَ خبزِه وقطْرةَ دمِهِ وعرقَ جَبينِه في بطُونِ الأقوياءِ والأثرياءِ وخلفاءِ الإلهِ الّذينَ سَنُّوا القوانينَ والأحكامَ، لتُصادِر العقولَ والأفهامَ كلَّ أفكارِ الإنسانِ، ليُحوِّلُوهُ إلى بَهيمةٍ منَ الأنعامِ!
الكلُّ غارقٌ في قراءةِ قِصصِ سُلَيمانَ والهُدْهدِ، وداوودَ ومَزاميرِه، ويعقُوبَ ورؤياهُ، ونوحَ وسفينَتِه، ويوسُفَ وامرأةِ العزيزِ، وأصْحابِ الكهْفِ وكلْبِهم.. لكنَّهُ لمْ يتعلَّمْ مِنها شيْئاً!

الكلُّ مُنهمِكٌ بعلامَاتِ السَّاعةِ الصُّغْرى والكُبْرى.. لكنَّهُ لمْ يُفكِّرْ بالعلامَاتِ الّتي تتوسَّطُ السَّاعتَينِ، فلعلَّ بينَهمَا ساعةً يَستَطيعُ أنْ يكتَشِفَ فيها ذاتَهُ، فيَشعُرُ بأنَّهُ آدميٌّ يمتلِكُ قوَّةً وفِكْراً وشجاعةً تُؤهِّلُه ليَصنعَ لنفسِهِ أو لغيرِه تاريخاً، كمَا فعلَ أساطينُ الفِكرِ والتَّاريخِ والإنسانيَّةِ والحضارةِ، وأمثِلةُ هؤلاءِ شُموسٌ ساطِعةٌ في السَّماءِ، إنْ بدَتْ لأعيُنِنا، اختَفَتْ كلُّ السُّحبِ الّتي أعمَتْ بصائرَنا، وحجَبَتْ عنّا رؤيةَ الإلهِ السَّماويِّ الّذي لمْ يَخلُقِ الكواكبَ، ليَطْغى كبيرُهَا على صغيرِهَا، ولا قَويُّها على ضَعيفِها، ولا ثَريُّها على فقيرِهَا.. ولمْ يكُنْ ذاكَ الإلهُ عُنصريَّاً وظالماً، ليَجُودَ على مَن يَشاءُ، ويَحْرمَ مَن يَشاءُ من عبادِه.. ولمْ يكُ ذاكَ الإلهُ شِرِّيراً، ليَحرِقَ عِبادَه الّذينَ لم تَصِلِ الهِدايةُ إلى قلُوبِهم..

وليسَ الإيمانُ حِكْراً على مَن يَرتدُون عِمامَاتٍ، ويُضلِّلُون النَّاسَ ببَنَاتِ أهْوائِهم.. وليسَ الإيمانُ أدعِيةً وتراتيلَ تُردِّدُها الحناجِرُ، ولا تَفْهمُها العُقولُ، ولا تَخضعُ لها الجَوارِحُ..

الإيمانُ شُعاعٌ منَ النُّورِ يَهبِطُ إلى النُّفوسِ في ساعاتِ الصَّفاءِ تَنتَشي بهِ الرُّوحُ، وتَسْكرُ بهِ الجَوارحُ، ويَهيمُ بهِ الفِكْرُ.. فيَشعُرُ المخلُوقُ أنَّه مَوجودٌ بوجُودِ خالِقِه، فيُسبِّحُ لهُ بكلِّ جوارحِهِ وأعضائِهِ ومُكوِّناتِ ذاتِه، ويَخْشاهُ في سرِّهِ وعلَنِه، ويَعشْقُه في ذاتِه عِشْقَهُ لهُ في كلِّ خَلْقِه.. ويَتُوقُ إليهِ تَوقَهُ للخلُودِ.. ويُتَيَّمُ بهِ لا خَوفاً منهُ، ولا طمَعاً بنَعيمِه!!

هلُمَّ أيُّها الرَّعدُ وأطفِئْ بنُورِ برقِكَ أنوارَ القابِعينَ في أبراجِ الطُّغْيانِ والعُهرِ والاستِبْدادِ والاستِغْلالِ والطَّمعِ والجشَعِ والاستِعْبادِ والملَذَّاتِ والشَّهواتِ الّذينَ لمْ تَرْوِ كلُّ خيراتِ الأرضِ نَهمَهُم وأنانِيَّتَهم.. وأَنِرْ نفوسَ القابِعينَ في ظلُمَاتِ نفُوسِهم وظلُماتِ قبُورِهِم الّتي دفَنَتْهم فيها أيْدي تُجَّارِ السِّياسةِ والاقتِصادِ والكهنُوتِ، هذا الثَّالُوثِ الّذي يَحكُمُ العالَمَ، ويَجعلُه جَحيماً أبشعَ من جَحيمِ الآخِرةِ!

تعالَ أيُّها الرَّعدُ وحطِّمْ أصْنامَ آلِهةِ الأرضِ، وزلْزِلْ عُروشَهم، وأيْقِظْ عُيونَ الغارقِينَ في زنْزاناتِ الحياةِ، وعلِّمْهمْ أنَّ ثرواتِ الأرضِ لجميعِ خلْقِ اللهِ، وليسَتْ مُلْكاً للفراعِنةِ.. ومِن حقِّ كلِّ مَخلُوقٍ أنْ يعيشَ حُرّاً كريماً يَملكُ كلَّ مُقوِّماتِ الحياةِ، لا يُمكِنُ أن يُصادِرَها طغاةُ الأرضِ، لا باسمِ السَّماءِ، ولا باسمِ آلهةِ الأرضِ، وليسَتْ ثرواتُ العالمِ إرثاً مُحتَكراً على هؤلاءِ الوحُوشِ الّذينَ لا يُؤمنُون بعدالةٍ ولا بإلهٍ ولا بإنسانيَّةٍ!

العدالةُ مَفهومٌ كُلّيٌّ لا يَتجزَّأُ.. إنْ لمْ تتحقَّقْ في الأرضِ بميزانِ الفِكْرِ العاقِلِ، فمِنَ المستَحِيلِ أنْ تُطبَّقَ في خَيالِ عقُولِ المخْبُولينَ بأَفْيونِ الجَهلِ!


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى