الجمعة ١٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
سليم النفّار
بقلم غدير حميدان الزبون

الشاعر الذي حرسَ الذاكرة الفلسطينية من العدم

سليم النفّار: الشاعر الذي حرسَ الذاكرة الفلسطينية من العدم

تمهيد: حين يولَد الشاعر من فم الجرح

في وطنٍ يُعاد احتلاله كل صباحٍ بفقدٍ جديد، وفي زمنٍ تتهشّم فيه المعاني كما الحجر، يظهر الشعر بوصفه الفضاء الوحيد القادر على إعادة تعريف الإنسان. من بين الأصوات الفلسطينية التي لم تُهادِن ولم تُساوِم، ينهض اسم سليم مصطفى النفّار (1963–2023) بوصفه شاعرًا يحمل الوجع الفلسطيني لا كحِملٍ بل كهوية، ويحوّل النار إلى بيانٍ جمالي، والفقد إلى شكل آخر من المقاومة.

لقد عاش النفّار حياته كلّها في مواجهة سؤالين:

كيف يعيش الفلسطيني؟ وكيف يكتب؟

ولذلك جاءت قصائده كأنها تُكتب داخل الفجيعة، لكنها لا تستسلم لها؛ كأنها تُمسك يد القارئ ليقودَه عبر الدخان والركام إلى ضفة أخرى: ضفة الشعر.

الفصل الأول: السيرة التي صاغتها المنافي

1. الطفولة بين مخيّم الشاطئ ومنفى اللاذقية

وُلِد سليم النفار في مخيم الشاطئ غرب غزة عام 1963 لعائلة هُجّرت قسرًا من يافا عام 1948، فكان حظه منذ الطفولة أن يتعلّم أن الوطن يمكن أن يقيم في الذاكرة قبل الخرائط. في عام 1968، أُبعد والده عن غزة إلى الأردن، لتنتقل الأسرة بعدها إلى سوريا عام 1970، حيث عاش النفار شبابه في مدينة اللاذقية. في تلك البيئة الساحلية التي يختلط فيها هدير البحر بنداءات المنفى، تفتّح وعيه على معنى الاغتراب، وتكوّن صوته الشعري الأول.

في سوريا درس الأدب العربي في جامعة تشرين، وبدأ ينشر قصائده في الصحف العربية منذ شبابه المبكر. هناك أسّس في 1986 ملتقى أبو سلمى للإبداع الشبابي، مؤكدًا أن الشعر ليس حالة فردية فحسب، بل فعل جمعي، ومشروع ثقافي يوازي الكفاح السياسي.

2. العودة إلى غزة: الشعر في زمن البناء

عاد النفار إلى غزة بعد تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994. عمل في المواقع الثقافية، وأصبح محررًا لأكثر من مجلة، وأسهم في تأسيس جمعية الإبداع الثقافي. هنا بدأ الجزء الثاني من حياته: حياة الشاعر الذي لم يعد يكتب من المنفى فقط، بل من صميم الجرح الفلسطيني اليومي.

كتب النفّار في سيرته الذاتية «ذاكرة ضيقة على الفرح» (2020):

«نكتب كي لا ننطفئ، وكي يبقى الطريق مضاءً بما تبقّى من أرواحنا.»

هذه الجملة وحدها تلخّص رؤية شاعرٍ يعرف أن الكتابة ليست حرفة، بل نجاة.

الفصل الثاني: مشروعه الشعري – حين تتحول الجملة إلى وطن

1. الدواوين التي شكّلت معمار تجربته

للنّفار إنتاج شعري واسع، من أبرز دواوينه:

تداعيات على شرفة الماء (1996)
سور لها (1997)
بياض الأسئلة (2001)
شرف على ذلك المطر (2004)
حالة وطن (2014)
حارس الانتظار (2021)
الأعمال الشعرية الناجزة (2016 – مجلد شامل)

وفي 2024 أطلقت وزارة الثقافة الفلسطينية مجلّدًا ضخمًا (520 صفحة) يوثّق مجموع أعماله الشعرية.

2. الشعر كحالة وجودية لا كزينة لغوية

يمتزج في شعر النفار البعد الوجودي مع البعد الوطني. فهو لا يقدم الوطن شعارًا، بل سؤالًا. ولا يقدم الفقد مأساة، بل محاولة لفهم أثره على الكائن. يتعامل مع اللغة كجسد، ومع الجسد كذاكرة، ومع الذاكرة كحرب طويلة لا تهدأ.
نماذج شعرية مع تحليل

نموذج 1: من قصيدة “Drawing Class” (نشر بعد استشهاده)

If we stopped
would the endlessness stop too
Screaming from the fire
I shout into darkness
Did you hear me
Did you answer
هنا يضع النفار القارئ في مواجهة سؤالٍ وجودي:
هل يتوقف الخراب لو توقفنا عن مقاومته؟
هذا سؤال فلسفي بامتياز، لكنه يصاغ في لغة بسيطة لكنها مشتعلة.
The children dipped their bread in my tears
while we wrestled the chains of time
drawn to drag war onto beauty

في هذا المقطع يتخذ الألم شكلًا يوميًا:

خبز الأطفال،
الدمع،
زمنٌ يجرّ الحرب على الجمال.
إنه تحويل للمشهد الفلسطيني من حدث سياسي إلى بنية شعرية كاملة.
نموذج 2: من ديوانه “حالة وطن”
يطولُ بنا الليلُ،
ولا يتّسعُ الحلمُ
لسماءٍ أخرى غير وجهك يا وطني،
تمسكُ بيدي كي لا أسقط
في حفرة الأسئلة…
هذا النص يربط بين الوطن والجسد، وبين الليل والحلم، وبين السؤال والنجاة.
الوطن هنا ليس جغرافيا، بل ممسك يد في هوّة الوجود.

الفصل الثالث: السرد عند النفار – ذاكرة لا تفصل بين الشخصي والعام
ترك النفار أعمالًا نثرية وروائية مهمة، منها:
ذاكرة ضيقة على الفرح
غزة 2014
فوانيس المخيم (رواية – 2018)
ليالي اللاذقية (رواية – 2022)

هذه الأعمال ليست توثيقًا فحسب، بل هي سرد شعري، حيث تُروى الذاكرة كما تُكتب القصيدة:
بكثافة، وبحساسية فائقة، وبمزج بين الواقعي والرمزي.

الفصل الرابع: الاستشهاد – حين يسقط الجسد ويظلّ الصوت

في 7 ديسمبر 2023، خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، استُشهد سليم النفار مع: زوجته وابنتيه وأخته وزوجها وأطفالها، جرّاء قصف منزل العائلة في حي النصر بغزة.

سقط الجسد، لكنّ الكلمة التي كتبها طوال أربعة عقود بقيت، وظلّ صوته بعد الموت أعلى من كل صاروخ.
بعد استشهاده، أصبحت أعماله تُدرّس ويُحتفى بها، ورُشّح ليكون شخصية العام في اليوم العربي للشعر 2025.

الفصل الخامس: أثره الثقافي – من المناهج إلى الذاكرة العربية

1. آخر شعراء المناهج الفلسطينية

كان النفار من القلائل الذين أُدرجت نصوصهم في المناهج التعليمية الفلسطينية.

لم يكن ذلك تكريمًا عابرًا، بل اعترافًا بأن شعره قادر على تشكيل وعي لغوي ووطني لدى الأجيال الصاعدة.

2. شاعر عالمي بوجدان فلسطيني

شارَك في مهرجانات عربية ودولية عديدة: بغداد، جرش، الدوحة، إسكتلندا…

وكان صوته يصل إلى أبعد مما تسمح به جغرافيا غزة المحاصرة.

لقد مثّل النفار — حيًا وميتًا — صورة الشاعر الذي يكتب من قلب النار، لا من مقعد المشاهدة.

الفصل السادس: التحليل الفني الشامل – أسلوبه وتقنياته

1. اللغة: بين البساطة والمجاز

تبدو جملة النفار بسيطة، لكنها مبنية على عمقٍ فلسفي.

هو يكتب باللغة التي تشبه الإنسان لا القاموس.

2. الصورة الشعرية كأداة مقاومة

الصورة لديه ليست تزيينًا، بل رأيًا سياسيًا، وصرخة وجودية، وتجسيدًا لنبوءة قادمة.

3. تنويع الإيقاع والتحرر من العمود

يميل النفار إلى قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر؛ لكنه يستخدم الإيقاع الداخلي — تكرارًا وترجيعًا وإيقاع معنى — ليبني تأثيرًا لا يقل عن الموسيقى.

خاتمة: الشاعر الذي صار ذاكرة

لم يكن سليم النفار شاعرًا يكتب عن فلسطين؛

كان شاعرًا يكتب فلسطين نفسها — بأرضها، وناسها، وآلامها، وسمائها.

لم يكن شاعرًا عاش في وطن.

كان وطنًا عاش داخل شاعر.

وحين استُشهد، لم ينطفئ صوته، لأن الشعر — كما قال هو نفسه —: «لا يموتُ من يمسكُ بالحبر بقلبه.»

في ختام هذا المقال الذي حاول أن يلامس شيئًا من ضوء الشاعر الفلسطيني الشهيد سليم النفّار، ندرك تمامًا أننا لم نكتب عن شاعرٍ فقط، بل عن حضور إنساني وثقافي ومقاوم يفيض بمعاني تتجاوز النصوص إلى الفعل، وتتجاوز اللغة إلى أثرٍ لا يُمحى. إن الحديث عن النفّار هو حديث عن فلسطين نفسها؛ عن وطنٍ يتنفس بالشعر، ويقاوم بالشعر، ويسري في عروق أبنائه كشريانٍ أبديّ لا ينقطع.

لقد كان النفّار أحد أولئك الذين لم يكتبوا القصيدة ليعرضوها على القارئ فحسب، بل كتبها ليرفعها على كتفه كما تُرفع بندقية، ويضعها في صدره كما يوضع القلب. في قصائده كنا نلمس دائمًا ذلك التوتر المقدّس بين الوجدان والواجب، بين الحب والدم، بين الحلم والتراب؛ وكأن اللغة عنده كانت دومًا حالة تعبئة داخلية تستعد للانطلاق نحو الحرية.

وحين نقرأ أعماله اليوم، بعد أن صار شهيدًا، يصبح كل بيتٍ كتبه وصيّةً مضيئة، وكل كلمة ساقها في قصائده شعلةً تُورَث. فقصيدته لم تكن مشروعًا فنيًا منعزلًا عن الحياة، بل كانت صدى لخطواته اليومية، وقناعاته، وطبقة صوته، ووجع شعبه. هكذا غدا شعره مرآةً لروحٍ أكبر من صاحبها، روحٍ ظلّت تبحث عن معنى العدالة في أرضٍ أنهكها الظلم ولم تستسلم.
ولعل أعظم ما خلّفه النفّار لنا هو أن الشعر ليس زينة اللغة، بل شهادةٌ مكتوبة. من يقرأه، يشعر أنّ الكلمات عنده تخرج من بين شقوق الجدار، ومن أصابع الأطفال الذين يرفعون الحجارة، ومن أمّ تنادي ابنها الشهيد، ومن رجلٍ يؤمن أن الوطن ليس جغرافيا فقط، بل وجودٌ داخليٌ لا ينطفئ.

إن سليم النفّار لم يذهب. هو الآن أكثر حضورًا من أي وقت مضى. يعيش بين دفّات دواوينه، وفي ذاكرة كل قارئ، وفي الملح الذي يعلو جبين غزة، وفي صدى البحر حين يضرب صخور الساحل، وفي ظلال الشهداء الذين يمضون ثم يعودون بأسمائهم الجديدة في قلوب الناس.

وسيظلّ النفّار، ما بقيت فلسطين، علامةً فارقة على معنى الشاعر الذي يكتب بالنبض، ويستشهد بالكلمة، ويترك خلفه أثرًا لا يقدر الزمن على محوه. أثرٌ يشبه أغنيةً تبقى عالقة في الهواء حتى بعد أن يغادر المغنّي المسرح، أو يشبه شجرة زيتونٍ لا تكفّ عن إخراج ثمارها رغم كل محاولات الاقتلاع.

وهكذا يكون ختام القول:

إن سليم النفّار لم يكن شاعرًا عاش زمنه وانتهى، بل شاعرًا بدأ زمنه الآن.

كلما انكسرت نافذة في غزة، أو اشتعل ليل، أو رفّت راية، عاد صوته، عادت قصيدته، وعادت فلسطين التي لا تموت.

المراجع:

وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، تقرير عن حياة النفار واستشهاده.
وزارة الثقافة الفلسطينية – بيان إصدار الأعمال الكاملة (2024).
جريدة الأيام الفلسطينية – تقرير رثائي وتحليلي عن إرث النفار الثقافي.
ArabLit – نشر ترجمات لنصه “Drawing Class” بعد استشهاده.
PEN International – ملف «الحرب على الكتّاب» وتوثيق أعمال النفار.
تقارير UNA – السيرة الثقافية للنفار ودوره في سوريا وغزة.
Cairo24 – خبر إصدار مجلد أعماله الكاملة (520 صفحة).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى