الأحد ١٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم غدير حميدان الزبون

معلم القلم الأوّل وطبشور الحرية

في 14 من ديسمبر يستيقظ الدّرس قبل الطلاب، وتسبق الأوراق المعلم إلى السبورة، كأن الطين يتعلم أن يصبح كتابًا،
وعلى أصابع الزمن تنقش الحروف اسم فلسطين.

وحده الفلسطيني يعيد صياغة التاريخ…

يمحو ألم الأمس ليكتب درس اليوم، ويؤجل الجنائز ليستبدلها دروسًا في الأمل.

يوم 14/12 في التقويم هو إعادة ميلاد للوعي، وتثبيت لحق المعرفة، ونفيرٌ نحو الحرية.

فحين يبدأ الوطن من الطباشير الأولى

في الرابع عشر من ديسمبر من كل عام، يتفتح الصباح الفلسطيني على مشهد قد يبدو بسيطًا للغريب، لكنه في جوهره أعمق من كل الأيام: معلمٌ يفتح باب صفّه، يمسح عن اللوح غبار الأمس، ويكتب بكفٍّ متعبة، ثابتة، متجذّرة: "الوطن يبدأ من حرف".

لم يكن يوم المعلم الفلسطيني يومًا احتفاليًا عابرًا، بل يومًا يتقاطع فيه الضوء مع الذاكرة، والمعرفة مع الفداء، والسبّورة مع الخريطة.

هنا، حيث تتداخل الطباشير مع دخان الغارات، تنهض ملامح معلّمٍ يشبه صخرة القدس: لا ينكسر، لا يلين، لا يرحل.

المعلم الفلسطيني ليس موظفًا…

إنه شاهد على الأرض، حارس للهوية، وسادنٌ للذاكرة الكبرى.

يقول محمود درويش:

"أن نكون أو لا نكون… هذا سؤال الوطن، لا سؤال شكسبير."

والمعلم الفلسطيني يجيب في كل حصة:

"نكون… لأننا نتعلم."

معلم الحرية… من صفّ إلى جبهة وعي.

من يعلّم تحت الاحتلال، لا يدرّس فقط:

إنه يقاوم.

تنفتح الحصة هنا على خلفية أصوات لا توجد في أي دولة أخرى:

فجرٌ يشهد اقتحامًا،
ومساءٌ يشهد وداعًا شهيدًا،
وصباحٌ يشهد إصرارًا على كتابة درس جديد.

يدخل المعلم صفّه وهو يحمل في صدره شيئًا يشبه سيرة وطنٍ كامل:

سيرة صمود، سيرة تراب، سيرة أمل.

في الصفوف الفلسطينية، لا تتعطّل الحصص رغم انقطاع الكهرباء، ولا تُلغى الدروس رغم فقدان الطلاب، ولا تتوقّف الحياة رغم موت جزء منها قبل ساعات.

هنا، يصبح القلم بندقية الوعي، وتصبح السبّورة خندقًا أبيض، ويصبح المعلم قائدًا على جبهة لا تقلّ خطورة عن أي جبهة أخرى.

يقول إدوارد سعيد: "المعرفة ليست محايدة… إنها موقف."

والمعلم الفلسطيني يقف في صفّ المعرفة منحازًا للحقّ، للكرامة، للإنسان.

تناصّات الروح… حين يصبح النصّ درسًا في الحرية.

لا يدخل المعلم الفلسطيني الصف وحيدًا؛

يدخل محاطًا بكلّ رموز الأرض:
قدس تقف خلف كتفه كالكتاب الأول،
غزة تكتب دمها على دفتر الحضور،
يافا تضع برتقالها على نافذة الصف،
الخليل تنثر عناقيدها كعلامات تنقيط،

وعكا تزيّن الحصة برائحة البحر الذي لم يخضع يومًا.

يتداخل النصّ داخل الصف مع نصوص الكون:

فيروز تغني في الساحة، أم كلثوم تتردد في أذن المعلم وهو يشرح، غسان كنفاني يطلّ من الصفحة ليذكّر الطلاب:

"لن تجدوا الشمس في غير موضعها،
فابحثوا عن فلسطين في قلوبكم أولًا."
هكذا يعلّم المعلم الفلسطيني:
لا يقدّم معلومة… بل يوقظ ذاكرة.
لا يشرح درسًا… بل يكتب زمنًا.
لا يرسم خرائط… بل يعيد رسم القلب.

المعلم والحجّة الأخلاقية لوجود شعب.

من الناحية الحجاجية، يشكّل المعلّم الفلسطيني حجّةً عقلية وأخلاقية وتاريخية على صمود شعبه.

فما دام هناك من يعلّم — رغم كل شيء — فإن الوجود الفلسطيني ليس مجرد سردية سياسية، بل حقيقة معرفية لا تقهر.

أمام كل دعوى تقول إن الحق يمكن أن يبهت… يقف المعلم الفلسطيني دليلًا حيًا على أن الشعوب التي تعلّم لا تُهزم.
حين يُمنع الطفل من الوصول إلى مدرسته، وحين يُعتقل المعلّم عند الحاجز، وحين تُقصف المدرسة قبل امتحان الرياضيات، فإن دروس الحرية لا تتوقف… بل تصبح أكثر ضرورة.

إنّ كل طالب فلسطيني يخرج من تحت يد معلّم فلسطيني هو دليل إضافي على بطلان كل سردية تحاول إطفاء هذا الشعب.

إنه درس فلسفي قبل أن يكون درسًا وطنيًا:

المعرفة = بقاء.
والتعليم = مقاومة.

سردية المعلم… الإنسان الذي يكتب نفسه على جدار التاريخ.

قد لا يدرك كثيرون أن حياة المعلم الفلسطيني هي سردية بطولية يومية:

معلمٌ في نابلس يشرح درس الأدب وهو يسمع أصوات اشتباكات قريبة،

معلمة في غزة تُلقي الشعر على طلابها بينما سقف المدرسة مثقوب من صاروخ مرّ منذ أسبوع، معلم في القدس يسجّل حضور طلاب فقدوا بيوتهم قبل ساعات،

ومعلم في الخليل يطلب من تلاميذه أن يكتبوا موضوعًا بعنوان:

"كيف يشبه الوطن قلوبنا؟"

المعلم الفلسطيني لا يكتب حياته في كتاب، بل يكتب حياته على وجوه الطلبة.

إنه يُدرّس ليحمي مستقبلهم، ويصبر ليحفظ ماضيهم، ويكتب ليحيا وطنهم.

رمزية الزيتون والطبشور.

ليس عبثًا أن يشبه الفلسطينيون معلميهم بشجرة الزيتون.

فكلاهما: ضارب الجذور في التاريخ، يعاند القحط والصقيع، يُعطي قبل أن يُطلب منه، يُجرح ثم يشفى، ويعود كل موسم أقوى.

الطبشور — هذا المسحوق الأبيض البسيط — يتحول في يد المعلم الفلسطيني إلى سيف نور، يُكتب به اسم فلسطين كل يوم، حتى لو مُسح ألف مرّة.

يقول المتنبي:

"على قدر أهل العزم تأتي العزائم"
والمعلم الفلسطيني هو العزم كلّه.

أفق المستقبل… حين يعلّم المعلم ما لا يُنسى.

يسأل طفل معلمه ذات صباح شتوي:

– "أستاذ، هل ستعود بلادنا كاملة ذات يوم؟"

يبتسم المعلم، يقترب، يضع يده على كتف الصغير ويقول:

– "سنعود عندما نكتب الطريق… والكتابة تبدأ من الدرس الأول."
تعليم الفلسطينيين ليس إعدادًا لامتحان نهائي، بل إعدادٌ لوطن نهائي.
وحين يُعلّم المعلم الفلسطيني قيمة الحياة في مكان تستباح فيه الحياة،
فإنه يعلن انتصار روحيًا على كل أشكال العدم.
وهكذا يصبح الطفل مشروع ضوء، والضوء مشروع خلاص، والخلاص مشروع وطن.

المعلّم هو بداية فلسطين ونهايتها.

في يوم 14/12…نحتفي بمعلّم لم يفارق خطّ النار، ولم يترك السبّورة وحيدة في مواجهة العدم، ولم يسمح لنهر المعرفة أن يجفّ يومًا.

نحتفي بالمعلم…الذي كتب الحرف الأول للوطن، وحمل القلم الأول للحرية، وكان — وما زال — أول من ينهض… وآخر من ينكسر.

يقول درويش:

"نحن نحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلًا"

والمعلم الفلسطيني هو السبيل، والدرس، والطريق، والقلم الأوّل…الذي سيكتب آخر فصول الحرية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى