الاثنين ٤ أيار (مايو) ٢٠٢٠
بقلم أحمد بلحاج آية وارهام

أُوقيانوسٌ في داخلي

مع غبَشِ خطواتِ الصبح الأولى شَرعَ جَدّي في مَلْءِ اللَّوح الخشبيِّ، الذي لا يَنقصُ طوله عن طولي، برُموزٍ مختلفة، متتابعة على شكلٍ أفُقي،ولِحيتُه، التي كنتُ أظنُّ أنه اشتراها من ثَلجِ الجبَل ذات صُعودٍ إلي قمَّتِه،تكادُ تلتصقُ باللوح في شِبْه إغفاءةٍ، فصِحتُ به:

 ماذا تصنع؟!

بهمسٍ مراوغٍ أجابَ:

 ماذا تَصنعُ أنت؟! ألا تَعلَم أنك،بالرغم من سِنِّك هاته، مُمتلئٌ كهذا اللوحِ بنفْسِك، ممتلئٌ ببذور آرائك، وبذورِ رغباتك، وبذورِ أسئلتك وتَخَيُّلاتك، وحين يَحين أوانُك، سيُزهِر كل هذا في تُربةِ معناك. وإنك لا محالة لن تستطيعَ استقبالَ أيِّ شيء منِّي، فاللوحُ إذا امتلأ صار شجرةً يا بُني.

لم أفهم من كلامه نُوراً، ففرَكتُ عَينَيَّ ليفرَّ منهما النوم، واجتاحتْني رغبةُ تَسلُّقِ شجرةِ التين التي في منزلنا، لقطفِ بعض ثمارها المتَدفِّقة عسَلاً، وإسعادِ فَمِي بها، في هذا الصباح الذي لم تَلْثُمِ الشمسُ جبهتَه بعدُ.

للطفولة المبكِّرة منطقُها الذي يُدرك الأحداثَ، بعيداً عن منطق الكبار. فأنا لم أفهم رموزَ اللوح الذي كان يَكتبه لي جَدي إلا بعد أن تَوغَّلَ مِحراثُ الزمن عميقاً في جسدي. فما لم نُفْرِغْ ألواحَنا باستمرارٍ، فلن نتجَدَّد، ولن نتمكَّن من تذَوُّقِ الحياة، وتقديرِها، فألواحُنا هي نفوسُنا.. فإِنْ لم نُفرِغْها من التخيُّلات العبَثِيَّة،ومن أوهامِ المَلْءِ التامِّ، والتملُّكِ الأبَديَّ، صِرْنا شجرةً كما قال جدِّي لا تَصلح لكتابةٍ جديدة.

فكلما امتدَّ الخيطُ الأولُ للصباح أمام عينيَّ انتصَبَ جدي أمامي بمِنْساتِه المُقارِعة للوقت، وابتساماتِه المشعَّة كنجمٍ، وكلماتِه السائلة في أذُنيَّ نَغَماً مُترعاً بالمَحبَّةٍ:

 يا بُنَيَّ، خُذْ نجمةَ عُمُرِكَ بعقلكَ لا بقلبك،وأَضِئْ بها ما سيكون، لا ماكان. فنحن نَلِجُ الحياةَ بأيْدٍ فارغةٍ إلَّا من الصُّراخ،ونَحلُم بإمساكِ كلِّ شيءٍ فيها، وندَّعِيه لأنفسنا بجَميع وسائل التمَلُّك صادقِها وكاذِبِها،وحينذك يبدأ جوهرٌ رهيبٌ بالنموِّ في أعماقنا.. جوهرُ التعطش الحارقِ إلى حِيازةِ ما على الأرض، بل وحتى ما في السماء، وتسْيِيجِه كنبضٍ يخصُّنا.

إن هذا التعطش أوقيانوسٌ في داخلنا، يواصل النمو والتمددَ بصورةٍ مُهوِلةٍ، وعلى مستوياتٍ أكثر غموضاً ومُراوغةً، لتُصبح حاجاتُنا أكثرَ تعقيداً. فما زلتُ أتذكَّرُ ما كنتُ أقُولُه لجَدي كلما صَحِبني معه إلى التسَوُّق:

 جَدِّى، أريدُ كلَّ شيء تَقعُ عليه عيني، أريدُ امتلاكَه وحدي،وإلى الأبد.
 ألم أقلْ لك إنك إذا امتلأتَ غِبتَ.

ثم يَجرُّني من يدي بلطفٍ مُهَمهِماً:

(أي لعنة مخبَّأة بين ضلوعنا
أي صرخة يتسلقها جَوعَى ومقاتلون
في حروب عَبثية؟!
أي كوكب يتداعى في الرأس
بمثل هذا العتوِّ والانهيار؟
أي قطار مُندفعٍ في براكين الدم
تُشَيعُه النظرات الوجِلة
ليتلاشى في هباء الدخان
أي قارب يضمَحلُّ
في هيجان الغروب؟

أنتم يا من تَحتلُّون كل شيء
على هذه الأرض المحتشدة
بالذهب والرغبات
نَصَبتُم أعلامَكم الحمقاءَ
على كل تلة ومدينة
فوق كل بحر أوصحراء
وبلَغتُم الكواكب البعيدة
لكنكم لا تستطيعون
[الإمساكَ بذيلِ السَّديمِ
الذي يمتطي الهاوية].)*

تنسلُّ أصابعي من كفِّه الخشِنة،دوأُصِرُّ بحَرَدٍ طُفوليٍّ على أن يكون لي ما أريد، ومن خلال دموعي أُبصِرُه يَفتَح صدرَه، ويُخرج لي منه كلَّ ما طلبتُه، كأنه ساحرٌ مقدَّسٌ آتٍ من سماء الأساطير، التي كانت جدَّتي تَطرزُها في ليالي البرد النابح. لم أَدرِ أنني سأقفُ على قمَّة العُمرِ مُفتَقداً إياه، وأنَّ التغَيُّر سيجرفُ ما أَملِكُ، وسيجرفُ جدي كذلك كشجرةِ ثلجٍ، كنتُ أعبَثُ بضوئها ونقائها. فالتَّملُّك يُشعرنا بأن أجسادَنا لها حياتُها الخاصة، ولكنْ من المؤسف أنه لا يُشعرنا بأننا سنُعيدُها إلى أصلها الكونيِّ الذي جاءت منه. ومن ثمة فإن رحلة الحياة ما هي إلا سِيرةُ استكشافِ أنواعِ الرغباتِ المختلفة، وسِيرةُ السعيِ إلى الأخذِ دون عطاءٍ، وهذا هو مصدرُ كثيرٍ من آلامنا في الحياة. ومنه حَذَّرَني جدي حين قال:

 تآلفْ مع التغيُّر يا ولدي تَحْظَ بالسلام.

 ولكنني لا أحِبُّ التغيُّرَ، هكذا أجبته.

 إذن،ستَشقَى في حياتك،ولن تَجِدَ أحدا بجانبك،فالجميع سيركبُ التغيُّرَ.

 بل سَأُسَيْطرُ على الحياة كما أنا، وسيبقى كل شيء بالنسبة إليَّ على حاله.

ولم أستوعبْ التغيُّر، ولم أتآلفْ معه، لأن كل شيء كان يأتيني بمجرد الرغبة فيه كطفل مُدلَّلٍ، وكنخلةٍ مُراهقةٍ تتمايلُ في صَحْن الدار، وتشمخ بزهو في السماء. ولكن عندما شاهدتُ جدي محمولاً على النعش ذات ظهيرةٍ أتَتْني القدرةُ على قبول التغيُّر كوجهٍ من وجوه الخسارة في الحياة، وليس كوجه من وجوه التحَرُّر المُفضِي إلى التطور، فلقد كنتُ أراه فشَلاً،ومع صُعودي في سُلَّم السنوات فهمتُ أنه ضروري لتغييرِ قِشرة الحياة التي نلْبسُها، وتبديلِها بقشرةٍ أنصعَ وأملسَ، نُحِسُّ في داخلها بِطَاقةٍ جديدةٍ تُقرِّبُنا من فلَك الطمأنينة والرضا.

*سيف الرحبي: حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة، ط1، كتاب(دبي الثقافية)، الإصدار 30،منشورات دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، دبي 2009م،صص:105،101،100.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى