إحياء النموذج في الشعر العربي الحديث
يعد خطاب إحياء النموذج من بين الخطابات المدرجة ضمن مكون درس النصوص في مادة اللغة العربية للثانية بكالوريا شعبتي الآداب والعلوم الإنسانية، ونظرا للأهمية التي أصبحت منوطة بطريق تحليل النصوص، وفق القراءة المنهجية المعمول بها في منهاج تدريس اللغة العربية، وهي نفسها المعتمدة في تقييم التلاميذ في امتحانات البكالوريا، سأحاول في هذا العمل اعتماد نص مغربي يعد مثالا واضحا لشعر الإحياء، سأعمل على تحليله وفق القراءة المنهجية للنصوص، آملا أن يجد في الطالب الخيط الناظم الذي يعسر على كثير من طلاب البكالوريا، وسأفرد ابتداء تأطيرا عاما لشعر الإحياء، ثم أخص بالتحليل بعدها قصيدة أريج المسك لمحمد بن إبراهيم شاعر الحمراء.
التأطير
ابتدأ عصر النهضة عربيا مع لقاء العالم العربي الإسلامي مع نظيره الغربي، طرح على إثره سؤال النهضة مفاده: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن العرب؟ وهو في طبيعته استشكال يصور هول صدمة الحداثة التي لا زلنا نعيشها إلى اليوم، وقد نتج عن محاولة الإجابة عن هذا السؤال الإشكالي ظهور تيارين على طرفي نقيض: تيار سلفي يدعو إلى التأسي بالسلف وحذوه، وتيار ليبرالي ينتصر إلى الأخذ بتلابيب الحداثة الغربية.
برز من داخل هذا الزخم الفكري مجموعة من الشعراء دعوا إلى تقليد السلف، عرف توجههم الشعري بخطاب الإحياء، اتسم بالمحاكاة الأقدمين، وبتجاوز مثالب شعر الانحطاط، حيث أزالوا عن الشعر كل ما طمس رواءه من أصباغ الصياغة البديعية مستبدلين البيان بالبديع، فما فتئ أن قلد رواده نماذج فحول الشعراء، محافظين على عمود العربي القديم، كما يراها أبو الحسن المرزوقي، من حيث شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، والتحام أجزاء النظم، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية.
وقد روج لهذا البعث مجموعة من النقاد الذين استلهموا مبادئ النهضة الأدبية من عيون التراث الشعري والنقدي العربيين، كحسين المرصفي وناصف اليازجي وأديب إسحاق. ويبقى البارودي أكثر شعراء النهضة تمثيلا لخطاب الإحياء، والباقي كل عليه أمثال: أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمد بن إبراهيم ومحمد الحلوي وعلال الفاسي، وغيرهم من الشعراء الذين تشجموا هذا الخطب الجلل، فكان أن استعاد الشعر قوامه واستوى على سوقه، ممتثلا لمتانته التي عهدناها في قديم الشعر العربي، التي شكلت شاهدا أمثل لفحولته وفتوته.
ومن الأصول التي حاول شعراء النهضة إحياءها نذكر:
– اللغة: حيث التزم فيها الشعراء الطبع، عوض التصنع والزخارف البديعية، والجزالة والمتانة وتجنب حوشي الألفاظ، والتعبير بدقة عن المعاني المرادة.
– البناء: راعى فيه الشعراء تعدد الأغراض داخل القصيدة، وحسن التخلص بينها، والبدء بمقدمة طللية في الغالب، واعتماد وحدة الوزن والقافية والروي وتناظر الجزئين.
– الصورة: تبنى على عناصر الحياة الاجتماعية، وعلى المقاربة في التشبيه ومناسبة المستعار منه للمستعار له، والحسية والسهولة في الإدراك.
– القيم: من القيم الثابتة التي تمثلها الشعراء: قيم النبل والشجاعة والقناعة والزهد والكرم، وكلها تجمع في قيمة القيم: قيمة المروءة.
التحليل
يعتبر خطاب إحياء النموذج خطابا حاول فيه الشعراء الإحيائيون العودة إلى أصول القصيدة العربية القديمة، فاستوحوا منها مضامينهم الشعرية، وحاكوا الشعراء الأقدمين في شكلها، ويعد محمود سامي البارودي حامل لواء شعر إحياء النموذج، اقتفاه في ذلك أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، ويعتبر شاعرنا محمد بن إبراهيم ممثلا لهذه المدرسة بالمغرب، كما توضحه قصيدتهأريج المسك مناط التحليل. فإلى أي حد استطاع شاعرنا تمثيل خطاب إحياء النموذج في قصيدته شكلا ومضمونا؟
يتضح من خلال النظرة البصرية للنص أنه يبدو محاكيا للقصيدة العمودية التقليدية، فقد اعتمد شاعر الحمراء نظام الشطرين المتناظرين ووحدة الوزن ووحدة القافية ووحدة الروي والتصريع في المطلع. جاء العنوان (أريج المسك) من الناحية التركيبية جملة اسمية، فأريج خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذا أو هذه، وهو مضاف والمسك مضاف إليه مجرور، أما من الناحية الدلالية فأريج يعني انتشارا لرائحة مرتبطة بالمسك تكون بالضرورة طيبة لطيب الأصل. فما مقصدية الشاعر من هذا التضايف؟ وما علاقة ذلك بمضمون النص؟
أكدت الرؤية البصرية أننا إزاء قصيدة تقليدية، فهل يتحقق ذلك أيضا على مستوى المضمون؟
استهل الشاعر قصيدته بذكر معاناته وشكواه من أعادي الدهر الرديء، الذي دفع بحياته إلى القساوة والكآبة، منتقلا إلى التماس العذر من صحبه وأخلائه، ليفرد نظمه بعدها لإبراز خصاله الحميدة، المتمثلة في امتلاكه لناصية الإبداع، وأن له شأوا عظيما في نظم الشعر وتقصيد القريض، رادفا ذلك بافتخاره واعتزازه بأهله وجاهه وأخلاقه، منتهيا بالنصح للناس تخليدا لذكراه وتحصينا لمحاسن الأخلاق. ويمكن أن نستجمع هذه المضامين جميعها في نواة دلالية مفادها أن الشاعر يسفر عن معاناته لأصحابه وافتخاره بنفسه وإسداء النصح للآخرين.
إذا كانت النظرة البصرية تجعل النص إحيائيا، فإن المضامين والأغراض لم تخرج عن هذا المنحى، فقد ركن محمد بن إبراهيم إلى الاعتماد على تعدد أغراض القصيدة بين الشكوى والافتخار والنصح والإرشاد محسنا التخلص بينها، إن التعدد في الأغراض خاصة الشعرين الإحيائي والقديم.
استند شاعرنا في إبراز هذه المضامين المختلفة المتعددة إلى معجم تتخلله بعض الألفاظ التي تمتح من معين اللغة التراثية القديمة من قبيل: (صارم، العضب، القعب، مناجيد، أقيال...)، إنه معجم تقليدي وسيط يجمع بين الجزالة والمتانة، تتوزعه ثلاثة حقول دلالية: الأول مرتبط بالشكوى، نمثل له بالألفاظ الآتية: (دعوني، أحزاني، يسوؤني، خطب، مدهي ...)، وحقل الفخر، نمثل له بما يلي: (أتيه، أزهو، شامخ الأنف، تعرفني الأخلاق...)، وحقل الموعظة والحكمة، يمكن أن نمثله بـ:(تابع، يشكرك، ذكره، فضيلة، أذكرهم، أريج المسك...).
تربط بين هذه الحقول علاقة تضافر، نسجل فيها هيمنة حقل الافتخار على باقي الحقول الدلالية الأخرى، وذلك لأن مراد الشاعر هو إبراز خصاله وفخره بنفسه وتمجيد ذاته، والحقلان الآخران ليسا إلا خادمين له.
هذا من الناحية المعجمية التي نجد الشاعر جارا فيها القدماء، أما من الناحية البلاغية فقد اعتمدت الصورة الشعرية في النص مباحث البلاغة القديمة من تشبيه وكناية واستعارة ومجاز، وهي في أغلبها مفردة طرفاها حسيين، كما أن لها وظيفة وحيدة في القصيدة هي الوظيفة التزيينية، ففي البيت 17 ورد تشبيه في قوله:(حديثهم كأنفاس زهر الروض)، حيث شبه حديث أصحابه في حسنه كأنفاس الروض في رائحته، وهي صورة مفردة. ورد في البيت السادس استعارة في قوله: (تعرفني الأخلاق) على سبيل الاستعارة المكنية، حيث حذف المستعار منه (الإنسان)، وأبقي على أحد لوازمه (المعرفة)، وهي أيضا استعارة مركبة تجمع بين طرفين مختلفين: الأول حسي والثاني مجرد، ومثلها الاستعارة في قوله(تعرفني الآداب) من البيت نفسه، وتحضر في البيت الخامس كناية في قوله:(شامخ الأنف)، حيث كنى عن عزته ووجاهته بشموخ أنفه.
وبموازاة باقي العناصر السالفة، فقد اقتفى الشاعر في الصورة الشعرية مسالك القدماء اعتمادا على مباحث البلاغة القديمة، أما الأساليب فيمكن أن نميز فيها بين أسلوبين: إنشائي وخبري، فالأول ما لم يحتمل الصدق والكذب، والثاني ما احتملهما معا، فمحمد بن إبراهيم يستعمل الأول في المواطن الوجدانية الانفعالية، ويعتمد الثاني في الإخبار عن معاناته الدائبة والإفصاح عن فخره بنفسه وعلاقته بصحبه، نذكر من قبيل الأول أسلوب النداء في البيت الأول، أتى على سبيل الإنشاء الطلبي، نضيف إلى هذا المثال قوله:(فلا تذكروا)، وهو أسلوب إنشائي يفيد النهي، بالإضافة إلى أسلوب الأمر في قوله:(فثابر على كسب المحامد). يستعمل شاعرنا الأسلوب الخبري في معظم أبيات القصيدة، لأن هدفه الأساس هو الإخبار عن خصاله ومجده وغيرهما.
نظم الشاعر قصيدته، من الناحية الإيقاعية خارجيا، على وزن بحر الطويل، وهو من البحور الخليلية الطويلة المركبة(فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن×2) تنسجم حشرجته وقوته مع غرض النص الرئيس(الفخر)، كما اعتمد الشاعر وحدة القافية، فهي مطلقة رويها متحرك، ومتواترة حيث ما بين ساكنيها حركة واحدة، والروي موحد أيضا، اعتمد فيه بن إبراهيم حرف الباء، وهو من الحروف المجهورة الشديدة يناسب جهر الشاعر بخصاله، إنه داعم لغرض الفخر. وقد صرع صاحب النص مطلع القصيدة إذ العروض والضرب متماثلتان.
هذا من حيث الإيقاع الخارجي، أما فيما يتعلق بالإيقاع الداخلي للنص، فنميز فيه بين التكرار والتوازي، فالأول يتميز بتكرار حروف بعينها أهمها روي القصيدة تكرر أكثر من ثلاثين مرة، ثم حرف السين، وهو من الحروف المهموسة الرخوة مرتبط بالصفير خادم لغرض الشكوى. ولم يقف التكرار عند حدود الحرف، بل تعداه إلى تكرار بعض الصرفيات (دموع، سكبتها، سكب، تعرفني..)، وهذا التكرار يلعب دورا توكيديا يزكي غرضي الفخر والشكوى، ويسهم لا محالة في خلق انسجام موسيقى النص الداخلية. نميز في التوازي بين التوازي الصرفي المتعلق ببنية الكلمات من قبيل: (القلب، الخطب، سكب، عضب، صحب، قعب...)، والتوازي التركيبي الذي نميز فيه بين التوازي التركيبي التام، والتوازي التركيبي الجزئي، يتجلى الأول في قوله:
وتعرفني الأخلاق والفضل والنهىوتعرفني الآداب والعلم والكتبوهذا البيت في أصله معارضة لبيت مشهور للمتنبي:الخيل والليل والبيداء تعرفنيوالسيف والرمح والقرطاس والقلمونمثل للتوازي التركيبي غير التام أو الجزئي بقوله:وما المرء إلا ذكره بفضيلةوما ذكره إلا فعاله والكسب
يحضر التوازي الدلالي في مجموع الصرفيات التي تخدم الأغراض الثلاثة للنص. وقد تضافر التكرار والتوازي في خلق موسيقى داخلية للنص، أضفت عليه مسحة تزيينية نغمية خادمة لأغراضه، وتسهم في وضع المتلقي أمام مقصدية الشاعر، الذي لم يبتعد قيد أنملة عن ما ألفناه إيقاعيا في الشعر العربي القديم.
يعد هذا النص مثالا واضحا لشعر البعث والإحياء، فشكل القصيدة الهندسي تقليدي، اعتمد فيه الشاعر نظام الشطرين المتناظرين ووحدة الوزن والقافية والروي وتصريع المطلع، كما أن شاعرنا عدد من أغراض القصيدة، وهي سمة تقليدية في القصيدة العمودية، حيث تحدث عن المعاناة والفخر والإرشاد وعارض فحول الشعراء في بعض من الأبيات، وظل معجم النص يرزح في التقليد، يمتح من معين اللغة التراثية، وما فتئت الصورة الشعرية تأخذ في القصيدة من مباحث البلاغة القديمة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز، ولا يخرج إيقاع القصيدة سواء كان خارجيا أم داخليا عن التقليد.
القصيدة
بما بيننا من حرمة أيها الصحبدعوني وما يقوى على حمله القلبفغني مدهي بخطب يسوءنــيوعيشي في هذا الزمان هو الخطبفا تنكروا مني دموعا سكبتهـاخفف أحزاني دموع لها سكــبأتيه وأزهــو في الأنام مجررالأذيال مجد في يدي الصارم العضبوأرفع رأسي شامخ الأنف في الورىولي من فعالي المال والجاه والصحبوتعرفني الأخلاق والفضل والنهىوتعرفني الآداب والعلـم والكتـبوإن كان لي في الشعر متعة خاطرفورده لي عذب وربعه لي خصبقريضي توحيـه لي قريحتـيفأشدو به شدوا به يخلب اللـبمعانيه قد أسفرت عن لثامهاويأتي ذلولا منه لي يسهل الصعبأطوف على أزهاره متنشقاوأشرب من سلساله وهو لي عذبوتجثو معانيه لي خضعـــاوقافية عصماء لم يجدها هربولم أحترف يوما مديح قصائديإذا جاء ذو مدح وفي يده قعبولي خير إخوان يودون عشرتيولي قد تضافى منهم الود والحبيحبونني حبا أحبهم بــــهفمني لهم قلب ولي منهم الود والحبأموت بهم بعدا وأنعش كلمـانسيما بذكراهم على خاطري هبوامناجيد أقيال حضور لدى الندىألوذ بهم في الكرب إن دهم الكربألباء أكياس لطيف حديثهــمكأنفاس زهر الروض باكره الصوبيفوح أريج المسك إن ذكر اسمهمفأذكرهم والطيب يعشقه القلبوما المرء ؟إلا ذكره بفضيلـةونما ذكره غلا فعاله والكسبفثابر على كسب المحامد في الورىليشكرك التاريخ والناس والرب
– شرح ديوان الحماسة (دت)، ص: ص9-11
– محمد بن إبراهيم: ديوان شاعر الحمراء، روض الزيتون، ضبط وتنسيق وتعليق أحمد بنبين، الخزانة الحسنية، الرباط 2000، صص 15-16.
مشاركة منتدى
11 أيار (مايو) 2014, 13:29, بقلم mohamed elbahri
منىهجية احياء النموذج
11 أيار (مايو) 2014, 13:32, بقلم mohamed elbahri
تحليل قصيدة سياسة لا حماسة لمعروف الرصافي
8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015, 19:13, بقلم منى
شكراا جزيلا على هذه المعلومات
29 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015, 10:42, بقلم سلوى
بارك الله فيك على هاته المعلومات القيمة
25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2016, 13:24, بقلم sanae mansouri
جزاكم الله خيرا على هذه المعلومات المفيدة
30 نيسان (أبريل) 2017, 21:39, بقلم maryam
معلومات نقول جيدة
23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017, 20:12, بقلم Hamza
جزاكم الله خيرا ممتنون لكم على هده المعلومات
17 أيلول (سبتمبر) 2018, 19:50, بقلم محمد
ما سبب تسميته بهاذا الإسم
4 كانون الأول (ديسمبر) 2019, 12:24, بقلم إدعلي إسماعيل
أحتاج في بعض الأحيان إلى تحاليل قصائد مثل قصيدة سياسة لا حماسة
15 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020, 10:29
تحليل قصيدة سياسة لا حماسة
23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020, 19:58, بقلم احمد العقدة
نعم ساستمر المشاركة
5 كانون الأول (ديسمبر) 2020, 13:35, بقلم ابتسام شيبوبي
بعض الشعراء الدين مثلوا حركة احياء النمودج
10 كانون الثاني (يناير) 2021, 14:39, بقلم عبدالله زكران
أنا معجب بهذا الإنجاز
أتمنى لكم التوفيق
9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022, 11:22, بقلم جيهان
تحليل نص سياسة لا حماسة من فضلكم
9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022, 11:23, بقلم جيهان
من فضلكم اريد تحليل نص سياسة لا حماسة من فضلكم وشكرا
9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022, 12:23, بقلم يونس
اريد المشاركة لكي استفيد