إسرائيل ومجزرتها في مدرسة بحر البقر
عندما قامت إسرائيل بعدوانها الغادر على مصر يوم 5 يونيو عام 1967 واحتلالها لسيناء الحبيبة لم تصمت مصر بل في أول يوليو في نفس العام بدأت معارك الاستنزاف ووجهت القوات المصرية ضربات موجعة لإسرائيل وضمن تصعيد الغارات الإسرائيلية على مصر للقبول بإنهاء حرب الاستنزاف وقبول مبادرة روجرز قامت طائرات الفانتوم الإسرائيلية والأمريكية الصنع فى الساعة التاسعة والعشرون دقيقة من صباح يوم الأربعاء الثامن من شهر أبريل لعام 1970 والموافق الثانى من شهر صفر 1390هـ بقصف مدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة بقرية بحر البقر بمركز الحسينية بمحافظة الشرقية ونتج عن هذا العدوان الغاشم 77 شهيداً وجريحاً من المدنيين وإصابة 4 من العسكريين وعلى الفور قطعت الإذاعة المصرية إرسالها وأذاعت بيانا عاجلا جاء فيه: (جاءنا البيان التالي .. أقدم العدو في تمام التاسعة و 20 دقيقة من صباح اليوم على جريمة جديدة تفوق حد التصور عندما أغار بطائراته الفانتوم الأمريكية على مدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة بمحافظة الشرقية وسقط الأطفال بين سن السادسة والثانية عشر تحت جحيم من النيران).
من التلاميذ الأبرياء الذين استشهدوا فى ذلك اليوم الأسود نذكر طه عبد الجواد طه وأحمد أنس الباشا ومحمد وزينب السيد إبراهيم عوض وأحمد عبد العال السيد ومحمد حسن محمد إمام وسامى إبراهيم قاسم ووليد إبراهيم إبراهيم حسن ونجاة محمد حسن خليل ومحمد أنور أحمد العنانى ومحسن سالم عبد الجليل محمد.
فى صباح يوم الخميس التاسع من شهر أبريل لعام 1970 نشرت جريدة الجمهورية فى عددها الأسبوعى: (إسرائيل تغير بطائرات الفانتوم الأمريكية الصنع على مدرسة بحر البقر الابتدائية بالشرقية).
أرسل أطفال قرية بحر البقر رسالة إلى باتريشيا نيكسون زوجة الرئيس الأمريكى نيكسون وسألوها: هل تقبلين أن تقتل طائرات الفانتوم أطفال أمريكا؟ أنتِ الأم لجولى وتريسيا والجدة لأحفاد.. فهل نستطيع أن نذكر لكِ ما فعله زوجك المستر نيكسون؟.
لقد تقابلت مع أهالي قرية بحر البقر وأجريت لقاءات صحفية معهم وأذكر أن السيد عبد الرحمن حسن أحد مصابي مذبحة مدرسة بحر البقر قال: انتظمنا في الدراسة صباح يوم 8 أبريل عام 1970 ثم فوجئنا بضربة جوية من قبل الطائرات الإسرائيلية فتحولت المدرسة إلى حطام ووجدت زملائي وأجسادهم أشلاء وتوجه الأهالي للمدرسة لانتشال الجثث ونقل المصابين إلى المستشفيات وتم نقلي إلى مستشفى بالقاهرة وكانت حالتي خطيرة فأمر رئيس لجمهورية بنقلي إلى بلغاريا للعلاج ولم أكمل تعليمي بسبب الصدمة التي عشتها وقالت نبيلة علي محمد والدة شهيدين من تلاميذ مدرسة بحر البقر: يوم الأربعاء 8 أبريل عام 1970 فوجئت بإبنتي تدخل على المنزل في بكاء وصراخ : إخواتي ماتوا يامه فخرجت مسرعة إلى المدرسة وفوجئت بالأهالي يحملون جثثهم غارقة في الدماء وأصيب ابني بالصرع فور سماعه للخبر.
أيضا قال سالم عبد الجليل محمد والد الطفل الشهيد محسن قال: فى صباح يوم استشهاد ابنى وفلذة كبدى ذهبت زوجتى لزيارة أقاربها وذهبت أنا للحقل وكان محسن يبكى وطلب الذهاب مع أمه فرفضت وفضلت ذهابه إلى المدرسة حرصا على مستقبله وخلال تواجدى بالحقل شاهدت بعض الطائرات تحلق بارتفاع منخفض فوق المدرسة وفجأة سمعت صوت انفجارات شديدة فذهبت للمدرسة وشاهدت اندلاع أدخنة كثيفة وخلال اتجاهى للمدرسة قابلنى ابنى الآخر وقال باكياً : المدرسة تم ضربها وعندما وصلت للمدرسة وجدت بركة من الدماء تسبح فيها أشلاء الأطفال الأبرياء وفارق محسن الحياة وقال سعيد متولي أحد المصابين: أثناء تواجدنا في المدرسة سمعنا صوت الطائرات تحلق فوق رؤسنا وسيطرت حالة من الخوف المختلط بالبكاء وسقط السقف علينا وكنت في الصف الخامس الابتدائي ووقعت على الأرض وأصبت بحالة إغماء ولم أشعر بنفسي إلا وأنا بالمستشفي وبجواري أمي وأبي يبكيان وزملائي غارقين في الدماء وكانت حالتي خطيرة ولذلك أمر رئيس الجمهورية بنقلي للعلاج في المانيا وأجريت لي عملية بالرأس ورجعت إلى بلدي مصر.
قال محمد شاهين أحد مصابي مذبحة بحر البقر: عندما قامت إسرائيل بقصف المدرسة كنت في الصف الأول الابتدائي وبعد سقوط سقف المدرسة حفرت فتحة بجدار المدرسة وخرجت منها بعد إصابتي فوجدت أمي وأبي في بكاء شديد مع الصراخ والهلع والخوف على أنا وزملائي وتم نقلي مع زملائي إلى مستشفى الحسينية وزارنا رئيس الجمهورية ومعظم أهالي القرية رفضوا ذهاب أبنائهم إلى المدرسة مرة أخرى والبعض أخذ أطفاله وترك القرية.
نتذكر هنا الدكتور الحسيني الوكيل (رحمه الله) أحد أهم الجراحين الذين شاركوا في علاج المصابين فبعد علمه بالواقعة كان متجها لاستلام عمله بمستشفي الزقازيق فعاد على الفور للمشاركة في علاج الجرحى وبعد خروج آخر طفل مصاب حوّله مستشفى الزقازيق للتحقيق لانقطاعة عن العمل مدة شهر.
الدكتور الحسيني الوكيل بدأ حياته طبيبا بالوحدة الصحية بمنشاة أبو عمر عام 1967 ثم انتقل إلى مستشفى الحسينية حتى عام 1970 بعدها تمت ترقيته ونُقل إلى مستشفي الزقازيق الجامعي وعاد مرة أخرى إلى مستشفى الحسينية عام 1973 وظل به حتى عام 1982 ثم إنتقل إلى مستشفى فاقوس حيث الموطن الأصلي وأصبح مديرا لها إلى أن أحيل للمعاش عام 2001 م.
شاء الله تعالى أن التقي الدكتور الحسيني الوكيل قبل وفاته بسنوات وقال لي : صباح يوم الحادث كنت متجها إلى عملي بالزقازيق فسمعت النبأ الحزين فى اﻷتوبيس من الركاب الذين انتابتهم حاله من الحزن والثورة والغضب فقررت التوجه إلى مستشفى الحسينية مباشرة لشعورى أن هؤﻻء اﻷطفال بحاجه إلى وجودي معهم أكثر من غيرى لمعرفتى بكل كبيره وصغيرة فى هذا المستشفى ولصلتى الوثيقة بكل العاملين وكذلك لأن المستشفى كان به نقص قى أخصائيين الجراحة فنزلت فى منيا القمح وركبت اﻷتوبيس المتجه للحسينية وعند وصولي هناك رأيت آﻻف من الرجال والنساء والأطفال داخل المستشفى ومن حوله والجميع فى حاله من الحزن الشديد والهلع والغضب يتاصيحون ويتأوهون ويصرخون ويطالبون بالثأر ﻷبشع جريمة عرفتها البشرية حيث قامت الطائرات الحربية الإسرائيلية بضرب مدرسة لأطفال أبرياء عزل ذهبوا إلى مدرستهم متعطشين للمعرفة كالزهور المتفتحة للحياه.
كل فرد أعتبر أن الضحايا أبناءه وأخوته وجاءت سيارات الإسعاف تحمل اﻷطفال الضحايا والمصابين وتسارع آﻻف تجاه السيارات وهم يصرخون يتاصيحون كل واحد يريد أن يفعل كل مايستطيع من أجل هؤﻻء أﻷبرياء وتم نقل الشهداء إلى المشرحة والمصابين إلى اﻷاتقبال كنا جمبعا رغم أﻷلم والحزن الذى يمزق قلوبنا كنا متماسكين ومتحفزين كلنا كنا مستنفرين ومستعدين للعمل ساعات طويلة فقد كانت اﻷصابات خطيرة ومتنوعة جروح وشظايا فى كل مكان ونزيف بالمخ وكسور بالعظام وبجميع اﻷطراف ونزيف داخلى بالبطن وتهتك باﻷمعاء والكبد والطحال والكلى والمثانة.
أضاف الدكتور الحسيني الوكيل : عندما تم خروج آخر طفل مصاب من المستشفى بعد حوالى 3 أسابيع تذكرت فجأة أننى على قوة مستشفى الزقازيق العام والذى انقطعت عن العمل فيه طوال هذه المدة وﻻ يعلم شيئا عن سبب غيابى فقمت بتوزيع زملائي والعاملين بمستشفى الحسينية وتوجهت عائدا لمستشفى الزقازيق العام مقر عملى ومنعنى الموظف المختص من التوقيع وأخبرنى أننى قد تجاوزت مدة اانقطاع عن العمل وأخبرنى انهم أرسلوا لى انذارين بالفصل على بلدتى وأخبرنى أننى محال للشئون القانونية ﻷتمام إجراءات فصلى من الخدمة فانتابنى الفزع وتوجت لمديرية الصحة لمقابلة المدير العام الدكتور عبد الحى محمد عبد الله والذى رآني كثيرا عند زيارته المتكرره اﻷطفال المصابين وعندما رآني تهلل وجهه مبتسما وقال لى : ايه أخبار اﻷطفال ياحسينى؟؟ قلت له: يافندم تم خروج آخر طفل مصاب اليوم!! قال: الحمد لله أشكرك أنت وجميع الزملاءعلى ما بذلت من جهد مشرف معهم قلت : يافندم ده واجب وطنى فقال: طيب ياحسينى أنت عايز حاجة من المديريه ؟؟ فحكيت له ما أخبرنا به الموظف فنظر لى وقال : أنت بتشتغل فى الحسينية وﻻ الزقازيق؟؟ قلت: يافندم أنا نقلت من الحسينية للترقية من حوالى شهر إلى الزقازيق وعندما علمت بالحادث قررت الذهاب لمستشفى الحسينية فورا لرعاية هؤﻻء أﻷطفال المصابين لشعورى بحاجتهم لوجودى معهم ﻷننى اعرف كل شىء بالمستشفى فقال لى: ولم تخطر إدارة مستشفى الزقازيق بأى شئ؟؟؟ قلت له: ﻻ يافندم؟؟ ابتسم وقال لى: أنت بتشتغل فى عزبة ياحسينى؟؟؟ أنت مش عارف انك موظف حكومي والعمل الحكومى له نظامه؟؟ قلت له: يافندم عندما علمت بالخبر نسيت كل شئ ولم يكن أمامي سوى التوجه فورا ﻷقوم برعاية هؤﻻء اﻷطفال المصابين اﻷبرياء!!! ترسم ضاحكا ورفع سماعة التليفون وطلب مدير مستشفى الزقازيق وقال له: الدكتور الحسينى يعود لعمله وأنا اللى أرسلته فى مهمة خاصة لمستشفى الحسينية طوال هذه المدة وسوف أرسل لك خطاب رسمى بذلك وألغي جميع اﻷجراءات ثم قال: انا أشكرك ياحسينى على روحك الوطنية.
لقد كتب الشاعر الكبير صلاح جاهين رائعته (الدرس انتهى لموا الكراريس) مسجلاً تلك المجزرة البشعة فى ذاكرة الشعر العربى والأغنية العربية حيث قال:
الدرس انتهى لموا الكراريس
بالدم اللى على ورقهم سـال
فى قصـر الأمم المتــحدة
مسـابقة لرسـوم الأطـفال
إيه رأيك فى البقع الحمـرا
يا ضمير العالم يا عزيزى؟
كانت من أشـطر تلاميذى
دمها راسم زهرة
راسم رايـة ثورة
راسم وجه مؤامرة
راسم خلق جبارة
راسم نـار
راسم عار
ع الصهيونية والاستعمار
وساكته على فعل الأباليس
الدرس انتـهى
لموا الكراريس
إيه رأى رجـال الفكر الحر
فى الفكرادى المنقوشة بالدم
من طفل فقير مولود فى المر
لكن كان حلو ضحوك الفـم؟
دم الطـفل الفـلاح
راسم شمس الصباح
راسم شـجرة تفاح
فى جناين الاصلاح
راسم تمساح
بالف جناح
فى دنيا مليانة بالأشبـاح
لكنـها قلـبها مرتــاح
وساكتة على فعل الأباليس
الدرس انتـهى
لموا الكراريس
إيه رأيك يا شعب يا عربى
إيه رأيك يا شعب الأحـرار؟
دم الأطـفال جايلك يحـبي
يقول انتـقموا من الأشـرار
ويسيل ع الأوراق
يتهجى الأسـماء
ويطـالب الأبـاء
بالثـار للأبـناء
ويرسم سيف
يهد الزيـف
ويلمع لمعة شمـس الصيف
فى دنيا فيها النور بقى طيف
وساكتة على فعل الأباليـس
الدرس انتهى لموا الكراريس
لحن الكلمات الموسيقار سيد مكاوى وحملها صوت الفنانة شادية لضمير العالم.
ذكر محمد فائق وزير الإعلام الأسبق أن الشاعر صلاح جاهين حضر إليه بعد تسجيل الفنانة شادية الأغنية ومعه الورقة التى تضم أغنيته والتى كانت تقرأ منها المطربة شادية وهى مبللة بدموعها من شدة التأثير.
كما تناولت السينما المصرية هذه الحادثة الدموية ففي فيلم العمر لحظة غنى كورال من الأطفال أغنية بحبك يا بلادي والتي تحدث عن ضحايا مدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة من التلاميذ الأبرياء والأغنية كلمات فؤاد حداد ولحن بليغ حمدي.
تقول كلمات الأغنية:
مدرستى .. بحر البقر الابتدائية
كراستى .. مكتوب عليها تاريخ اليوم ..
مكتوب على الكراس اسمى ..
سايل عليه عرقى ودمى ..
من الجراح اللى فى جسمى ..
ومن شفايف بتنادى ..
يا بلادى .. يا بلادى ..
أنا بحبك يا بلادى..
يا كل واحد فى الملايين..
بنت وولد طلوا وشوفوا..
درس النهاردة يا مصريين..
كتبت ع التختة حروفه..
أدى ال “أ”
وأدى الـ”ب”..
هاتوا القلم
نتك عليه..
فى ذاكرتكم لو جينا..
فى مدرستنا الجديدة..
وكل مدرسة قصرية..
يا بلادي.. يا بلادي..
أنا بحبك يا بلادى.
فيلم العمر لحظة قصة يوسف السباعي وسيناريو وجيه نجيب وحوار عطية محمد وإخراج محمد راضي وبطولة ماجدة وأحمد مظهر وناهد شريف ونبيلة عبيد ومحمد خيري وأحمد زكي وصلاح نظمي وشفيق جلال وحسن حسين وعلية عبد المنعم وحاتم ذو الفقار وموسيقى بليغ حمدي وصدر الفيلم في 3 سبتمبر عام 1978 ومدنه 113 دقيقة.
تعلمنا من التاريخ ومازلنا نتعلم مابقيت الحياة أن مصر لاتنسى أبدا الشهداء وتأخذ بثأرهم في التوقيت المناسب قصر أو طال الوقت وقد شرفت بمقابلة البطل صبري عطية أكثر من مرة بل وهو من أصدقائي الأعزاء رحمه الله والبطل صبري عطية أحمد من مواليد الثاني لشهر يونيو عام 1951 بمحافظة الشرقية وتم تجنيده بالقوات المسلحة في الثالث لشهر مايو عام 1971 وأطلق علي المقاتل الشرس وبطل من فولاذ وثعلب الصحراء وعندما صدرت الأوامر بعبور قناة السويس يوم السادس من أكتوبر 1973 / العاشر من رمضان 1393 هـجريا وصل مع رفاقه الأبطال إلى خط بارليف وسيطروا على الجزء المخطط وفي السابع من أكتوبر اندفع مع مجموعته خلف خطوط القوات الإسرائيلية وتم تدمير 5 دبابات إسرائيلية وأسر واحدة وصد الهجوم المضاد الذي قامت به القوات الإسرائيلية وفي الثامن من أكتوبر 1973 تمكن البطل صبري عطية من إسقاط طائرتين إسرائيليتين من طراز إسكاي هوك وأسر قائد السرب ضرب مدرسة بحر البقر الابتدائية في معارك الاستنزاف كما تم أسر مساعده وآمي حاييم قائدة إحدى الطائرات الإسرائيلية وفي الأسر اعترفت أنها شاركت في قصف مدرسة بحر البقر الابتدائية وأقرت بأن إسرائيل قصفت المدرسة عن عمد وكانت تعرف أنها تستهدف بقنابلها وصواريخها مدرسة ابتدائية.