إشكالية الوافد والموروث في الثقافة العربية
الحرية هي حرية العقل والقلب [1]
علمنا التاريخ أنه ليس ثمة حرية حقيقية لأولئك الذين يقاسون باستمرار مرارة الحاجة! ونظراً لوجود الكثيرين في ربوعنا الطيبة ممن تنقصهم ضروريات الحياة يفكر معظم اصحاب الرأي عندنا في الحرية باعتبارها رفعاً وتحسيناً لحظوظ هؤلاء الناس! بيد أننا معشر الأنسنيين نسمح لأنفسنا بمخالفة هذا الرأي!
إن رفع وتحسين حظوظ المحرومين في عالمنا العربي ـ إن هو حدث ـ لا ينسخ، ولا ينبغي له أن ينسخ، حقنا الاصيل في التمتع بحرية العقل والقلب، باعتبارها الضمانة الوحيدة لادامة انعتاقنا من الحيوات الذليلة التى تحياها شعوبنا منذ مئات السنين والتى لا تليق بصيغتنا البشرية ولا تفي بما أراده الخالق لنا.
لنتأمل مثلاً ما ترتب على استغلال الثروة النفطية على نطاق واسع فى بعض دول عالمنا العربي التى حبتها الطبيعة باحتياطيات نفطية ضخمة، سنجد أن العائدات المالية الكبيرة التي تدفقت ـ ولا تزال تتدفق ـ إلى خزائن تلك الدول النفطية لم تُسفر ـ ويا للخجل ـ سوى عن استحداث صنف جديد من الدول العربية، وهي دول عربية غنية ومتخلفة!! تتمتع شعوبها، ومن في معيتهم من مواطنينا، بأنماط معيشية مُفرطة في الرفاهة المادية، جعلتهم مضرب الأمثال في الاعتمادية والتكالب الاستهلاكي! وهو ما يعضد محاجتنا المُشار إليها تواً!
من هنا، قارئي الكريم، أراني قانعاً بأهمية تخصيص هذه المقالة لمناقشة إشكالية الوافد والموروث في ثقافتنا العربية الاسلامية [2]، وتقييم مدى كفاءة الخيارات المطروحة للتعاطي معها، وذلك ـ بالطبع ـ في ضوء رؤيتنا المُقترحة للفكر الأنسني، على امل تزخيم مُحاجتنا وكذا الاسهام في تفكيك الاشكالية..
الوافد والموروث..خياران أحلاهما مُر!
إن أسس البحث العلمي الحقيقي لا يمكن إرساؤها إلا على صخرة الحقيقة، ومن حسن حظنا ـ معشر العرب ـ انه رغم أن الحقيقة قد تُطمس من وقت لآخر، فانه لا يمكن ابداً اطفاء نورها! ولسوف، قارئي الكريم، أبدأ بحثي هذا بعرض وافٍ وموجز لإشكالية الوافد والموروث في ثقافتنا العربية الاسلامية!
في مؤلفه القيم "القوى العظمى: التغيرات الاقتصادية والصراع العسكري من 1500 إلى 2000"، وفي إطار تحليله لتطور النظام العالمي في العصور الحديثة، أكد بول كنيدي أن انسحاب الولايات المتحدة السريع من الالتزامات الخارجية بعد عام 1919، والتوجه الانعزالي الروسي تحت حكم البلاشفة، أفرز نظاماً عالمياً لا يرتبط بالواقع الاقتصادي الجوهري، بصورة غير مسبوقة.
فرغم ضعف قوة بريطانيا وفرنسا إلا أنهما كانتا في بؤرة المسرح السياسي! ولكن تعرضَ وضعهما في ثلاثينيات القرن العشرين لتحديات دول ناهضة عسكرياً كإيطاليا واليابان وألمانيا، حيث كانت الأخيرة عازمة على السعي الأكيد نحو فرض هيمنتها على أوروبا بصورة أكبر من سعيها عام 1914.
وفي الخلف ظلت الولايات المتحدة أكبر الدول الصناعية في العالم، وكانت روسيا الستالينية ـ نسبة إلى الزعيم ستالين ـ تتحول بسرعة إلى قوة صناعية عظمى. وبالتالي تَمثل مأزق الدول الناهضة عسكرياً في وجوب توسعها بأسرع وقت ممكن إذا شاءت ألا تخضع لمشيئة العملاقين القاريين (الولايات المتحدة الأمريكية & الاتحاد السوفيتي). في حين تمثلت ورطة القوى القائمة كفرنسا وبريطانيا في مواجهة تلك الدول الناهضة، وهو ما ينهك قواها بالضرورة.
وقد أكدت الحرب العالمية الثانية، بكل ما حملته من تغيرات، على هذه المفاهيم. فرغم الانتصارات المبكرة التي حققتها دول المحور إلا أنها في النهاية لم تنجح في مواجهة اضطراب الموارد الإنتاجية التي فاقت كثيراً مثيلاتها في الحرب العالمية الأولى، واستطاعت فقط تنحية فرنسا جانباً وإنهاك بريطانيا قبل أن تخبو هي نفسها أمام القوة الأكبر، لينفتح المجال أمام حلول الثنائية القطبية في العالم، حيث سار التوازن العسكري بحذى التوزيع العالمي للموارد الاقتصادية..
تواكب ميلاد النظام الدولي، المُشار تواً إلى أبرز ملامحه، مع ميلاد الاستعمار الأوروبي الحديث، حيث خرجت القوى الأوروبية تضرب في المجهول، وعادت مُحملة بثروات العوالم الأخرى، القديم منها والجديد. بيد أن السلوك الأوروبي لم يكن آنذاك خروجاً على المألوف، فقد انخرطت معظم القوى الدولية في سلوكيات مماثلة، تراوحت ما بين ممارسة الاستعمار أو مساندته أو على الأقل قبوله، لخدمته مصالحها أو لعدم تعارضه مع تلك المصالح..!
ولأن عالمنا العربي كان أحد العوالم التى وفد إليها الاستعمار الاوروبي، لم يلبث التفاعل بين الثقافة الأوروبية/الوافدة والثقافة العربية/الموروثة أن أفرز ثلاثة تيارات فكرية بارزة ومتباينة في فضائنا الثقافي، تفاوت حظ كل منها من حيث الغلبة والأتباع، من فترة إلى أخرى، ومن دولة عربية لأخرى، طوال حقبة الاستعمار الأوروبي لعالمنا العربي. والآتي رصد موجز لهذه التيارات [3]:
التيار الأول:
رفض أنصار هذا التيار الثقافة الغربية الغازية رفضاً قاطعاً وكاملاً، باعتبار أن الوسيلة المُثلى لمقاومة الاستعمار الأوروبي ورد الاعتبار العربي الجماعي، تتمثل في التمسك بالثقافة العربية الإسلامية/الموروثة. وأرجعوا حالة الضعف والتردي، التي مكنت الأوروبيين من اختراق العالم العربي، إلى التراخي في التمسك بأهداب تلك الثقافة. فإهمالها ـ طبقاً لهم ـ نتج عنه خسارة الدنيا!
وجاءت مرحلة المقاومة المبكرة للاختراق الغربي تجسيداً لرؤية أنصار هذا التيار، حيث برزت شخصيات قيادية من أمثال الأمير عبد القادر الجزائري، والأمير عبد الكريم الخطابي (في الريف المغربي)، ومحمد أحمد المهدي (في السودان)، وعمر المختار (في ليبيا). كما برزت شخصيات مماثلة في فترة أبكر (أوائل القرن التاسع عشر) في مصر، ممثلة في مشايخ الأزهر الذين قادوا ثورتي القاهرة ضد الحملة الفرنسية، وممثلة كذلك في الثورة العرابية التي قاومت الغزو البريطاني في أواخر القرن نفسه. ومهد اندحار هذه المقاومة، رغم البسالة الأسطورية لبعض قياداتها، الساحة العربية لقبول التيارين الآخرين.
التيار الثاني:
برغم رفضهم للاستعمار الغربي، تبنى أنصار هذا التيار رأياً مفاده ضرورة محاكاة الغرب، قلباً وقالباً، سواء لمقاومته أم للتصالح أو التحالف معه. انبهر أصحاب هذا التيار بتقدم الغرب وقوته وحيويته، مقارنة بتخلف الشرق وضعفه وجموده. ورأوا أن هذه الحالة الأخيرة للشرق مردها التمسك بثقافة موروثة عفا عليها الزمن، ولم تعد صالحة لمواكبة العصر. وأنه إذا كان للعرب أن تقوم لهم قائمة في الحاضر والمستقبل، فإن ذلك لن يتأتى إلا بالتخلص من سطوة الثقافة الموروثة، وكسر حالة الجمود التي تُشيعها في كل مؤسسات المجتمع العربي، والأخذ بدلاً منها بمحاكاة الغرب، في علمه وتكنولوجيته، وفى قيمه ومعاييره، وفى أساليب تنظيمه لشؤون الاجتماع والاقتصاد والسياسة. ومن خلال هذه المحاكاة فقط يصبح العالم العربي نداً للغرب يتعامل معه من موقع القوة!
لم تجد دعوة أنصار محاكاة الغرب في أي وقت شعبية واسعة في أي من الدول العربية، وإن وجدت لها دائماً متحدثين باسمها ومُروجين لمقولاتها. ومن هؤلاء من أخذ في دعوته وسلوكه بتقليد سطحي مظهري للغرب. ولعل الخديوي إسماعيل في مصر المثال الدرامي لذلك. ولكن منهم أيضاً من كان أكثر فهماً وعمقاً لما تنطوي عليه الحضارة الغربية، سواء في جانبها العلمي (مثل سلامة موسى)، أم في جانبها السياسي (مثل أحمد لطفي السيد)، أم في جانبها التعليمي (مثل طه حسين). واصطدم هذا التيار عادة في أذهان الناس بشبهة ممالأة الاستعمار الأوروبي سياسياً، حتى وإن كان الواقع الموضوعي غير ذلك.
التيار الثالث:
تراوح أنصار هذا التيار التوفيقي بين رفض الغرب ومحاكاته، حيث انتهجوا مذهباً انتقائياً في تعاملهم مع الثقافة العربية الإسلامية/الموروثة، كما في تعاملهم مع الغرب وحضارته. فليس كل التراث الثقافي العربي الإسلامي خيراً وبركة، وليس كل الغرب انحلالاً ومفسدة. فمن التراث ما هو صالح لكل زمان ومكان، ومنه ما تجاوزه الزمان وتخطاه المكان، ومنه كذلك ما يتسق مع ضرورات العصر وما يدعم الهوية الذاتية، وما يضمن الاستمرارية الجماعية للأمة، ومن ثم لابد من استبقائه وعدم المساس به. ومن الحضارة الغربية ما هو علم وتقنية وتنظيم ثبت بالدليل القاطع والمُعاش تفوقه على كل ما خلفه لنا التراث، وهذا ينبغي تعلمه والأخذ به لتتوافر لشعوبنا أسباب القوة والرخاء.
يُعد هذا التيار التوفيقي أكثر التيارات الثلاث حظاً في شعبيته وقيادته خلال فترة الاستعمار الاوروبي، في أعقاب اندحار المقاومة المبكرة للأوروبيين. وكأي تيار توفيقي، تفاوتت درجة جرعة الأصالة وجرعة المعاصرة فيما يطرحه من أفكار وممارسات. ومن أبرز رواد التوفيقية الأوائل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول في مصر، والشيخ عبد الحميد بن باديس في الجزائر، وعلي باش حانبه والشيخ عبد العزيز الثعالبي في تونس، والشيخ عبد الحميد الزهراوى وشكيب أرسلان في الشام. وظلت عناصر الصيغة التوفيقية على حالها طوال سنوات الحكم الاستعماري الأوروبي، سواء من حيث قدرتها على الموائمة بين الأصالة والمعاصرة، أو من حيث فعاليتها التعبوية لأبناء العالم العربي.
وعلى غرار الوضع إبان فترة الاستعمار الأوروبي، عجزت تيارات ما بعد الاستعمار الفكرية، عن التعاطي مع إشكالية الوافد والموروث، وعليه ظلت الإشكالية قائمة خلال فترة الاستقلال السلبي (الفترة منذ رحيل الاستعمار الاوروبي وحتى هذه اللحظة). فالفضاء الثقافي في ربوعنا لم يشهد، رغم الجهود الحثيثة لبعض المفكرين الموضوعيين، أي ابتكار لخيارات جديدة أمام الإنسان العربي!
وهنا في اعتقادي يكمن جوهر اشكالية الوافد والموروث في ثقافتنا العربية الاسلامية، فعجز الاجيال المتعاقبة ولسنوات طويلة عن الخروج من مأزق الخيارات المحدودة وغير الموائمة، إنما يأتي ـ من وجهة نظري ـ نتيجة منطقية لعدم التمكين لحرية العقل والقلب في ربوعنا الطيبة، لأنه لو كان العقل حراً، وكذا القلب، لكان يسيراً على الانسان العربي أن يُدرك خلاصه، عبر ابتكار خيارات جديدة أرحب وأكثر موائمة! ولسوف أعمد في الجزئية التالية من هذه المقالة إلى توضيح دواعي القول الأنسني بمحدودية وعدم موائمة الخيارات التقليدية المطروحة للتعاطي مع اشكالية الوافد والموروث في ثقافتنا العربية الاسلامية.
تفسير أنسني لفشل التعاطي مع الاشكالية:
قلت تواً إنه لو كان العقل حراً، وكذا القلب، لكان يسيراً على الانسان العربي أن يُدرك خلاصه! فقدر الإنسان ـ على ما يبدو ـ أن يُنفق عمره المحدود في الذود عن حرية عقله وقلبه في مواجهة صنف من البشر لا، ولن يطيب، له المقام في هذه الدنيا إلا إذا سلب إخوته ما أفاء الله به عليهم من حرية!
التاريخ الإنساني، منذ بداية الخلق وحتى لحظة كتابة هذه السطور، يعج بأحداث أراها تجسيداً عبقرياً لجدية الحياة، وهو ما دفع المنصفين من أصحاب الرأي للقول بأن الحياة يجب أن تُمارس بشجاعة! وإلا أصبح الإنسان ـ ذلك الكائن الذي كرمه الله ـ مطية لرفاق له في رحلة الحياة، يسومونه ما تتعفف الضواري عن اقترافه في الغابات! نعم..سمعنا عن حيوانات تفترس ضحاياها لتسد جوعها، بيد أننا أبداً لم نسمع عن حيوان يُمثل بفريسته أو يستعذب عذاباتها!!
الغريب حقاً هو أن عبقرية ضواري البشر ـ عبر التاريخ ـ لم يُصبها يوماً العطب! وحتى إن هي أصابها العطب في لحظات تاريخية بعينها فإنها لم تلبث أن استردت دهائها وأصبحت أكثر قوة وسطوة، الأمر الذي ساعد على ترسيخ قناعة خاطئة لدى الكثيرين ـ خصوصاً في المجتمعات التي طال عهدها بغياب الحريات ـ مفادها أن تخلي الانسان عن حرية عقله وقلبه أمر إلهي!
على أية حال، رؤيتنا المُقترحة للفكر الأنسني تتعاطى بموضوعية وواقعية مع التحدي المفروض على الإنسان خلال رحلة الحياة، غير أنها ـ وإن كان صاحبها مدفوعاً في بنائها برغبة في إيجاد مخرج لأبناء ثقافته العربية الإسلامية من أوضاعهم المأساوية والمُخجلة ـ تظل صالحة للأخذ بها أينما وُجد الانسان!
قدر الإنسان في كل زمان ومكان ـ وكما أسلفنا ـ، أن يزود بشرف عن حرية عقله وقلبه في مواجهة صنف بائس من البشر لا، ولن يطيب، له المقام في هذه الدنيا إلا إذا سلب رفاقه في طريق الحياة ما أفاء الله به عليهم من آلاء!
وفكرنا الأنسني، في تثمينه لهذا القدر، يذهب إلى القول بأن تطور التاريخ الإنساني إنما يُعد نتاجاً لصراع طويل ومرير بين إنسان (ذات) لا يملك سوى حرية عقله وقلبه التي وهبه الخالق إياها، ليستعين بها على ترويض الحياة، وبين (آخر) يُصر على الاستئثار بالحرية، ليتسنى له العبث بمقدرات رفاق الحياة [4]!
فـ (الآخر)، في كل زمان ومكان، عادة ما يعمد إلى آليات بعينها لتكريس تنازل أخيه (الذات) عن حقه في نقد وتطوير ثقافته، أي طريقة حياته الشاملة، ليظل هذا الأخ المسكين (الذات) تابعاً ذليلاً طيلة مقامه في ضيافة الحياة، يستهلك فقط ما يجود عليه به عقل (الآخر)، حتى أنه بمرور الزمن، يفقد هذا التابع الذليل تماماً قدرته على النقد والتطوير ويُصبح مسخاً عاجزاً، لا يملك سوى الانتظار!
الذات المحرومة من حقها في الاحتفاظ بحرية العقل والقلب، تعتبرها رؤيتنا المقترحة للفكر الأنسني ذاتاً مغتربة ثقافيا، لأنها بتخليها عن حقها في الاحتفاظ بحرية العقل والقلب تكون قد تخلت عن حقها في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إذ كيف لعقل الذات وقلبها أن ينقدا ويُطورا الثقافة، وهما أسرى في سجون الآخر؟!
نحن إذن أمام اغتراب ثقافي يُجرد ضحاياه (الذات) بوحشية من حريتهم، وكذا نحن أمام آخرية بغيضة تعمل على تكريس هذا الاغتراب المُذل للذات وتُوظفه لخدمة مصالح الآخر! أهمية رؤيتنا المُقترحة ـ إن جاز لنا وصفها بالمهمة ـ تنبع من مناهضتها للاغتراب الثقافي والآخرية البغيضة، وكذا حرصها على تبصير الذات المغتربة بخطورتهما، حقناً لأعمار يُراد لها أن تُهدر!
فهي ـ أقصد رؤيتنا المُقترحة ـ تتبنى معياراً علمياً وأخلاقياً في تمييزها بين الذات والآخر، يختلف بدوره عن المعيار العقيم المأخوذ به في مجتمعاتنا المتخلفة والقائل بأن الآخر هو حتماً وأبداً من لا ينتمي لثقافتنا العربية الإسلامية!
وقبل التطرق للمعيار الأنسني في التمييز بين الذات والآخر، أراني مُطالباً بتوضيح ما أعنيه بالفكر الأنسني (أو الأنسنية)! الأنسنية ـ في رأيي ـ لا تعني سوى أن يحقق الانسان، أي إنسان، بغض النظر عن الجنس أو اللون أو العرق أو الجنسية..إلخ، أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين لقول الأنسنية بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسباً لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوعها في إطار الخصائص العامة للأنسنية [5].
المعيار الأنسني المُقترح للتمييز بين الذات والآخر، يقول بأن الإنسان، أي إنسان، يُعد أنسنيا (ذاتا أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه. وكذا يُعد الإنسان ذاتاً حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتاً مغتربة ثقافيا..
أما الآخر، وطبقاً للمعيار نفسه، فهو كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية. ويتفق أن يكون الآخر محلياً (أي ينتمي لنفس ثقافة الذات) أو إقليمياً أو عالمياً، بل يحدث أيضاً أن يمتلك آخراً بعينه أكثر من صفة، وهو ما تُنبئنا القراءة المتأنية للتاريخ بحدوثة في فترات بعينها!
قارئي الكريم، أظنك الآن، لا أقول تؤيد، وإنما على الأقل يمكنك التعاطف مع زعم فكرنا الأنسني بمسئولية الآخر عن نشوء (راجع الجزئية الأخيرة من هذه المقالة) واستدامة اشكالية الوافد والموروث في ثقافتنا العربية، لأنه لم يكن لاشكالية كهذه أن تنشأ وأن تستمر لولا نجاح الآخر (خاصة العربي/المحلي) فى تكريس تخلي الذات العربية عن حقها الأصيل في تعهد ثقافتها بالنقد والتطوير.
إن تعهد الانسان لثقافته بالنقد والتطوير هو بحق الضمانة الحقيقية لعدم فقدان هذه الثقافة لثرائها، وكذا عدم فقدانها للقدرة على التعاطي مع تطور الحياة الذى هو سنة كونية. فأخطر ما يمكن أن يصيب ثقافة، هو اعتقاد أبنائها أنهم قد استطاعوا بناء ثقافة أو أنه قد بُنيت لهم ثقافة ستعيش مدى الدهر، دون حاجة للنقد والتطوير! ومن الضروري للإنسان ـ أيا كانت ثقافته أو حضارته التى ينتمى إليها ـ أن يُثمن عقله، وذلك بالتزام التواضع عند النظر إلى ثقافته تلك أو حضارته، سواء كانت من صنع يديه أو من صنع غيره، فهى بالضرورة ليست أبدية أو محصنة ضد النقد والتطوير. فطبقا للفيلسوف الألمانى أرنست كاسيرر، تظل ثقافتنا أو حضارتنا مجرد قشرة خارجية تحيط طبقات عتيقة ذات أغوار بعيدة، وعلينا أن نُعد أنفسنا على الدوام لمواجهة أية اهتزازات عنيفة قد تهز عالمنا الثقافى أو الحضارى، وقد تعرضه للانهيار!! أغلب الظن أن هذا هو حالنا اليوم!
والسؤال الذى يطرح نفسه الآن: ما أسباب إخفاق الخيارات التقليدية المطروحة في التعاطي الكفء مع اشكالية الوافد والموروث في ثقافتنا العربية!
إنها خيارات تُكرس، او على الأقل تُهادن، اغتراب الذات العربية، ومن ثم فانها تزيد من تعقد اشكالية الوافد والموروث في الثقافة العربية الاسلامية بدلاً من أن تساعد على تفكيكها والانتهاء منها! لننظر معاً إلى الخيارين الأول والثاني المُشار إليهما سلفاً، أقصد تيار التمسك بالموروث الجامد وعدم المساس به وتيار التمسك بمحاكاة الوافد الحداثي وعدم المساس به! سنجد أن الانسان العربي لو أخذ بالخيار الأول فإنه يظل حتماً على اغترابه، لأنه سيتبنى طريقة حياة لم يشارك في صُنعها ولا يملك الجرأة على نقدها وتطويرها، فهي صناعة سلف صالح!
وكذا يظل الانسان العربي على اغترابه إن هو أخذ بالخيار الثاني، أعنى محاكاة الوافد الحداثي! صحيح أن الثقافة الوافدة حداثية، بل غالباً تكون ما بعد حداثية، ولكن ما الفائدة والمستهلك العربي لم يشارك في صنعها ولا قِبل له بنقدها وتطويرها، إذ أن أقصى ما يملكه العربي إزائها هو فهمها والتشدق بمفرداتها!
وحتى الخيار الثالث التوفيقي والذى عادة ما يُنظر لانصاره باجلال واحترام، ويُذكر اسمه دوماً مقروناً بصفات الاعتدال والموضوعية، تظل الذات العربية إن هي أخذت به على اغترابها! وكيف لا؟ وكل ما يطمح إليه أنصار هذا التيار هو اجادة الانتقاء من الموروث الجامد والوافد الحداثي، ناسين أن الخلق والابتكار أكثر روعة وقيمة من الانتقاء والانتخاب، مهما أجاد المُنتقي وأبدع!
الحق أقول اننا بحاجة لخيارات جديدة..رئات تتنفس من خلالها ثقافتنا العربية الاسلامية، بعد أن صارت ـ وياللأسى ـ قاب قوسين أو أدنى من الاختناق والتعفن! الكل مثلاً في ربوعنا يلاحظ ظاهرة خطيرة ومؤرقة وهي جمع الكثير من ابناء ثقافتنا العربية الاسلامية بين نقيضين، يُفترض ألا يجتمعا في إنسان طبيعي، أو حتى إن حدث واجتمعا ألا يكونا بمثل هذا الوضوح الصارخ. أقصد جمع الكثيرين بين الالتزام الصارم بالشعائر والطقوس المقدسة ـ والذي يصل أحياناً إلى حد الهوس ـ، وبين الانفلات الأخلاقي والتجرؤ على الفضيلة!
هل يقدر أحد التيارات المطروحة للتعاطي مع اشكالية الوافد والموروث في ثقافتنا العربية على توفير فضاء ثقافي، تُدرس فيه مثل هذه الظاهرة الخطيرة والمؤرقة بأسلوب علمي حقيقي، دون أن يفزع البسطاء ويبكون القداسة المُنتهكة!
إن أياً من الخيارات المطروحة للتعاطي مع اشكالية الوافد والموروث، وفي مقدمتها الخيار التوفيقي أو التلفيقي، لا يُناهض الآخرية العربية/المحلية أو الاغتراب الثقافي للذات العربية! وذلك برأيي لأخذ هذه التيارات جميعها، على تباينها، بالمعيار التقليدي في التمييز بين الذات والآخر، أو على الأقل مُهادنتها لهذا المعيار العقيم! لننظر مثلاً إلى كتابات أنصار أكثر هذه التيارات ولعاً بالحداثة، وهو التيار الداعي لمحاكاة الغرب، سنجد أنها تعتبر آخراً كل من لا ينتمي لثقافتنا العربية الاسلامية، وهو برأيي ما سيظل يُفشل دائماً جهود هذا التيار وغيره في التعاطي الكفء مع اشكالية الوافد والموروث، رغم جدية بعض هذه الجهود!
الحلول التقليدية لم تنجح إذن في التعاطي مع اشكالية الوافد والموروث، وأظنها تزداد اخفاقاً بمرور الزمن، فالاغتراب الثقافي يزداد تغلغلاً في الذات العربية ويزيدها عجزاً على عجز، والآخر، خاصة العربي، يزداد شراسة!
وإذا نحن دققنا النظر في التعاطي العربي مع إشكالية الوافد والموروث إبان حقبتي الاستعمار الأوروبي والاستقلال السلبي، سنجد أن الاشكالية تزداد تفاقماً من حقبة لأخرى! ولذلك أسباب منطقية بطبيعة الحال، سأحاول عرضها في إيجاز.
بخروج الآخر الغربي/العالمي من عالمنا العربي، بعد استعمار دام لعقود طويلة، توقع الكثيرون أن تأخذ ربوعنا طريقها الطبيعى نحو التطور! لكن، يبدو أن ثأراً قديماً ظلت نيرانه تتأجج فى قلب الآخر الغربي/العالمي، ويبدو كذلك أن مخاوفاً قديمة ظلت تؤرق الآخر نفسه! أما الثأر فدافعه الغزو العربي للغرب، ذلك الذى أجج الآخر العربي يوماً نيرانه وسماه فتحاً مبيناً! فى حين أنه لم يكن سوى توسع مألوف من دولة فتية ناهضة! خطيئة الآخر العربي أن غلفه برقائق دينية!
أما المخاوف المستعرة فى صدر الآخر الغربي/العالمي فمصدرها الخشية من نهوض دولة فتية فى ربوعنا العربية، تُعيد إخراج بلاده من التاريخ [6]!
مزاعم غربية لا تخلو من وجاهة! يجيد الآخر الغربي/العالمي توظيفها لتبرير سياسته اللاإنسانية تجاه عالمنا العربي، ويحظى بفضلها بدعم واضح من الذات الغربية، رغم صيحات الادانة التى تُطلقها تلك الذات بين الحين والآخر على استحياء، احتجاجاً على نهج الآخر الغربي/العالمى تجاه ربوعنا الطيبة..
الآخر الغربي/العالمي أعد الشرك، وهو إبقاء الجماهير العربية فى إغتراب ثقافي، تُحرم بموجبه من الحق فى نقد ثقافتها وتطويرها! الآخر الغربي/العالمي إذن فى مأزق، لأن إضطلاعه المباشر بدفع الذات العربية نحو الشرك، غير مأمون العواقب، فالذات العربية، على سذاجتها، لابد وأن تتنبه إلى ما يُراد بها!
لم تلبث العبقرية الغربية الآثمة أن وجدت الحل السحري [7]! آخر عربي/محلى، ينتمى لنفس ثقافة الذات العربية، يتولى مهمة دفعها نحو الشرك، دون أن تتنبه له الذات، وكيف تفعل؟! وهو يشاركها الملامح الجسدية، ويشاركها عاداتها وتقاليدها، وأفراحها وأتراحها، والأهم من ذلك يشاركها عقيدتها الدينية!
بالفعل نجحت الخدعة، على سذاجتها، وساعد على نجاحها أمور عديدة، منها أن الآخر العربي كان موجوداً إبان قوة الدولة العربية، إذ كانت الدولة قوية بينما كان الانسان العربي مغترباً، وهو ما ساعد بالتأكيد على التعجيل بإنهيارها!
المهم، لم تجد الذات العربية غضاضة فى احتكار الآخر العربي/المحلى لحق نقد الثقافة العربية الإسلامية وتطويرها! وفى اعتقادي أن الخدعة كان لها ألا تنكشف لو أن الآخر العربي/المحلى مارس قدراً من النقد والتطوير الأنسنيين لثقافتنا! لكن الذي حصل، ولا يزال يحصل، هو أن هذا الآخر وظف إمكانياته الفكرية، وبعضها عبقري، فى تكريس تواطؤه المشين مع الآخر الغربي/العالمي!
ذلك ـ على الأرجح ـ هو التفسير العلمي لتفاقم اشكالية الوافد والموروث في ثقافتنا العربية ابان حقبة الاستقلال السلبي عنها في ظل الاستعمار الأوروبي. وليس لثقافتنا العربية الاسلامية أن تطمح إلى تجنب التدهور في قدرتها على التعاطي مع الواقع، وفريق من أبنائها يستأثر بامتياز نقدها وتطويرها، بل ويعمل جاهداً على تكريس تخلف بقية أبناء ثقافته، لتظل مصالحه وامتيازاته في مأمن!
ما العمل والإشكالية تزداد تفاقماً؟
على خلاف الحال مع الحضارة الغربية، يظل التساؤل قائماً حول مكانة الفكر الأنسني في الحضارة الاسلامية عموماً، وفي الثقافة العربية الاسلامية على وجه الخصوص! فالدراسات البارزة في هذا الصدد ضئيلة! وعلة ذلك ـ في رأيي ـ نجاح الآخر، خاصة العربي/المحلي، في تكريس اغتراب الذات العربية ثقافياً واستعدائها على محبي الحقيقة، وأعني بهم الفلاسفة، ليُبقيها كهفاً مظلماً!
فقد اعتاد الآخر، خاصة العربي/المحلي، أن يُلقي في روع الذات العربية أن الفلسفة درب من الغواية والضلال، وأن الاشتغال بها خطيئة وإثم عظيم! اعتاد الآخر أن يفعل هذا، بدأب، رغم إدراكه لقيمة الفلسفة كأحد أبرز وأهم السبل المتاحة أمام الانسان لنشدان الحقيقة، تلك التى يستحيل إدراكها على وجه اليقين!
وللأسف، وجد الآخر العربي/المحلي ـ ولا يزال يجد ـ في مساعيه المحمومة لتحريم الفلسفة وتأثيم الاشتغال بها دعماً آثما من محترفي التبرير الديني، الذين لم ولن يتورعوا عن التضحية بالذات ومصلحتها على مذبح الآخر!
قارئي الكريم، المحاولات الجادة للإجابة على التساؤل الحائر حول مكانة الفكر الأنسني في الحضارة الاسلامية عموماً، وفي الثقافة العربية الاسلامية على وجه الخصوص، تتراوح في مُجملها بين نفي قاطع لوجود الأنسنية في الشرق عموما ـ كما عند كارل هينرش بِكر الذي قال بأن الأنسنية هي التجربة الحية الحاسمة الكبرى بالنسبة إلى الغرب [8]، ومن ثم استبعد وجودها في الشرق ـ وبين إثبات جورج مقدسي القاطع لهذا الوجود في الحضارة العربية الإسلامية الكلاسيكية، وكذلك قوله بأن المسيحية وجدت في الإسلام الكلاسيكي حضارة أكثر تقدماً في القوة العسكرية والاقتصادية والفكرية، واكتشفت بعد دراسة مستفيضة عناصر الميراث التاريخي لتلك الحضارة الإسلامية، وهو ما أيقظ داخل المسيحية إدراكها لميراثها الكلاسيكي، أو بكلمات أخرى أيقظ داخلها النشورية أو الأنسنية [9].
وعلى خلاف بِكر ومقدسي، سعى عبد الرحمن بدوي ومحمد أركون، لتحديد دقيق نسبيا لما اتفقا على كونه أنسنية شهدتها الحضارة العربية الإسلامية.
ذهب عبد الرحمن بدوي إلى القول بأن الأنسنية في الفكر العربي الإسلامي لم تكن من شأن نفر من المتوحدين الشواذ الذين كانوا يحيون منعزلين في البيئة الفكرية العربية، بل كانت تتمثل في أوساط كاملة تابعت الحركة بكل حماسة. وذهب بدوي أيضاً إلى القول بإمكانية تحديد تاريخ علو الأنسنية في الثقافة العربية الإسلامية بالمدة من بداية القرن الرابع الهجري حتى نهاية القرن السابع تقريبا [10]. وهو الرأي الذي اختلف معه محمد أركون، فرغم اتفاق أركون مع بدوي في القول بوجود الأنسنية في الحضارة الإسلامية في فترة زمنية بعينها، اختفت بعدها بسبب عوامل داخلية وخارجية، مادية ومعنوية، نرى أركون وقد اختلف مع بدوي فيما يتعلق بتحديد هذه الفترة، إذ قال أركون بأن الأنسنية كانت موجودة بين القرنين الثاني الهجري وحتى القرن الخامس في الحضارة العربية الإسلامية الكلاسيكية، ثم اضمحلت بعد ذلك واختفت بعد دخول تلك الحضارة في عصور التكرار والاجترار، أو ما يُدعى بعصر الانحطاط. إضافة إلى قول أركون بتزامن اختفاء الأنسنية مع موت الفلسفة في المشرق أولا، ثم في المغرب والأندلس ثانيا [11]!
وهكذا، أيها القاريء الكريم، واستنادا للدراسات القائلة بمعرفة الحضارة العربية الإسلامية للفكر الأنسني، واستنادا أيضاً للرأي القائل بأن الأنسنية لم تتبلور في أوروبا إلا في عصر النهضة، يذهب البعض إلى القول بشهود الحضارة الإسلامية للأنسنية قبل أوروبا، وهو ما أنكره تماماً، لقناعتي بأنه لم يعد مقبولاً اليوم أن تُنسب الأنسنية لأبناء حضارة بعينها دون بقية الحضارات، كما يحلو للكثيرين أن يفعلوا! فهذا ـ وبحسب بحوثي العديدة في الفكر الأنسني ـ من قصر النظر التاريخي أو خداع المنظور أو من عدم الفهم للمدلول الحقيقي للأنسنية، أو أخيراً لعدم التنبه إلى الدور الحيوي المنوط بالفكر الأنسني أن ينهض به في رحلة الحياة. فالأنسنية هي الاقرار بحق كل إنسان في حب الحقيقة ونشدانها، وهو ما يعني عدم منطقية، بل سخف، الزعم بأن حضارة بعينها يمكن أن تخلو منها!
قارئي الكريم، أراني قانعاً أنه لو كان قُدر للفكر الأنسني أن يتبوأ المكانة اللائقة به في تاريخنا الثقافي، ولو أن انصار هذ الفكر لم يُضطهدوا ولم تُحرق كتبهم، لكانت ثقافتنا العربية أخذت مسارها الطبيعي في النمو والتطور، ولكنا اليوم نسير جنباً إلى جنب مع بقية أمم الأرض، بدلاً من أن نرفل ـ كما نحن اليوم ـ، وإلى أجل غير مسمى، في غلائل وضع مُهين وشاذ! نقتني بمقتضاه تراثاً جامداً، لا نجرؤ ولا نملك القدرة على نقده وتطويره، ومن ثم نستعين على الحاضر بوافد حداثي، لا يقل الأخذ به ضرراً عن الأخذ بتراثنا المتحجر! في الحالتين، نزداد اغتراباً وتتقلص قدرتنا على التعاطي مع اشكالية الوافد والموروث في ثقافتنا!
ما العمل إذن؟..الحل في رأيي هو أن نعمد لتحقيق الحلم الذى لطالما راود أنصار الحرية عبر تاريخنا المُظلم، وأعني بأنصار الحرية أولئك الشهداء الذين أحبوا الحقيقة وأصروا على المضي قُدماً في نشدانها، فدفعوا أرواحهم الطاهرة ثمناً لزودهم الأسطوري عن حرية عقولهم وقلوبهم! رحم الله شهداء الحرية!
صحيح أن الآخر العربي/المحلي نجح في تشويه هؤلاء الشهداء الأبرار في عيون إخوانهم، وصيرهم نموذج ردع لكل من تسول له نفسه مناهضة الاغتراب الثقافي للذات أو المساس بالآخرية! بيد أن تأسيس مدرسة أنسنية في الفكر العربي، إن هو حصل، أظنه قادراً على إعادة الاعتبار والسكينة لأروح هؤلاء الأحرار! وكيف لا، وهم سيصبحون منارات نهتدي بنورها في رحلتنا الشاقة لاعادة بناء الذات العربية، بعد أن أنفق الآخر الآثم قروناً في هدمها، حتى أنه صيرها مسخاً!
الآخر العربي لن يتوانى حتماً عن السعي لاجهاض حلمنا! غير أن الطريف هو أنه سيفعل ذلك في وقت تبذل فيه نسخه المختلفة في ربوعنا الساذجة جهوداً محمومة لتعبئة وحشد الجماهير خلف ما يُطلق عليه "حلم الوصول لكأس العالم"!
نسخ الآخر العربي إن هي ناهضت حلمنا، وهي لابد فاعلة، في وقت تساند فيه، على نحو أسطوري، حلم تافه كحلم الترقي في لعبة كرة القدم، ستكشف عن تعمدها القبيح والآثم مناهضة حلم عظيم كحلمنا بتأسيس مدرسة أنسنية في الفكر العربي، تأخذ على عاتقها تهيئة الأجواء الموائمة لاعادة بناء الانسان العربي!
قارئي الكريم، في ختام هذه المقالة، والتى أظنها طالت بعض الشيء، أستأذنك في استباق ما أتصوره تشويهاً ستعمد نسخ الآخر العربي المعاصرة، إلى إلحاقه بالفكر الأنسني، لتبرير مناهضتها المُغرضة لفكرة تأسيس مدرسة أنسنية في الفكر العربي! وذلك عبر توضيح مسألتين أراهما من الأهمية بمكان:
• المسألة الأولى هي التثمين الأنسني لجوهر الأديان:
في مقالة لي بعنوان "التثمين الأنسني لجوهر الأديان"، قمت ـ كالعادة ـ بنشرها على شبكة الانترنت، تصديت لمناقشة هذه المسألة بشيء من التفصيل، لاقتناعي بان الآخر العربي/المحلي لا ولن يمل المُزايدة على الأديان كعادته دائماً وأبداً! وكيف يفعل، والمُزايدة على الأديان لم تخذله يوماً، طيلة تاريخنا المُظلم؟!
المهم، انتهيت في مقالتي المُشار إليها تواً والتى أوصي قارئي بالرجوع إليها، إلى أنه ليس ثمة تعارض بين الدين والفلسفة، كطريقين أمام الانسان لنشدان الحقيقة، إذ أن أقصى ما يطمح إليه الإنسان إزاء الحقيقة ـ كما ذكرت في كتابات سابقة وكما سأذكر دائما ـ هو الوثوق بما يفضي إليه به عقله وقلبه في نُشدانها، إذ أن للقلب مبرراته التى لايعلم عنها العقل شيئا، والعكس صحيح أيضاً!
أجل، ليس ثمة تعارض بين الدين والفلسفة، وذلك لسببين: أولاً: يحدث في أحايين كثيرة أن يصل سالكو الطريقين، الدين والفلسفة، إلى النتيجة نفسها! خذ مثلا الفيلسوف الشهير هيجل، وقوله إن الله هو الحقيقة، وهو الماهية ذات القوة المطلقة. وكذا قوله إن الله يكشف عن نفسه فى العالم، وانه فى هذا العالم لا ينكشف شيء سواه. ألا يلتقى الفيلسوف هيجل بأقواله تلك مع ما نتفق جميعاً على كونه جوهر الأديان ـ على تعددها وتباينها ـ وهو معرفة الإله؟! ثم ألا يقوم هذا الالتقاء دليلاً على إمكانية التلاقح البناء بين الطريقين وأنصارهما؟!
ثانياً: الإنسان ـ وكما تُعلمنا الحياة ـ حيل بينه وبين المعرفة اليقينية للحقيقة بحجاب كثيف وصلد ليس يمزقه ـ على الأرجح ـ سوى الموت! وأقصى ما يطمح إليه الإنسان، ذلك الكائن المُطالب دوماً وأبداً بنشدان الحقيقة، لا إدراكها، هو الوثوق بما يُفضي إليه به عقله وقلبه، ومن ثم فلا مجال في رأيي للصدام بين الدين والفلسفة، بدعوى معرفة أنصار أحدهما للحقيقة على وجه اليقين!!
في تفسيرها لدواعي تأجج العداء بين أنصار الدين وأنصار الفلسفة، في مجتمعاتنا العربية، ذهبت المقالة إلى أن الآخر العربي/المحلي هو من يحرص على هذا التأجيج المستمر لنيران العداء، بين أنصار الدين وأنصار الفلسفة، لأنه بدون هذا العداء، يتهدد رسوخ الثقافة الدينية ـ التي يُنتجها هذا الآخر العربي ويُلقنها للذات المغتربة عبر أذنابه من محترفي التبرير الديني ـ، ومن ثم تتهدد مصالح الآخر وتنكشف ممارساته غير المشروعة! والأخطر من ذلك هو أن توقف الذات العربية عن معاداة الفلسفة ينال بالضرورة من قدرة الآخر العربي على تكريس اغترابها الثقافي، إذ كيف سيتسنى له المضى قدما فى الترويج لثقافة دينيه، يُنتجها لتخدم مصالحه وممارساته على حساب مصلحة الذات، في ظل استبدال الذات العقل الفلسفي بعقلها اللاهوتى/الفقهي، وقهرها لاغترابها الثقافي، علاوة على استعادتها لحقها المشروع والأصيل في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة..
في النهاية، خلصت المقالة إلى أن استخدام مصابيح الأنسنية في إنارة المناطق المظلمة فى الثقافات الدينية ـ والمقصود بها هنا جوهر الأديان ـ يزيد من قدرة الذات المستضعفة، فى شتى أنحاء العالم، وبصفة خاصة فى عالمنا العربي، على التحرر من نير الاغتراب الثقافي الذى يُثقل الآخر الآثم كاهلها به، فنراها يوماً وقد رفضت احتكار هذا الآخر الآثم انتاج ثقافتها الدينية، عبر تعهدها هذه الثقافة بالنقد والتطوير، مستفيدة فى ذلك بالثروة العقلية التى وُهبت إياها..
وكاتب هذه السطور واثق ـ كل الثقة ـ انه في ظل مناخ كهذا يصبح ممكناً تفكيك، بل محو، إشكالية الوافد والموروث في ثقافتنا العربية الاسلامية.
• المسألة الثانية هي التصاق الفكر الأنسني بالإنسان:
دَأبْ الآخر الآثم، في كل زمان ومكان، ألا يدع سلاحاً، مهما كان مُهترئاً، إلا ويستخدمه في مناهضة ما يتصوره تهديداً لمكاسبه وامتيازاته! والفكر الأنسني بطبيعة الحال لن يحافظ للآخر على امتيازاته الهائلة، وإن اعترف له بما يستره!
ولعل أكثر الأسلحة المهترئة التى يمكن أن يلجأ الآخر العربي/المحلي إلى اشهارها في وجه الفكر الأنسني وأنصاره هو نعته إياهم بـ "الوافدين الغزاة"، غير أن الآخر الآثم إن هو فعل هذا، وهو لامحالة فاعل، سيكون مُصراً على الاستهانة والاستهزاء بعقول طال ـ للأسف الشديد ـ رقادها في محبسها!
على أية حال، سأدفع عنا معشر الأنسنيين وعن فكرنا الأنسني هذا الاتهام الظالم والجائر، عبر اتياني ما أتصوره حُججاً داحضة، لا يُنكرها إلا مُغرض!
صحيح أن ثقافتنا العربية الاسلامية، تدين بقوة في نشأتها إلى الدين الاسلامي، فهو الذى أكسب أبناء هذه الثقافة هويتهم وساهم بقوة في صياغة طريقة حياتهم! وصحيح أيضاً أن ثقافتنا العربية الاسلامية، وعلى خلاف ثقافات أخرى كالثقافات الأوروبية، ليس لها ظهير فلسفي، بمعنى أن أبناء هذه الثقافة لم يمروا بتجربة "النقاء الفلسفي"، فالشعوب العربية قبل الاسلام لم تعرف التفلسف!
كل هذه الأمور صحيحة، ولا مجال لانكارها، بيد أنها لا تنال، ولا ينبغي لها أن تنال، من حق الانسان العربي في الاشتغال بالفلسفة بوصفها، إلى جانب الدين، أحد أهم وأبرز طرق نُشدان الحقيقة! وذلك لدواع عديدة، الآتي أهمها:
أولاً: الفكر الأنسني، وعلى خلاف العديد من الفلسفات الأخرى، يرتبط بالإنسان ويراه أعلى قيمة في الوجود، ومن ثم فهو يوجد أينما وُجد الإنسان، حتى وإن حالت ظروف بعينها بين الإنسان وبين إدراك هذا الفكر! وأراني قانعاً أن المقولات الأنسنية في أبسط صورها لابد وأنها جالت في صدر الإنسان البدائي!
ثانياً: في غيبة التفلسف وفي ظل احجام أبناء ثقافتنا عن الاشتغال بنشدان الحقيقة، قُضي على الانسان العربي التيه في ظلمات الجهل والتخلف! إذ لم يجد الآخر العربي/المحلي صعوبة تُذكر في السطو على الدين، فوجدناه يحتكر لنفسه، ولمئات السنين، حق انتاج الثقافة الدينية، بل وراح في جرأة يتمترس وراءها لحماية مكاسبه الضخمة وامتيازاته الهائلة، على نحو مؤلم ومُستفز! غير عابيء بضحاياه الذين نجح في تكريس اغترابهم، وألقى في روعهم أنهم بتنازلهم عن حرية عقولهم وقلوبهم ووضعها عند قدميه، يتقربون إلى الله ويشترون الجنة!
ثالثاً: التراث الفلسفي العالمي ليس ملكاً لأبناء حضارة بعينها، فهو ملك لنا جميعاً معشر البشر، في كل زمان ومكان! بديهية غائبة، لعل أروع من نبه إليها هو الفيلسوف كارل ياسبرز [12]، حين قال إن واجب الانسان، وأياً كانت الثقافة أو الحضارة التى ينتمي إليها، هو أن يتعلم من "الموقظين الكبار أو الفلاسفة العظام" في كل العصور والحضارات، لأنه ـ وبحسب رأي ياسبرز ـ لما كانت الصياغة الواعية لحقيقة التفلسف وهدفه لاتكتمل أبداً في صورة نهائية، يمكن الاجماع عليها (كما هو الشأن مع الحقائق العلمية التي تظل مُلزمة للعقل وعامة الصدق مالم تظهر أخرى تُعدِلها أو تنسخها) فلابد لكل منا أن يضطلع بها مرة أخرى، وأن يعدها مهمة ومسئولية يتعين عليه أن يواجهها ويتحمل تبعاتها ما بقي إنساناً!
رابعاً: إننا معشر العرب في أمس الحاجة لاقناع طائر الفلسفة المهاجر أن يحط رحاله في ربوعنا الطبيعة، بعد غيبة طويلة، لنستقوي به على اغترابنا الثقافي والآخرية البغيضة، ولنشهد زوال الإشكاليات الثقافية المعقدة والمتفاقمة، كتلك الخاصة بالوافد والموروث! قيمة الفلسفة وعظمتها، أيها القاريء الكريم، تكمن في انطواء الفلسفات جميعاً على فلسفة واحدة خالدة لا يملكها أي إنسان وإنما تتجه إليها الجهود الجادة في كل زمان، وفي الشرق والغرب، على السواء! كما أن عظمة الفلاسفة، تكمن في ادراكهم لكون الأقوال الفلسفية بطبيعتها ناقصة إلى أبعد حد، لأنهم يطالبون من يسمعهم بأن يعمل على إكمال أقوالهم من وجوده الخاص!
صفوة القول، انه لا غنى لنا نحن أبناء الثقافة العربية الاسلامية عن بناء صرحنا الفلسفي، لنثمن به وجودنا الانساني، ونؤكد لاخوتنا في شتى أنحاء العالم، جدارة عقولنا وقلوبنا بالحرية، وقدرتنا على التفلسف والاشتغال بطلب الحقيقة!