إشكال المصطلح في القصص الشعبي
مثلما هو الحال في معظم الحقول البحثية والنقدية العربية، لم تسلم الدراسات الأدبية الشعبية في العالم العربي أيضا، من ظاهرة التشويش السلبي في تداول المصطلحات الواصفة لمختلف أنواع السرد الشعبي، حيث يجد الباحث في هذا المجال نفسه في مواجهة ما يشبه فوضى المصطلح، بسبب ما يلقاه من بلبلة واضطراب في توظيفه لدى معظم الباحثين العرب في الأدب الشعبي. وها هي بعض مظاهر ذلك:
مظاهر الاضطراب:
- اختزال كل الأنواع القصصية الشعبية جميعا في مصطلح واحد هو (الحكاية الشعبية) أو (القصص الشعبي)، دونما تمييز لبعضها عن بعض.
- استعمال مصطلحات (الحكايات) (الحكاية الشعبية) (القصص الشعبي) (القصص الشعبية) (القصة الشعبية) (الأساطير) (الأسطورة) و(الخرافة) ، للدلالة على السرد الشعبي عامة.
- إطلاق مصطلحات (الحكاية الخرافية) (الحكاية الخارقة) (حكاية الخوارق) (الخارقة) (حكاية الجان الخارقة) (حكاية الجان) (حكايات السحر) (الحكاية العجيبة) (القصة العجيبة) (القصة الخرافية) (القصص الخرافي) (الخرافة) (خرافات الجنيات) (حكايات خرافية) (الحكاية الخرافية الشعبية) (الحكاية الشعبية) (حكاية العفاريت) (الحكاية الفولكلورية)؛ على نوع قصص شعبي واحد عينه هو (الحكاية العجيبة).
- تداول مصطلحات (حكايات الواقع الاجتماعي) (الحكاية الاجتماعية) (حكايات الحياة اليومية) (حكايات الحياة المعاشة) (الأسطورة الاجتماعية) (الحـكـاية الواقعية) (القصص الشعبي الواقعي) (الحكاية الشعبية)؛ للدلالة على نوع سردي شعبي آخر هو (الحكاية الشعبية) باعتبارها نوعا مخصوصا مثل غيره من الأنواع الأخرى.
- تخصيص مصطلحات (القصص الخرافي) (الخرافة) (حكايات الحيوان الخرافية) (خرافات الحيوان) (المثل الخرافي) (حكايات الحيوان) (حكايات الحيوانات) (حكاية الحيوان) (حكايات حول الحيوان) (القصص الحيواني) (المثل) (المثل الحيواني) (فابولات الحيوان) (أساطير الأطفال) ؛ بنوع قصصي شعبي مختلف عن سابقيه هو ما عرف في تراثنا العربي ب (الخرافة).
- نعت (الحكاية المرحة) بمصطلحات (النادرة) (الحكايات الهزلية) (الخرافات الهزلية) (القصص الفكاهية) (الحكاية المرحة).
وحبذا لو التزم هؤلاء الباحثون مصطلحات سردية شعبية معينة مما عرضناه ، وتداولوها وحدها بعيدا عن التعدد والخلط ، إذن لكان الأمر أهون . لكن ما حصل هو أنهم يستعملون مصطلحا هنا ومصطلحا هناك وآخر هنالك ، وهم يقصدون نوعا قصصيا شعبيا واحدا، الأمر الذي ضاعف من بلبلة المصطلحات القصصية الشعبية عندنا.
ولنستشهد بالحالتين الدالتين المواليتين:
الحالة الأولى: تختلط المصطلحات المخصوصة بـ (الحكاية العجيبة)، على د. عبد الملك مرتاض ، فيضطرب بين مصطلحات (الحكـأيـة الخرافية) و(الحكاية الخارقة) و(حكايات الخوارق) و(الخارقة)، على الوجه الذي توضحه هذه الفقرة :
«ولعل أشهر هذه المناهج الخاصة بدراسة الحكاية الخرافية ∗ إطلاقا ، منهج العالم الفولكلوري الروسي فلاديمير بروب المعروف بالمنهج المورفولوجي.
وهذا المنهج يقوم على اعتبار العناصر الثابتة والدائمة في الحكاية الخرافية إنما هي في الحقيقة وظائف الشخصيات ذاتها، كيفما كانت هذه الشخصيات داخل الحكاية الخارقة، وكيفما كانت الكيفية التي يتم بمقتضاها القيام بهذه الوظائف. وفلاديمير يرى أن الوظائف هي الأجزاء المشكلة أساسا لحكاية الخوارق. والعناصر الثابتة المشكلة للخرافة تبلغ عنده زهاء خمسين ومائة عنصر. وقد اهتدى إلى هذا العدد بناء على دراسة أقامها على مجموعة من النصوص الحكائية الروسية. أما عدد الوظائف التي تطرد في جميع الحكايات الخرافية جملة، حسب رأيه، لا تتجاوز إحدى وثلاثين وظيفة» [1]
والأمر نفسه يحدث له بالنسبة لنمط قصصي شعبي ثان ، حيث يطلق عليه (حكايات حول الحيوان) و (حكايات الحيوان). ثم يعود فيسميه (خـرافات الحيوان) [2].
ويقع في الارتباك ذاته ، عندما يستعمل في حق (النادرة) مصطلحي (الحكايات الهزلية) و(الخرافات الهزلية) [3] .
الحالة الثانية: يقع نمر سرحان ، في اضطراب بيّن، حين يسمي (الحكاية العجيبة) تسمية تتعلق بجزء واحد منها فقط، نقصد (حكاية الخوارق)، وفق ما يبدو من تعريفه للحكاية العجيبة بقوله :
«نعني بحكايات الخوارق تلك الحكايات التي تتضمن جزئيات ذات مضمون خارق للعادة . ومثل ذلك تلك الجزئية المتكررة في الكثير من حكايات الخوارق عن قدرة الغول على حمل الإنسان، آمادا بعيدة قبل أن يرتد إليه بصره أو في غمضة عين.» [4] .
لكنه يعود فيفرعها إلى أنواع ذات مصطلحات خاصة : (حكاية الغيلان) (حكاية الجن)، (حكايات السحر). وينسى أن الغول ومعه عنصرا الجن والسحر، ما هي إلا عناصر خارقة في الحكاية العجيبة. والحقيقة أنه هنا لا يزال في صميم استعمال تعريفه للحكاية العجيبة، على اعتبار أن ما ذكره عن (حكاية الخوارق) لا يعدو أن يكون عنصرا واحدا من عناصر الحكاية العجيبة التي تتوالى في تفريعاته تلك، كما يتبين من قوله مثلا معرفا بما سماه (حكاية الغيلان) : «حكاية الغيلان حكاية متواترة بالرواية الشفوية جادة غالبا. وتتركز الأحداث حول بطل أو بطلة ، وغالبا ما يكون البطل فقيرا أو مضطهدا أو يتعرض لامتحان عسير تتوقف عليه حياته أو حصوله على فتاة أحلامه أو على دواء غريب لعزيز لديه. وبعد سلسلة من المخاطرات يقوم بها ذلك البطل بشجاعة أو يمر بها بهدوء نتيجة لطيبة نواياه أو حسن حظه فإنه وبعد أن تلعب(الخوارق) دورا ملموسا يستطيع أن يصل إلى غرضه فيحضر الدواء أو يجتاز الامتحان، وبعد ذلك وفي الغالب فإنه يحصل على كنز أو فتاة رائعة الجمال أو الاثنين معا ويعيش حياة سعيدة الى النهاية. وفي العادة فإننا نلاحظ الغول شخصية أساسية في هذه الحكايات وهو يؤثر بالإيجاب أو السلب على أحداث القصة ويساعد على تطويرها سواء كان في جانب البطل يعاونه ويسهل له الصعاب أم في المعسكر المعادي يهدد حياة ذلك البطل أو يحول دون حصوله على مبتغاه» [5] .
ولا يحتاج الأمر هنا، الى كثير عناء لتبين مدى الخلط الذي وقع فيه الباحث. لكون جميع العناصر الواردة في هذا التعريف تتعلق بنوع قصص شعبي معين هو (الحكاية العجيبة). ولهذا فإن التعاريف التي ساقها لـ (حكاية الغيلان) و (حكاية الجن) و (حكاية السحر)، ليست في حقيقة الأمر إلا تعريفا متكاملا للحكاية العجيبة، سيما وأننا يمكننا أن نستبدل عنصر الغول والجن بغيرهما ، دون أن يحدث أي اضطراب فيما أطلق عليه الباحث (حكاية الغيلان) و (حكاية الجن). أما السحر فهو في أساس الحكاية العجيبة. والأدهـى أنه يستعمل مصطلحات أخرى في السياق نفسه هي (القصص الخرافي) و (الحكاية الخرافية الشعبية) و (الحكاية الخرافية) [6].
أسباب الاضطراب:
أكيد أن لهذه الظاهرة أسبابها الخاصة. ويمكن أن نبرز من بينها أهمها كالتالي:
ـ طبيعة الاختلاف المميزة لحقل العلوم الإنسانية، التي يصعب مع صفة النسبية التي تميزها، ادعاء الحقيقة من منظور أحدي، لاسيما إذا تعلق الأمر بعملية استنبات لمفاهيم ومصطلحات توصيفية منقولة عن لغات أجنبية مختلفة في طبيعتها وخصوصيتها عن اللغة العربية.
ـ عدم استجابة الإبداع الشعبي للحرفية والإحكام ولا الخضوع للاتجاه وفق ما رسمه د. عبد الحميد يونس في كتابه الرائد (الحكاية الشعبية) [7]، مما يسلب الباحث إمكانية الضبط الدقيق لثوابته والقدرة على حصر محدداته أو تعليل اختيار مصطلحاته.
ـ مرور الدراسة الأدبية الشعبية بمرحلة التأسيس عربيا. إذ أنها لم تجد تراكما مهما تسترفده. الأمر الذي يترك الباب مشرعا للاجتهادات الشخصية المتضاربة، وكذا الاكتفاء بتلقف اجتهادات الآخرين من غير ما تمحيص. فالدكتورعبد الحميد بورايو مثلا يبرر تفضيله لمصطلح (الحكاية الخرافية) بقوله: «نقصد بالحكاية الخرافية ذلك الشكل القصصي ذا الطابع العالمي، الذي يطلق عليه دارسو الفولكلور في العالم مصطلح [8]. وقد استخدم الباحثون العرب لتعيينه مجموعة من التسميات، من بينها: الحكاية العجيبة، الخرافة، الحكاية السحرية. وقد فضلنا استخدام مصطلح الحكاية الخرافية نظرا لشيوعه في الأبحاث الجامعية الرائدة في ميدان الدراسات الشعبية العربية.» [9] .
ومع هذا وذاك، فقد تحسس بعض الباحثين أحيانا صعوبة تحديد المصطلحات وضبط المفاهيم، واستطاعوا أن يعوا جيدا حتمية تجاوز ذلك الخلط في المصطلح القصصي الشعبي ، وضرورة تخصيص كل نوع من الأنواع القصصية الشعبية المتعددة بمصطلح معين دقيق التحديد والدلالة ، مادام كل منها يرتبط بعوالم وعناصر ووظائف خاصة به ، تتولد عنها فروق نوعية مميزة ، تسهل عملية تصنيف أضرب القصص الشعبي إلى أصناف محددة بأشكال ومضامين خاصة .
فهذه دة. نبيلة إبراهيم تستشعر، بسبب الخلط الحاصل بين مصطلح (الحكاية الشعبية) الذي يقصد به القصص الشعبي إطلاقا ، ومصطلح (الحكاية الشعبية) الدال على نوع سردي شعبي محدد، ضرورة تسمية كل نوع من أنواع هذا السرد بمصطلح يختص به ويميزه عن سائر الأنواع الأخرى، اعتبارا لانفراد كل منها بتحديد خاص لا يختلط بغيره [10]. وهذا عبد الحميد يونس يقر بأن الباحث عندما يحاول تمييز الأشكال المتعددة للقصص الشعبي ، يواجه بعض العناء في دلالات المصطلحات الخاصة بها [11]، لاسيما وأن الحكاية الشعبية ((تستوعب أنماطا وأنواعا متفاوتة وتستهدف وظائف منوعة وهي عبارة يغلب عليها الشمول وتعوزها باعتراف العلماء المتخصصين في المأثورات الشعبية،الدقة والتحديد)) [12]. وبذلك كان هذا المصطلح في رأيه ((فضفاضا يستوعب ذلك الحشد الهائل من السرد القصصي الذي تراكم على الأجيال)) [13]، اعتبارا لجدته بالقياس الى الأدب العربي الرسمي، بل والآداب العالمية . وهذا داود سلمان الشويلي، يلح على ضرورة أخذ الحذر وتوخي الـدقـة في تحديد المصطلحات القصصية الشعبية ، تبعا للاختلافات القائمة بين الأنواع السردية الشعبية، كما هو الحال بين الحكايـة الـعـجـيـبة والحكاية الشعبية [14] أما أحمد مرسي، فإنه يعي بحق نسبية المصطلحات السردية الشعبية، ويذهب إلى أن سبيل التغلب عليها هو تضافر جهود الدارسين، التي قد توصل الى التحديد الدقيق للمصطلح وقد لا توصل، لكن المهم أن يكون تحري الدقة العلمية هو أس هذه العملية [15]. وأما عز الدين إسماعيل، فيعترف خلال حديثه عن الناحية الشكلية في القصص الشعبي، بأن ((مشكلة المصطلح ما تزال هي مشكلة الـعلوم الإنسانية التي تتسع مجالاتها مع الزمن وتتداخل)) [16]، ثم يقرر أن المصطلح السليم هو الذي يرتبط عادة بالموضوع ومنهج البحث [17].
اقتراح البدائل:
مساهمة في تطويق هذه الأزمة المصطلحية في مجال الدراسة الأدبية الشعبية العربية، سنحاول فيما يلي طرح بدائل من شأنها أن تساعد على وضوح المصطلحات ودقة دلالتها على كل نوع من أنواع السرد الشعبي الرئيسية، وذلك انظلاقا من خصوصية كل منها، ومراعاة للتداول الواسع لتلك المصطلحات بين الباحثين، واستئناسا بمرادفات بعضها في الغرب.
أ ـ اعتماد مصطلح (القصص الشعبي) بدل مصطلح (الحكاية الشعبية) الملتبس، وذلك لازدواجية الدلالة في المصطلح الثاني، وتوقا لتقريب الشقة بين القصص الرسمي والقصص الشعبية من حيث الاشتراك في مصطلح (القصص) الموحي بما يتوفر عليه النمطان من عناصر تخييلية وجمالية عالية. إضافة إلى مبرر شيوع مصطلح (القصص الشعبي) بين معظم الباحثين العرب. ناهيك عن معيار المقارنة مع المصطلح اللاتيني [18] الذي يعني (القصة الشعبية) تحديدا.
ب ـ تعويض مصطلح (الحكاية العجيبة) لمصطلح (الحكاية الخرافية)، نظرا لانبناء هذا النوع من السرد الشعبي في جوهره على ما هو عجيب ومدهش (بطولات خارقة، أحداث فوق طبيعية، شخصيات غير مرئية أو مسحورة، فضاءات غريبة مؤسطرة، أزمنة غير منطقية إلخ..). علما بأن مصطلح (الحكاية الخرافية) يحيل على نوع سردي شعبي آخر مختلف هو (الخرافة) حيث الاهتمام بترميز الطبيعة بكل مكوناتها. من غير أن نهمل مبرر المرادف اللاتيني [19] الذي يعني (الحكاية العجيبة) حصرا، إذ أن الوصف الفرنسي [20] معناه اللغوي هو : العجيب، المدهش، المذهل.
ج ـ يحل مصطلح (الحكاية الشعبية) محل مصطلح (الحكاية الواقعية) وما شابهه، لكون مدار هذا النوع السردي الشعبي هو مدار واقعي اجتماعي أخلاقي تاريخي داخل المجتمع الشعبي. فصفة (الشعبية) تستوعب كل هذه العناصر.
د ـ يكرس مصطلح ((الحكاية الخرافية) المستقى من المصطلح التراثي (خرافة)، للدلالة على ما يسميه البعض (حكاية الحيوان) وما إلى ذلك. بسبب عدم شمولية مصطلح (حكاية الحيوان) المنحصر في عالم الحيوان، بينما يشمل هذا النوع كل مظاهر الطبيعة ومكوناتها من حيوان وغير حيوان.
هـ ـ ويقترح مصطلح (الحكاية المرحة) بدل (الحكاية الفكاهية) وغيرها، على اعتبار أن هذا المصطلح يستوعب أهم ما في المصطلحات الأخرى، وهو صفة المرح، سيما وأن مصطلح (الحكاية المرحة) يدل على المرح بشكل صريح ومباشر بلا لبس أو غموض.
وهكذا، تتوفر لدبنا من كل ما سبق، خمسة مصطلحات محددة ودالة، لتمييز أهم الأنواع السردية الشعبية كالتالي:
القصص الشعبي : جميع الأنواع السردية الشعبية بلا استثناء .
– الحكاية العجيبة : النوع السردي الشعبي ذو العوالم العجائبية .
– الحكاية الشعبية : النوع السردي الشعبي القائم على مفارقات الحياة اليومية الواقعية، بأسلوب جاد، ولغاية أخلاقية.
– الحكاية الخرافية : النوع السردي الشعبي الدائر في عالم الطبيعة بأسلوب رمزي ، لغاية تعليمية محض .
– الحكاية المرحة : النوع السردي الشعبي القائم على مفارقات الحياة الاجتماعية الواقعية، لكن بأسلوب مرح يسلي وينتقد.
الحكاية العجيبة نموذجا
ويهمنا أن نشير إلى أن هذه الاقتراحات، تستند في صياغتها إلى إجراءين علميين؛ يرتكز الأول على مناقشة المفاهيم، بينما يستند الثاني إلى السمات المهيمنة والطبيعة النوعية للحكاية كمصدر دلالي للاقتناع بالاختيار الاصطلاحي. ولما كان المجال لا يسمح هنا بالنمذجة إجرائيا لكل الأنواع الحكائية الشعبية المذكورة، ارتأينا أن نكتفي بالتمثيل لذلك بأهمها، نعني (الحكاية العجيبة).
وليكن منطلقنا من حكاية محددة. وقد اخترنا لهذه المهمة حكاية (الغولة والإخوة الثلاثة) التالية :
«يحكي أن غولة سكنت في مغارة قريبة من إحدى القرى، فأخذت تغير كل يوم على بيت، فتهدد صاحبه إذا هو لم يخرج لها بأنها سوف تنفخ على بيته فتهدمه، وتلتهمه هو وزوجته وأولاده، وكانت بيوت القرية كلها مبنية من الطين، فكان صاحب البيت يخاف، فيخرج إلى الغولة، فداء زوجته وأولاده، فتلتهمه، حتى إنها أتت على بيوت القرية كلها، والتهمت كل رجالها، ولم يبق سوى الأطفال والنساء.
وكان يسكن في طرف من أطراف القرية ثلاثة إخوة، أحدهم يعمل صانع منا خل، واسمه منيخلان، والثاني يعمل قزازاً، واسمه قزيزان، والثالث يعمل حداداً، واسمه حديدان، وكانت الغولة قد بدأت بهم أول الأمر، ولكن أحداً منهم لم يخرج، لأنهم كانوا واثقين أن بيوتهم لن تتهدم.
ولما لم يبق في القرية بيت إلا مرت به، والتهمت صاحبه، عادت ثانية إلى بيوت الإخوة الثلاثة، وقررت أن تلجأ إلى الحيلة، كي تلتهمهم واحداً واحداً.
وفي اليوم الأول قرعت الباب على أصغرهم، وهو منيخلان، ودعته للخروج إلى كرم التين، ليشاركها في قطافه، فأدرك أنها تتوى التهامه، فوافق على الدعوة، وطلب منها أن تسبقه، ووعدها أن يلحق بها.
وأسرع منيخلان إلى أخويه يخبرهما بالأمر، فمضى الثلاثة إلى الكرم، وقد هيؤوا كتلاً صغيرة من الطين، جعلوها على هيئة التين، ثم بحثوا عن أكبر شجرة في الكرم، وعلقوا تلك الكتل على أغصانها، ورجعوا إلى بيوتهم.
وجاءت الغولة إلى الكرم، وأخذت تنتظر وصول منيخلان، ولما تأخر عليها، ويئست من مجيئه، قامت، فبحثت عن أكبر شجرة في الكرم، وأخذت تلتهم ما تجده على أغصانها من طين، وهي تظنه تيناً، حتى أتت عليه كله.
ورجعت إلى منيخلان، وأخذت تقرع عليه الباب، فلما أطل عليها من نافذة بيته، بدأت تلومه على عدم حضوره، وتؤكد له ظفرها بالتين وحدها، فأخذ يضحك، وهو يخبرها أن ما التهمته طين، وما هو بالتين، فتنبهت إلى حماقتها وغفلتها، وأخذت تهدده وتوعده، وتطلب منه النزول إليها، وإلاّ، فإنها ستنفخ على بيته حتى تهدمه، فسخر منها وقال لها: "انفخي كما تشائين، فإني لا أخاف".
وأخذت تنفخ على بيته، ولكنه بيته لم يتهدم، لأنه مبني من النسيج الذي يصنع به المنخل، وكله ثقوب وثغرات، الريح تنفذ من خلاله، ولا تؤثر فيه.
وفي يوم آخر قرعت الباب على الأخ الأوسط، وهو قزيزان، فخرج لها، فدعته إلى الحقل، لالتهام الخيار، فوافقها على الدعوة وطلب منها أن تسبقه، ثم أسرع إلى أخويه يخبرهما بالأمر، ومضى الإخوة إلى الحقل، فقطفوا الخيار كله، ووضعوا بدلاً منه الكوسا، ثم رجعوا إلى بيوتهم.
وقدمت إلى الحقل، وأخذت تنتظر، ولما تأخر عليها قزيزان، ويئست من حضوره، قامت، فالتهمت كل ما في الحقل من كوسا، وهي تحسبه خياراً، ثم مضت إلى قزيزان وأخذت تقرع عليه الباب، فأطل عليها، من نافذته، فبدأت تلومه على عدم حضوره، وتؤكد له أنه خسر كثيراً، فأخذ يضحك، وهو يخبرها أنه جنى الخيار كله، وأن ما أكلته ليس خياراً، وإنما كوسا.
وثار الغضب في نفس الغولة، وطلبت من قزيزان أن ينزل إليها، وإلاّ فإنها ستنفخ على بيته حتى تهدمه، فسخر منها قزيزان، وقال لها: "انفخي كما تشائين، فإني لا أخاف".
وأخذت تنفخ على بيته، ولكن بيته لم يتهدم، لأنه مبني من القزاز، يصد الريح، ولا تستطيع أن تؤثر فيه شيئاً.
وفي يوم ثالث قرعت الباب الأخ الثالث، وهو حديدان، ودعته إلى الغابة، لقطع الأشجار، وصنع الحطب، فوافقها، وطلب منها أن تسبقه، ووعدها أن يلحق بها.
وأسرع حديدان إلى أخويه يخبرهما بالأمر، ومضى الإخوة الثلاثة إلى الغابة، اقتطعوا بعض الأشجار، وصنعوا كومة من الحطب، قعد حديدان في داخلها، وقام الأخوان بحزمها بالحبال، ثم رجعا إلى البيت.
وقدمت الغولة إلى الغابة، فرأت كومة الحطب، جاهزة محزومة، ففرحت بظفرها بها دون حديدان، فحملتها على ظهرها، ومضت بها نحو بيتها، وفي الطريق أحست بثقلها، ولكنها عللت ذلك بكبر الكومة وكثرة ما فيها من حطب، ثم أخذ حديدان يخزها بمسلة في يده، فتتحمل الوخز، متوهمة أن أعواد الحطب هي التي تخزها، ومضت على الفور إلى بيت حديدان.
وكان حديدان قد قطع الحبل الذي حزمت به كومة الحطب، وأسرع إلى بيته، فلما قرعت عليه الغولة الباب، وأطل عليها من نافذته، فأخذت تلومه لأنه لم يحضر إلى الغابة، وتذكر له ظفرها بكومة حطب، وتؤكد خسارته، فأخذ يضحك منها، ويذكرها بالوخز وثقل الحمل، ويؤكد لها أنه كان مختبئاً في كومة الحطب.
وعندئذ غضبت الغولة غضباً شديداً، وطلبت إليه النزول، وإلاّ فإنها ستنفخ على بيته، لتهدمه، فسخر منها حديدان، وقال لها: "انفخي كما تشائين، فإني لا أخاف".
وأخذت تنفخ على بيته، ولكن بيته لم يتهدم، لأنه مبني من الحديد، والريح لا تؤثر فيه، وكانت الغولة في غضب شديد، فظلت تنفخ طويلاً طويلاً، إلى أن انفجرت وماتت.» [21]
هذه الحكاية نموذج دال على العوالم والتقنيات الجمالية المخصوصة بالحكاية العجيبة. فهي منذ الكلمة الأولى في مطلعها تحيلنا على الزمن المطلق غير المحدد، انطلاقا من صيغة بناء المجهول للفعل (يحكى)، التي لا تحيل على حقبة زمنية معينة. وإنما تلقي بمسؤولية ما سيحكى من عجائب على الماضي وعلى رواة مجهولين هم الآخرون، من غير ما عنعنة توثيقية تصل في النهاية إلى مصدر الحكاية الأصلي.
كما تدخلنا هذه الحكاية من حيث فضاؤها، إلى مغارة بإحدى القرى. وإذا سألنا أية مغارة هذه؟ وأية قرية تلك؟ فلن نستطيع الظفر بحقيقتهما وموقعهما في الواقع العيني، وإنما هو غموض في غموض. والواقع أنهما تنتميان إلى فضاء تخييلي لا غير، هو من صنع الذاكرة الشعبية المبدعة. فالذي يهم هنا هو الحدث العجيب في حد ذاته، وليس مسرحه، وإن كان تأثيث المكان بمغارة مخيفة، وقرية معزولة مهددة، وبيوت طينية واهية، وأخرى مبنية من مواد لا تبنى بها عادة البيوت (نسيج المنخل، الزجاج، الحديد)، ومع ذلك فهي في الحكاية غير قابلة للهدم؛ تزيد في تعميق الإحساس بالعجب والغرابة، وتساهم في رسم مناخها داخل فضاء هذه الحكاية.
ولعل ما يضفي مزيدا من العجائبية على هذه الحكاية، هو هذا الحدث الغريب الممعن في لاواقعيته. فهذا الكائن الأسطوري (الغولة) يغير على القرية يوميا، ويلتهم الأزواج بعد تهديد لا يرحم من أجل إشباع نهم الجوع الوحشي الذي لا يشبع أبدا، إلى حد خلت معه القرية من كل الرجال، حيث لم يعد هناك سوى الأطفال والنساء. ولم توقفه عند حده وتنتقم منه سوى شجاعة الإخوة الثلاثة، المسلحة بحسن الاحتيال وبراعة الخداع، نظرا لتفوق ذكائهم وفطنتهم. إلى درجة أنهم استطاعوا إجازة خداعهم على الغولة كل مرة يتكرر فيها الحدث نفسه. ففي المحاولات الثلاث التي جربتها مع كل واحد منهم خلال ثلاثة أيام، لم تظفر سوى بالسخرية والإساءة والهزيمة في الحرب غير المعلنة بين الطرفين. مما يدفع المتلقي إلى التساؤل متعجبا، كيف أمكن لبشر ضعاف أن ينالوا من هيبة هذا الكائن الخرافي، ساخرين من بلادته، وموقعين به أشد الأذى إلى حد الموت؟!. إن في هذا قلبا للمعادلة الواقعية، القائلة بحتمية تغلب القوي على الضعيف. وفي مثل هذا يكمن مصدر العجب بالحكاية، فضلا عن شحنة الطاقة الرمزية التي تحبل بها.
وطبعا، لا يمكن في هذا السياق، إهمال ما تضفيه طبيعة الشخوص من مظاهر العجب على عالم هذه الحكاية، ابتداء من نعوت الأبطال الثلاثة المسجوعة المشتقة من حرفهم (منيخلان، قزيزان، حديدان). وإذا كان عدد شخوص النص السردي العجيب يصلون غالبا في النصوص المكتملة إلى سبعة، حسب تحديد فلاديمير بروب لمستويات فعل شخوص الحكاية العجيبة، فمن الملاحظ أن النص المستشهد به هنا، لا يصل شخوصه إلى هذا العدد. ذلك أن الأمر لا يتجاوز ثلاثة أنماط وظيفية رغم التعدد الظاهر على السطح. ولئن كانت الغولة تمارس وحدها بسبب اكتفائها الذاتي بقوتها وجبروتها، أفعال الأمر والتهديد والافتراس، منفردة ب(مستوى فعل الشر والاعتداء والإساءة)، فإن كل سكان القرية أزواجا ونساء وأطفالا، يضطلعون بمستوى فعل واحد، محدد في دور (الضحية). كما تجزأ مستوى فعل البطل المنتقم المخلّص بين الإخوة الثلاثة. وبذلك وضع أبطال هذه الحكاية في مواجهة ثنائية غير معقولة:
(قوى الشر والجبروت المرموز لها بالغولة / سكان القرية المستسلمين + الإخوة الثلاثة الشجعان الأذكياء)
وهي معادلة لا شك أنها تثير كثيرا من العجب في نفس المتلقي، لاسيما لدى انتهائها بالخاتمة القاضية على قوى القهر التي لا تغلب، بتلك الصورة الساخرة الشامتة من طرف بشر لا حول ولا قوة لهم أمام الغولة الرامزة إلى غطرسة القوة المتسلطة المتعالية. وفي هذا الصدد يقول الدكتور أحمد زياد محبك في سياق تعليقه على هذه الحكاية :
«ويمكن أن تعد الغولة رمزاً مطلقاً لأي شكل من أشكال القهر والظلم والقمع والإرهاب.
وعلى كل حال، يمكن أن تقرأ الحكاية كما هي في الظاهر من غير أن تحمل أي قدر من الرمز أو الإيحاء، وتظل محتفظة بجمالها وجاذبيتها وقوة تأثيرها.
ومرجع جمال الحكاية عفويتها، وذكاء الإخوة في مواجهة الغولة، وقدرتهم على تحديها والانتصار عليها، كما تلاحظ البنية الثلاثية واضحة في الحكاية.» [22].
وبعد أن أخذنا جماليا فكرة تطبيقية عن طبيعة الحكاية العجيبة، من منطلق هذه النمذجة، نود الآن أن نعود إلى مزيد من تعميق الوعي بتفاصيل مفهومها، قبل الخوض في الإشكال المصطلحي المرتبط بها.
وتدعونا هذه المقاربة إلى ضرورة تحديد مصطلح العجيب أولا. فمن معاني العجيب القاموسية، الدلالة على ما جاوز حد العجب، علما أن مادة العجب تعني إنكار ما يرد عليك. والأصل في ذلك أن الإنسان إذا رأى ما ينكره من الأشياء غير المألوفة قال : قد عجبت من كذا [23]. ومن ثم تمدنا هذه الدلالة اللغوية نفسها بالمعنى المباشر للعجيب صفة لهذا النوع السردي. فالحكاية العجيبة لا تبتعد عن هذا المعنى بمحمولاته المشحونة غرابة وإثارة وإدهاشا. لكونها مثقلة بما هو بعيد عن المعقول ومنطق الواقع، مما يشذ انتباه المتلقي.
وبالمناسبة، فإن تزفيتان تودروف Tzvetan Todorov يميز بين العجيب والغريب والفانتزي، باعتبار العجيب يتعلق بظاهرة مجهولة، لم تر أبدا وتحيل على المستقبل، ولا تفسر إلا بقوانين طبيعية جديدة. عكس الغريب الذي يتعلق بظاهرة تحترم فيها قوانين الواقع بشكل سليم تسمح بتفسير الظواهر الغريبة، حيث يقود ما هو مجهول إلى ما هو معلوم، أي إلى تجربة سابقة، إلى الماضي. بينما لا تستطيع مدة الحيرة التي يثيرها الفانتزي في القارئ إلا أن تقع بوضوح تام في الحاضر. [24] .
كما أن د. نبيلة إبراهيم، قد عرفتها بناء على شخوصها السبعة الذين حددهم فلاديمير بروب في كتابه (مورفولوجية الحكاية العجيبة)، بقولها: ((ويمكننا ...أن نعرف الحكاية الخرافية، بأنها الحكاية التي تستخدم الشخوص السبعة، بحيث يقوم كل منها بحركة أساسية في حياة البطل من أجل الوصول إلى الفتاة التي يرغب في الزواج منها. (وكثيرا ما تكون هذه الفتاة بنت ملك أو سلطان)، أو من أجل الوصول إلى شيء يسعى للحصول عليه)) [25].
وسوف نعمد هنا إلى التعرف إلى مكونات هذه الحكاية، مما سيمكن من تقريب تعريف ملائم لها نسبيا. ولنبدأ ببنائها. فعادة ما يمتد الحدث العجيب غير التاريخي، بالحكاية العجيبة متسلسلا من خلال الشكل الهرمي المعروف: مقدمة ـ عقدة ـ خاتمة)، مثلما هو الأمر في القصص الرسمي. لكن الحكاية العجيبة تنحبك داخل هذا الإطار الشكلي التقليدي، من خلال نسيج وظيفي يقوم على وحدات معينة حددها بروب في إحدى وثلاثين وحدة وظيفية، تبدأ بالإساءة، وتنتهي بالإصلاح.
مع ملاحظة أن بلاغة التكرار كثيرا ما ساعدت على تماسك وتبنين الحكاية العجيبة، في غفلة من انتباه السامع والقارئ. وغالبا ما يحدث التكرار ثلاث مرات قبل أن ينجح البطل الحقيقي في إنجاز المهمة الصعبة، فالتكرار يكوّن ظاهرة مـمـيـزة للحكاية العجيبة إجمالا، «فإن تكرار الفعل ثلاث مرات يكسب الحكايات الخرافية سرها. فإذا تساءلنا عن سبب هذا فإننا نقول إن العدد واحد يدل على الشيء الذي لم يتطور بعد، والعدد اثنين الذي يساوي العدد واحد مزدوجا، يرمز إلى التضاد : النور والظلمة، والسماء والأرض، والليل والنهار، ولكنه لا يدل على النهاية ولا الاكتمال. وهو في ذلك يشبه الخط الذي يصل بين نقطتين. فمن الممكن لهذا الخط أن يمتد إلى ما لا نهاية، ويظل مع ذلك محصورا بين نقطتين .
أما العدد ثلاثة فهو يعطي للشكل سحره واكتماله .» [26].
وبالانتقال إلى شخوص الحكاية العجيبة، نتبين أن تلك الوظائف تتوزع بمختلف مستويات أفعالها، على شخوص معينين ذوي بعد واحد، حيث يضطلع كل منهم بوظيفة مخصوصة به معينة قبليا. علما بأن شخوص هذه الحكاية، هم شخوص نمطيون، غير موصوفين، ودون أسماء خاصة كما مر بنا بحكاية (الغولة والإخوة الثلاثة). وإنما هم ذوو نعوت عامة (الملك ـ الأميرة ـ الإخوة ـ الثعلب ...). وهم يتكررون وظيفيا في معظم الحكايات العجيبة، مع اختلاف نعوتهم، ويحكمهم قانون التناقض (الكبير والصغير، الغني والفقير، الشاب والسيخ، الغول والإنسان). ولا يفوتنا أن نشير إلى أن هؤلاء الشخوص يتحركون عادة في عوالم تتسم بالغرابة والمناخ العجائبي المشحون بالسحر والخوارق، ويندمجون في مداره كما لو كان عالمهم الحقيقي، وربما لهذا السبب تعتبر دة. نبيلة إبراهيم ((هذا العالم السحري المجهول من أهم الخصائص الشكلية للحكاية الخرافية)) [27]. فمعروف أن هذه الحكاية تقدم المواقف والشخوص والأدوات السحرية، داخل إطار ملغز؛ ذلك أن الأجواء المخيفة، والمناخ السحري، والحصار المطلسم المـضروب حول موضوع البحث، كلها تحتل مكان القلب في الحكاية العجيبة عادة، مما يضفي عليها سحر العجائبية الشيقة.
ولنلتفت في هذا السياق، إلى عنصري الزمن والمكان، لما لهما من أهمية ملحوظة في بناء النص الإبداعي إطلاقا. فقد تعاملت الحكاية العجيبة معهما تعاملا خاصا مطردا ، مبنيا على التعميم والاختزال واللامنطقية، مما ساهم بفعالية في عملية التغيير من نظام الأشياء، والدفع بها إلى منطقة التجريد .
فعلى مستوى الزمن، تواجهنا أول حقيقة جوهرية تطبع وظيفته في الحكاية، ألا وهي دوران أحداث الحكاية العجيبة في عالم لازمني، أو في زمن مطلق غير محدد، يميل إلى التعميم وإذابة التخصيص منذ الجملة الأولى في الحكاية، كما لاحظنا في الحكاية السابقة، حيث تنفتح بمثل بدايات حكايات الأخوين جريم (ذات زمان ـ في الزمن الذي كانت تتحقق فيه الأماني ـ ذات يوم ـ ذات مساء ـ ذات صباح صيفي ـ في يوم شتائي الخ..). وهي صيغ تقابل البداية المعتادة في الحكايات العربية (كان يا ما كان). فالحكاية العجيبة ((تبدأ أحداثها في زمان ما بمجرد أنها لا بد أن تبدأ في زمان محدد. وهذا يؤكد لنا الرغبة في التعميم الذي يجعلنا جاهلين بالحدود التاريخية للأحداث، حيث يزيل من الذهن كل الأبعاد الزمانية، ويجعل الحكاية كأنها حدثت في اللا زمان، أي كأنها ـ بنفس القدرـ لم تحدث)) [28]، وإنما هي واقعة نفسية [29]. ومن هنا ربط كثير من الباحثين بين الحكاية العجيبة والحلم [30]. إذ أن هذا الزمن كثيرا ما يتحول إلى زمن لامنطقي متداخل ومهوش، يخرج عن الصرامة والمعقولية اللتين يضبط وفق معياريهما الزمن التاريخي، فتتداخل فيه الأشياء وتنجز المهمات الضخمة في وقت وجيز خاطف. كما يتصف الزمن في الحكاية العجيبة بكثرة الاختزال والحذف والاستباق.
أما على مستوى المكان، فتواجهنا الحكاية العجيبة بمجموعة من الفضاءات المبهمة المجهولة المتميزة بعجائبية مفرطة من غابات مجهولة وبحار يحكمها الجن وجبال يقطنها الغيلان والمردة وقصور شامخة وأكواخ بئيسة وحدائق ذات أشجار مسحورة إلخ.. فهي لا تحدد جغرافية واقعية، وإنما تدور في عوالم خيالية، مثل المغارة والقرية المجهولة في حكاية (الغولة والإخوة الثلاثة).
والمحصلة، إنه رغم ما قيل من أقوال مردها الجهل بفنية القصص الشعبي وأبعاده، متهمة هذا القصص بالسذاجة والاعتباطية، فإن شبكة النسيج التي حبكت في إطارها الحكايات العجيبة عموما، وما احتوت عليه من تقنية فنية مدهشة، يكذب ذلك الاتهام المجاني. إذ لا هلهلة، ولا تخبط، ولا فجاجة في معظم الحكايات العجيبة. بل إن السائد بينها هو الدقة والتماسك واكتمال البناء، على أساس خطوات منظمة ثابتة ومضبوطة بعناصر شكلية محددة، وبحس جمالي رفيع يمكٌن من الاستخدام الجيد لمختلف المكونات السردية في الحكاية العجيبة، وذلك سر بهائها وروعتها وشدة تأثيرها. ولعل هذا هو ما جعل ماكس لوتي Max Lùthi يخصها بصفة الأدب دون غيرها من أنواع السرد الشعبي الأخرى. [31].
بعد كل ما سبق، نستطيع أن نركز تعريفا تقريبيا للحكاية العجيبة في الفقرة الموالية:
إن الحكاية العجيبة نوع سردي شعبي مشروط بعناصر ثابتة محددة رائعة، تهيمن عليها الخوارق من سحر وجن وفعل غير معقول، متحررة من المنطق الصارم للزمكان ، ودون أن تتغيى أي مغزى وعظي أو أخلاقي مباشر. وهي تقدم كل هذا العالم العجائبي بوصفه أمرا طبيعيا على رأي أندريه يولس [32].
إنها ذات بناء واحد يتكرر في معظم النصوص المنتمية إليها أجناسيا، مع اختلاف في بعض التشكلات أحيانا. وبالإضافة إلى الشكل الهرمي المعروف (بداية، عقدة، خاتمة)، والاعتماد بنيويا على التكرار الثلاثي للفعل غالبا، فعادة ما تتراوح وحداتها الوظيفية الكثيرة ـ وفق تحديد ف. بروب ـ بين خروج البطل بسبب إساءة أو نقص، والوصول إلى الفتاة التي يتزوجها، أو إلى الشيء الذي يفتقده هو أو أحد أقربائه. فيحصل على هدفه في خاتمة الحكاية بمساعدة قوى خارقة تتغلب على كل المخاطر التي تعترضه. وهي ذات بعد تنفيسي، لذلك تنتهي غالبا بالنهاية السعيدة للأخيار والخاتمة المؤلمة للأشرار .
ومن هنا كان حظ الحكاية العجيبة لدى الباحثين أفضل من حظ غيرها من أنواع السرد الشعبي الأخرى، فقد اهتموا بها اهـتمـاما خاصا، فعانوا في جمعها، واجتهدوا في تصنيفها، وقاموا بدراسة أصولها وأشكالها ووظائفها. كما رعاها المبدعون واستوحوها في مبدعاتهم المختلفة.
وبعد، لعل كل ما سبق يساعدنا على تأكيد اختيار مصطلح (الحكاية العجيبة) للدلالة على هذا النوع من السرد الشعبي، واستبعاد باقي المصطلحات الأخرى المبلبلة. ذلك أن (العجب) هو السمة الثابتة، المتغلغلة في كل جنبات وأعماق ومكونات وإواليات هذه الحكاية، وهو العنصر المعياري لتمييزها عن غيرها من الأنواع الأخرى.
وهكذا، يمكن بمثل هذه المقاربة النصية لكل نوع من أنواع السرد الشعبي، الاهتداء إلى المصطلحات الدقيقة المناسبة لها.