

إعمار
المكان: بلدٌ في بقعةٍ من الأرض، يزخرُ بناطحاتِ السحاب، ومراكزِ التسوّق الراقية، والأسواقِ التجارية.
الزمان: المستقبلُ القريب، عام 2035.
الشخصية الرئيسية: فتاة واسعة العينين في الخامسة والعشرين
الحدث..
تقبضُ على يديه بحبّ، تنظرُ إلى عينيه الساكنتين العميقتين. زرقتهما تجعلها تسبحُ في بحرٍ من التيه والعشق، لكنَّ القلقَ كان يتسلَّلُ إليها في لحظاتٍ خاطفة.
يراقبُ عينيها المتلهّفتين، يلمحُ نظرةَ شبقٍ مرَّت سريعًا، لكنه لا يُبالي تمامًا.
يحاولُ أن يرسمَ ابتسامةً على شفتيه، لكنها تضيعُ وسطَ صخبِ أفكاره، وضجيجِ السياراتِ الفارهة من حوله. أصواتُ الأبواق، أضواءُ اللوحاتِ الإعلانيةِ الضخمةِ العاكسة، تخترقُ عقلَه، تسحبُ روحه...
تبتسمُ هي، تتشبّثُ بذراعه، تُبدي إعجابها بمدينته:
– مدينتك ساحرة، لم أرَ في حياتي بلدةً لطيفةً مثلها... حدَّ التفكيرِ في الانتقالِ والعيشِ هنا.
يخبرها عن الأشجارِ التي تسوِّر المدينة، والشمس التي تضيء ربوة التل في كل وقت من النهار. يؤكد لها أن المشهد أعلى التل يكشف الجمال المطمور للمدينة...
تمسكُ بذراعيه كطفلة، تتوسل أن يصطحبها إلى التلّ، كي ترى ما لا تراه من موقعهما...
يستجيبُ لمطلبها، يسيران وسطَ جلبةِ السيارات، يخترقانِ الشوارعَ والأزقّة، والبشرُ مصطفّونَ على الجانبين، لا أحد يلاحظهما، كلٌّ مشغول بنفسه...
تتداخلُ اللغاتُ واللهجات في هذه البلدة، لا شيء واضح أو مفهوم عن أهلها...
أصواتُ الضحكِ والقَهقهة تبزغ من كل صوب، المطاعم والمقاهي متكدسة، والملاعقُ والشوكُ تضربُ الصحونَ في المطاعمِ الفاخرة...
تبتسمُ له، يسيرُ صامتًا.
دقيقة، اثنتان، ثلاثة، عشرة...
ثم تبدأُ الأصواتُ في التلاشي تدريجيًّا، ويتوارى قرصُ الشمسِ خلفَ مبنًى حكوميٍّ كبير...
تمرّ يدُها على أحدِ الجدرانِ الرخاميةِ لمبنى حديث، فتنتبهُ إلى شيءٍ بالكاد ظاهرٍ خلفَ الطبقاتِ العاكسة ، نقشٌ قديم، بقايا رسم، حروف مبعثرة ربما قصيدة شعر أو مقطع من أغنية...
وكأنَّ المدينةَ بُنيت على أنقاضِ أخرى.
تسأله عن تاريخِ البلدة، وعن تاريخه معها.
يجيبها بسؤالٍ يفيضُ تعجّبًا:
إنسيتي بهذه السرعة؟!
يصلانِ إلى أسفلِ التلّ. نساءٌ عجائز يفترشن مداخل البيوت، يجلسن صامتات، ملامحهن مطمورة، أو ربما متشابهة.
ضفائرهن مجدولة، سميكة، تصل إلى الأرض...
يصعدانِ معًا، تنسلُّ يداه من بين يديها...
أنفاسُها تتسارعُ، تتقطع، التل شاهق الارتفاع، تفكّرُ فقط في الوصول.
تتشبّثُ بقميصه بعدما أفلت يدها.
يصلان إلى ربوة التل، تتوقّفُ لتلتقطَ أنفاسها، بينما يبتعدُ هو نحو الحافة، حيثُ تتضاءلُ المباني والأسواقُ والبشرُ في الأسفل...
عند مرمى البصر، غاصت الشمسُ عند الأفق، تركت خطًّا داميًا يشقُّ السماء، يلقي عليهما شعاعًا من ضوء... بقايا سترحلُ سريعًا...
تطيلُ النظرَ إليه، تسأله:
– لماذا تختلفُ ملامحُك عن ملامحِ أهلِ بلدتك؟ وربما لهجتك أيضًا؟
يراوغها:
– ربما لستُ منهم...
تحدّقُ فيه مليًّا، ترى أنه يشبهُ هذا الجزءَ من البلدةِ حيثُ يقفان: الأشجارُ من بعيد، وعورةُ التل، نسماتُ الهواء النقية... هو نضرٌ كاخضرارِ الطبيعة، شهيٌّ كرائحةِ المخبوزاتِ التي تفوحُ من البيوتِ أسفلَ
لكنه لا يشبهُ قاعَ المدينة... غريبٌ عنها.
تقتربُ منه، تحتضنه... تشمُّ رائحةَ العنبرِ والمسكِ تفوحُ من جسده...
تهمسُ له ، تطلبُ أن يأخذَها بعيدًا إلى دنياه، إلى عالمه... تعده بالوفاء والحب الأبدي...
في تلك اللحظة، كان الهواءُ يدورُ في دوّاماتٍ صغيرة، ينتشرُ في الجوّ من حولهما، حاملاً معه أطيافًا رماديةً مجهولةَ المصدر.
وقد لملمت الشمسُ آخرَ بقاياها، غاصت دون رجعة، وفي لمحٍ خاطف، أسدلَ الظلامُ سدوله. وكسا الظلام الربوة، بينما وقفت متسمرةً تستوعب ما يحدث من حولها
وفجأةً، تشتمُّ رائحةَ حريقٍ كثيفة، تتسلّلُ لأنفها، تزكمُها...
ثم تتصاعدُ أبخرةٌ سوداءُ ورماديةٌ أمامَ عينيها.
كانت لا تزالُ بين ذراعيه، عندما زكمت هذه الرائحة أنفها...تنبهت إلى أنها تقف من دون سند، يداه لا تحوطُها...
تراجعت في ذهول، يحترقُ أمامَ ناظريها ببطء...
في مشهد لا يُحتمل... بدأت النيرانُ من أسفلِ قدميه، التهمت ردفيه، خصرَه، بطنَه، أعضاؤه التناسلية، ثم تصاعدت حتى قسماته... جلدُه يتساقطُ أمامها، عيناه الزرقاوانِ بحيرتانِ من الدماء ، تقفُ مذهولةً، متفرّجة...
يتحوّلُ إلى رمادٍ أسودَ يتناثرُ مع الريحِ التي تهبُّ بعنف، والتي جاءت مباغتة...
وبينما تقفُ مشدوهةً، تراءت لها المدينةُ القديمةُ تحتَ الرماد. من موقعها أعلى الربوة...
كانت الشوارعُ ممتدة، جدرانٌ محترقة، نوافذُ محطّمة، أصواتُ صرخاتٍ بعيدة، انفجار، رائحةُ بارود، دخانٌ كثيف، أزيزُ طائرات... أطلالٌ حزينةٌ... وأطفالٌ منزويةٌ تبحثُ عن مكانٍ آمنٍ للاختباء...
كأنها تتابعُ مشاهدَ سينمائيةً بتقنيةِ الفوتو مونتاج...
تصرخُ هلعًا...
تحاولُ الهروب، تبحثُ عن مخرج...
تتراجعُ خطوة، خطوتين، ثلاثًا... لكن الهواءَ يصفعُ وجهَها، يكادُ يقتلعُها من مكانِها...
تحاولُ الصراخ، لكنَّ صوتَها محبوسٌ في حنجرتِها، كأنَّ شيئًا يضغطُ على عنقِها، يسلبُها قدرتَها على التعبير...
تمتدُّ يدُها إلى رقبتِها في فزع، تتحسَّسُ جلدَها، تشعرُ بحرارةٍ غريبةٍ تزحفُ تحتَ مسامِها... كأنَّ شيئًا يشبُّ داخلَها، نارٌ صغيرةٌ تتسلّلُ إلى جوفِها، تكبرُ ببطءٍ مُخيف...
عند أسفلِ التل، كانت البلدةُ تُبعثُ من تحتِ الرماد... أو ربما تنبعثُ صورُ ماضيها الأليمُ من ذاكرتِها المدفونة. المباني تتحوَّلُ إلى أنقاض، الطرقاتُ تلتفُّ حولَ نفسها، تتغيَّرُ ملامحُ المدينة، تتبدَّلُ الأضواءُ المتلألئةُ بأطيافِ حريقٍ..
النساءُ العجائزُ اللواتي كنَّ جالساتٍ على أبوابِ البيوت، صرنَ فجأةً شابّات، يهربنَ في كلِّ اتجاه، شعورُهنَّ المتدلّيةُ تشتعلُ كفتائلِ قنابلٍ مشتعلة، أعينُهنَّ تفيضُ بالدمعِ والرعب...
على بعدِ عشراتِ الأمتار، تلمحُ طفلًا صغيرًا في العاشرة من عمرِه يرتدي جلبابًا متّسخًا... يقفُ في العراءِ أعلى التلّ، يرتجفُ من شدّةِ البرد...
تقتربُ منه، تخلعُ معطفَها الناعمَ الوثيرَ كي تمنحه إيّاه علّه يجدُ دفئًا. تمدُّ يديها بالمعطف، لكنه يتحوّلُ إلى قطعةِ جلدٍ رثّةٍ مليئةٍ بالشوك...
تلقيه في فزع، ترتعدُ هي الأخرى خوفًا وبردًا... تلاحظُ عينيه، إنهما نفسُ العينينِ الزرقاوينِ، لهُ نفسُ النظرة...
يقتربُ منها، تسأله عن هويته ..
يخبرُها أنه هو من صعد بها لربوةِ التلّ، كان يمكنُ لقصتهما أن تكتملَ لولا أنها تركتْه يموت...
تؤكد له أن لا دخل لها في الحريق
يكملُ بصوتٍ هادئ:
– حدثَ هذا منذُ زمن... مؤكدٌ أنكِ سمعتِ بخبرِ استشهادي على الشاشات، أليس كذلك؟ ربما شاركتِ صورتي مع الآخرين وقتها... وربما لم تفعلي.
تتلعثم، تبكي، تهمهمُ ببعضِ الكلماتِ دفاعًا عن موقفها...
– قاطعتُ، كتبتُ منشورات، أرسلتُ رسائلَ تضامن، وشمْتُ علمًا على يدي... أبي وضعَ مثله على الكنبةِ الخلفيةِ لسيارته... أقمنا مهرجانات، كانت كلماتُ الضيوفِ خلالَ افتتاحِها تدمي القلوب... دشَّنّا شعاراتٍ لحقك في العودة... أقمنا حفلاتٍ غنائيةً وراقصةً، حصيلتُها ذهبتْ للإغاثة.
يبتسمُ بمرارةٍ متمتمًا: "لكنّي لم أنجُ."
يذكرها بما فعلته عشيرتها من إعمار بعد الخراب، يسألها عن مذاق الكعكة التي اقتسموها، وحاربوا من أجل انتزاع القطعة الأكبر منها...
يشير بيده الصغيرة إلى المباني الفارهة، إلى الحوائط اللامعة العاكسة، حيث مُحيت آثار الدماء بعدما فنيَ البشر...
يقترب منها، صوته هذه المرة يبدو أعمق مما يتناسب مع جسده الصغير:
"دعيني أريكِ صورتكِ على الحوائط العاكسة في بلدتي المنسيّة..."
ترتعد خوفًا، تهمس متراجعة:
– لا أريد...
يمدّ لها يديه، وما إن تمسكهما حتى تنخلعان بين أصابعها!
تصرخ، تهرع مذعورة، تتراجع عشرات الخطوات... يحاول اللحاق بها، لكنه يتعثر، تنخلع قدماه أيضًا، تهرولان وحدهما نحو حافة التل!
يبقى جسده بلا أطراف، تسيل الدماء مع حركته، يزحف فوق التراب، كأنما يسير داخل عقلها...
لا يتوقف، يدور حول نفسه، كأنه في طقس تعذيبٍ أبدي... ثم يتوقف فجأة، يطيل النظر إليها... من عينيه تنساب الدماء.
تهرول بحثًا عن مَخرج، تتعثر بجثث ممزقة، أطرافٍ متفحمة، أجسادٍ تنزّ قيحًا وصديدًا، رائحة الحريق تخنق أنفاسها...
تقرفص فوق التل، تصمّ أذنيها عن الصراخ الذي يتصاعد... أصوات تكسّر العظام، طقطقات تصدر من الأجساد كأنها تتحطم ببطء.
عشرات... بل مئات الأشخاص يزحفون نحوها... بلا أعين، بلا أطراف، وجوههم محروقة، أجسادهم مشوّهة...
تمعن في صمّ أذنيها، تلوّح بيديها، تركلهم بقدميها، لكنهم لا يتقهقرون.
الطائرات تحلّق في السماء، أزيزها يملأ الأفق. تظنها النجاة، لكنها تحوم حولها عشرات المرات، قبل أن تلقي معلّبات صدئة تتحطم على الأرض.
فور ارتطامها، يخرج منها أوصال بشرية... تسيل من بعضها سوائل بلون ورائحة الدماء.
دقيقٌ أبيض يتطاير في السماء، وما إن يلمس جلدها حتى يحرقه ، ينكمش، يتقشر، يتساقط، لحمها متقرح، أحمر، ينزّ قيحًا.
تفتح فمها لتصرخ... لكن الصرخات تضيع في الفضاء، تتلاشى وسط أصوات البارود، والرؤوس المتدحرجة عليها من كل مكان...