إن غاب اسمي هاي رسمي
تناولت في حينه كتاب "متلازمة ديسمبر" للكاتب فراس حج محمد، وكتبت "لفت انتباهي تعامله مع الصور؛ فحين قرأت "في تأمّل الصور" ثانية كأني بالكاتب يمأسس لدراسة/ كتاب جديد حول دور الصور في مخيّلته وحياته وأهميّتها لتعوّضه عن فقدٍ ما... وصورة الكيلوت الأزرق التي لا تفارقه؟" وها هو يطلّ علينا بإصدار جديد بعنوان "فتنة الحاسة السادسة– تأمّلات حَولَ الصُّوَر" (تحليل ونقد، 220 صفحة من القطع المتوسط، تصميم: "مجد" للتصميم والفنون، حيفا، الغلاف: "يد" ثلاثيّة الأبعاد– الفنان التشكيلي الحيفاوي ظافر شوربجي، إصدار: دار الفاروق للثقافة والنشر. صدر له 34 كتاباً ومن آخرها: "في الوجه والمواجهة"، و"متلازمة ديسمبر"، و"في رحاب اللغة العربية"، و"سرّ الجملة الاسمية"، وديوان "في أعالي المعركة"، و"تصدع الجُدران"، و"مساحة شخصيّة"، و"الثرثرات المحببة" وحرّر 17 كتاباً).
يتناول الكتاب موضوع الصورة؛ معناها اللغوي والصورة الأدبية/ الرسم بالكلمات– التشبيه والاستعارة: بيئة اللغويين والمتكلمين والفلاسفة، التأسيس الأولي للصورة الجمالية والصورة من منظورها الشرعي والوجداني مركّزاً على الصورة الذهنية عند الشعراء ومتلقّيهم من مستمعين وقرّاء ونقّاد، ليكشف لنا أنّ الكتّاب ليسوا أنبياء، وأن الكاتبات لسن قدّيسات، ويصوّر لنا القارئ المحترف، وأهميّة المقالة النقديّة وتنوّعها، والعلاقة الجدليّة بين القارئ والناقد، والمبدع.
سلّط الكاتب الضوء على دور والديه وذكائهما الفطريّ بالنسبة لدور الصورة وأهميّتها في حياة الطفل وبلورة شخصيّته وصقلها، فوالدته التي لم تكن تفكّ الحرف كانت (الستايلست) بالفطرة ذات الخبرة بعالم الألوان وأثرها ولخّصتها قائلة بعفويّة "إذا بدّك تخزي الأسمر لبّسه أحمر" (ص. 30) وأوصلته والدته بحكمتها الحياتيّة الفطرية إلى خلاصة مفادها "قل لي ماذا تلبس أقل لك من أنت" دون سابق معرفة بسقراط وحكَمِه.
لكلّ صورته؛ والصورة علامة فارقة وشارة، وكل شخص له وجه يُعرف به، لا يماثله وجه آخر، تماماً كما كتب الروائي أحمد أبو سليم في رواية "باباس": "لكلّ بشر منّا مقطوعة موسيقيّة تشبهه... قطعة موسيقيّة تشبهه ولا تشبه غيره... إنّها وصف للرّوح". تماماً كما جاء في فلسفة (أبو فراس) رحمه الله حين علّمه في صغره "إن غاب اسمي هاي رسمي" (ص. 51)، سنوات عديدة قبل اكتشاف "البيومتري" والتعرف الآلي على الأفراد استناداً إلى سماتهم البيولوجيّة.
يتناول الكتاب علاقته الشخصية بالصور بجرأته المعهودة، جرأة "فضائحيّة" صارت تلازم كتاباته، فيتناول ظاهرة الصور والتصوّر وتبادلها، ما يشاهده ويتابعه من صور في مواقع التواصل الاجتماعي، وما يصله من صور فاضحة لنسائه على الخاص (من واتس آب وماسينجر وبريد إلكتروني وغيره)، حيث صار اللعب ع المكشوف، وبات سيد الموقف، ويسيطر على عقول فئات الكثير من الناس، وخاصّة مشايخ الفيس بوك وأميراته.
تناول الكتاب موضوع الصور في الحرب، فلسطينياً، ودلالاتها، وأهميّتها ودورها في حملات مناصرة القضية الفلسطينية دولياً. "شاعت صور فلسطينية، وخاصة العلم الفلسطيني، وارتدى المشاهير أزياء ذات صبغة فلسطينية، كأن يكون فستان بألوان العلم الفلسطيني... وصورة كيت بلانشيت وهي تقف على السجادة الحمراء في مهرجان كان السينمائي لتكمل ألوان العلم الفلسطيني في فستانها" (ص.177-178)، وكذلك الأمر حضور الكوفية عند كثير من المشاهير، أكان على فستان أو ببيونة أو ربطة عنق أو على حقيبة نسائية، كما فعلت الممثلة الهندية كاني كورسروتي، أو خريطة فلسطين على شكل دبّوس "يُشكّ" في الملابس.
شدّني تناوله لمناقشة الصورة الساخرة الكاريكاتورية وأهميتها، وربطها بشعر الهجاء؛ فالهجاء "جعل الشعراء الهجّائين مكروهين، ويتحاشاهم الناس، ويسعون إلى مراضاتهم، أو السعي إلى عقابهم، والنيل منهم بالضرب أو القتل، وهناك كثير من الشعراء المقتولين نتيجة ألسنتهم" (ص. 154)، هو تصوير بالكلمات، وانتقل هذا الحس من الكلمة، إلى الرسم الكاريكاتوري، إلى الصورة، ويعود ذلك إلى تطور الفن، ويشير إلى معاناة ناجي العلي، ومحمد سباعنة، وصولاً إلى الطفل الغزيّ حسام العطار "نيوتن غزة".
تناول الكتاب الصورة الثقافية ودورها وأهميّتها والإضافة النوعيّة المثرية للنص الذي ترافقه، كتاب "مدينة بير زيت: كتاب الصور" إعداد: موسى علّوش، وقصيدة الشاعرة الغزيّة الدكتورة آلاء القطراوي في رثائها لأولادها الأربعة الشهداء (أوركيدا ويامن وكنان وكرمل الذين بقيت جثثهم في المنزل أربعة أشهر) مُرفقة بصورهم التي أحيت النصّ وأغنته.
لا بدّ من وقفة مع حكاية فراس مع الصور، وحكايتي مع صور فراس؛ حيث أتابع غالبيّة ما ينشر في السنوات الأخيرة ولفت انتباهي مرافقة منشوراته بصورة له يبدو فيها حزيناً، ساهماً يفكّر، غارقاً في أشياء الحياة وأوجاعها، على حدّ وصفه، وعقّب عليها قائلاً "يا إلهي كم كنت حزيناً نهار هذا اليوم، ما أنطق الكاميرا!" (ص. 71)، ومن تجربتي المتواضعة أعلم أن الصحف والمواقع تختار صورة مؤرشفة للكاتب، وكثيراً ما تندّرت حولها، فتواصلت ذات صباح ربيعيّ بابنته الفنانة ميسم وطلبت منها أن تصوّره صورة غير شكل، ولم تكذّب خبراً، وحين طلب منها تسجيل قصيدة، ألبسته قميصاً زهرياً ممّا أضحكه فاتخّذت له صورة عفويّة وبعثتها لي، ومذّاك صرت أبعثها حين يُطلب منّي صورة لفراس، وأعايره قائلاً "بعثت الصورة اللّي بحبّها".
يسعدني أن ألتقي أصدقائي بين دفّتي كتاب؛ قرأت ما كتبه فراس عن صديقي الأسير هيثم جابر؛ "ربما أخذت القطط بعداً أكثر ثورية، فتجاوزت الصورة التقليدية التي عليها الصورة الشعرية عند شعراء الغزل، كما فعل الشاعر هيثم جابر في مقطع شعري قصير، يصف المرأة بأنها قطة ثائرة:
"أنت قطة لا تشبهين القطط
أنت قطة ثائرة
أقسم بكل لغات الحب
لست غيمة عابرة"
ولكم أن تتخيّلوا مدى غبطة هيثم حين أخبرته بذلك في لقائنا الأخير عبر قضبان سجن النقب الصحراوي.
خصّني فراس عدّة مرات في الكتاب؛ "بعد صدور الكتاب وشروع حسن عبادي بالكتابة عنه (مقالتي "اطلع من فيلمك يا فراس" حول كتاب "متلازمة ديسمبر)، أخذت بقراءة الكتاب مرة أخرى، يفاجئني الكم الكبير من الصور في هذا الكتاب، كأنه كتاب صور سردية تحاكي وتعيد رسم الصورة. قراءة حسن عززت فيّ الانتباه إلى أن ذاكرتي صورية، وأنا مليء بالصور" (ص. 73)
وكذلك الأمر حين تطرّق لقصّتي "جوز الست" (مجموعتي القصصية "على شرفة حيفا" ص. 22): "تناول الكاتب حسن عبادي فكرة الجسد على مقصلة الثقافة للكاتبات... لكم أن تتخيلوا الخديعة التي اختفت وراء صورة الحدث الظاهرية، بسبب صورة، فالصورة الحاضرة الجامعة الشكلية، تشير إلى معنى ليس هو في حقيقة الأمر. إنه سحر الصورة، وغباء المسحورين" (ص. 108-109)
وكتب "في قراءات نقدية سابقة، وتقارير صحفية تتناول بعض الإصدارات الجديدة ألتفت إلى تآلف الصورة مع المكتوب... العمل الثاني هو المجموعة القصصية للكاتب حسن عبادي "على شرفة حيفا"، في هذا العمل تضمين لأربع من الصور مترافقة مع أربع قصص، الصورة والقصة تشتركان في جزء كبير من المضمون... كانت نواة لمشروع أدبي مشترك يقوم الكاتب حسن عبادي بكتابة القصة، ويقوم فنان تشكيلي أو مصور فوتوغرافي بصناعة اللوحة أو الصورة" (ص. 120-121)
وجاء في صفحة 186: "الصورة/ الرسم ركن أساسي في مشروع صديقي حسن عبادي في تواصله مع الأسرى، يزورهم، وعقب كل زيارة يقدّم الصورة الغائبة في المعتقل رسماً كتابيا مرفقا بصورة للأسير أو للأسيرة، حسن يريد أن يؤكد أن الأسير إنسان ذو حكاية وصورة وبالطبع اسم، لكنه لا يريد أن يكون اسما مجرّداً من الملامح المحددة، يختار حسن صوره بعناية لتدل على ما يريد، وبهذا صار الرسم/ الصورة ذا دلالة سياسية وإنسانية أيضاً".
يحمل الفصل الأخير عنوان "حوار يغني عن الخاتمة"، وفيه من الفضول والتحري وأشياء أُخَر، حواريّة يتقمّص فيها قبّعة المُحاوِر والمحاوَر، يسأل ويجيب، وتساءلت بيني وبيني إذا كان الأمر من باب النرجسيّة؟ أم من باب "المُريديّة"؟ وكأنّي به يعود، لا شعورياً، لقبّعة المُشرف التربوي والموجّه والمعلم ليقول لمن سيحاوره: "لو كنتَ مهنيًّا، ولو قرأتَ ما كتبتُه وفهمتَه جيداً، كان عليك أن تسألني هذه الأسئلة"، ووجدت ذلك من باب الاستهتار بالمتلقّي وفهمه، وهكذا يريد منه أن يفهم المقروء. والله كثير هيك يا فراس!
لفت انتباهي أن الكاتب أرفق في نهاية الكتاب قائمة بمراجع ومصادر اعتمدها؛ كتب، ومراجع أجنبيّة، ومجلّات وجرائد، ومواقع إلكترونية بما فيه الأنستغرام والفيسبوك واليوتيوب ممّا أضاف المصداقيّة لتحليلاته ونقده وتأمّلاته.
ملاحظات لا بدّ منها؛ في شهر أيار 2021 بدأ الشعب بانتفاضة الابتسامة حتى النصر؛ بدأت تظهر صور المعتقلات والمعتقلين، والشهداء، محاطين بجنود الاحتلال، كلّ وابتسامته، جاءتني ضحكات وابتسامات كلّ من التقيته من الأسرى، ابتسامة قاتلة للمحتلّ وللسجّان، تبثّ حريّة قادمة لا محالة، وراق للأسرى والأسيرات ما سميّته "انتفاضة الابتسامة"، وعقّب الصديق المقدسيّ إبراهيم جوهر في حينه "يعتقل الأبناء مبتسمين في تحدّ غريب، وكذا تفعل البنات... ويخرج الشّهداء من تحت الأنقاض مبتسمين. سقط جدار الخوف وبعبع الاعتقال بفعل ثقة جديدة وروح قوية بزغت من فجر القدس. "انتفاضة الابتسامة" أسماها المحامي الشّهم "حسن عبادي" وهو يواصل نقل ابتسامة المعتقلين في قلاع الحرية التي أريد لها أن تكون توابيت موت. انتفاضة الابتسامة... نِعمَ الاسمُ المعبّر المتحدّي. نَعَم إنّها ابتسامة الواثق"، وفوجئت بأن هذه الابتسامة وصورها غابت عن فراس وصفحات الكتاب.
من خلال متابعتي لإصدارات فراس في السنوات الأخيرة لمست أنّه يبذر بذرة في كتبه لإصداراته القادمة، نوع من البرومو، كي يخمّر الفكرة التي تعتمل في رأسه و/ أو ليجسّ نبض متابعيه ووقعِ الفكرة عليهم.