

استلام وتسليم
يقف أكرم أمام المرآة، يرتدي قميصه الأبيض بعناية، وكأنه يتهيأ لموعد مقدس. يمرر المشط بين خصلات شعره بتأنٍ، ثم يتوقف فجأة، ينظر إلى انعكاسه في المرآة. عيناه تحملان ظلَّ رجلٍ رحل، لكنه لم يغادر...
في ليلةٍ من ليالي نيسان عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين، كانت عين الزيتون تنزف تحت وابل القذائف
تهتز أزقتها تحت أقدام المذعورين،
. ويختلط صراخ الأمهات بزئير النيران التي تلتهم البيوت واحدًا تلو الآخر. كانت الريح تحمل أنين الجرحى كأنها تنوح معهم، فيما السماء الملبدة بالدخان حجبت حتى ضوء النجوم، وكأن الكون نفسه أدار ظهره للقرية.
لم يكن هناك متسع للدموع، فالخوف يسبقها، والهرب أضحى غريزة وحيدة في زمن سقطت فيه الخيارات. كان الرصاص يخترق الأبواب والجدران قبل أن يخترق الأجساد، والطرقات امتلأت بأقدامٍ هائمة تبحث عن ملجأ، عن معجزة، عن أي شيء سوى هذا الجحيم. كانت القرية تحتضر، ليس ببطء، بل كطائرٍ أصابه سهم في القلب فسقط، ولم يبقَ منه سوى ريشٌ مبعثر وصدى صوته الأخير.
في إحدى زوايا القرية، كان أبو صافي، السبعيني الكفيف والمشلول، مستلقيًا على فراشه المتهالك، يقاوم كل حركة في جسده المرهق، لكنه لم يستطع مقاومة الفزع الذي يملأ الأجواء. كانت الأصوات تتسلل إليه، خطوات مسرعة تتسابق على الأرض اللامتناهية، همسات خافتة تُختنق في الحناجر، ثم صرخات تنشق الهواء بمرارة. حاول أن ينهض، أن يستشعر الخطر الذي يقترب، لكنه لم يستطع سوى مد يديه المرتجفتين، متلمسًا الفراغ الذي يحاصره.
كانت القرية تغلي بالترقب، والقلوب تقفز في صدورها. الأخبار تتسارع: قوات الاحتلال تقترب. المجالس امتلأت بالهمسات الحذرة. الرجال اجتمعوا في ساحة القرية، بعضهم يحمل بنادق قديمة بالكاد تفي بالغرض، وآخرون يمسكون بفؤوس وسكاكين ترفرف في الهواء كما لو كانت أجنحة الموت. كانوا يتساءلون بصوت واحد: هل نقاوم؟ هل نهرب؟ أم ستكون هذه الليلة الأخيرة؟
عند بزوغ الفجر، اهتزت الأرض بانفجارات مدوية، تلتها صرخات مذعورة تتناثر في الأرجاء. دخل الجنود، أشباح سوداء لا رحمة في قلوبهم، يقتحمون البيوت كما لو كانت جحورًا مهجورة. دفعوا الرجال خارجًا، كقطعٍ من لحم مرمي، بينما جمعوا النساء والأطفال في الساحة، حيث الأعين المملوءة بالفزع تتسابق إلى السماء طلبًا للنجاة. النار أُطلقت بلا رحمة، والدماء غسلت الأرض كالسيول. الشوارع أصبحت مسرحًا للدمار، من تمكن من الفرار تاه في الطرقات الوعرة، يركض بلا هدف، بلا أمل. ومن بقي، سقط تحت ركام منزله.
في منزل أبو صافي، سُمِعَ صوت الباب وهو ينكسر بعنف، ثم اقتحم الجنود الغرفة. صرخاتهم بلغة غريبة امتزجت بأصداء الرعب في قلبه، لكن صوته كان صمتًا ثقيلًا. رفع يده المرتجفة في محاولة يائسة، لم يرَ شيئًا، لكنه شعر بحضورهم يكتسح المكان كظلٍ قاتم. بحثوا في كل زاوية، وجاءه أحدهم من خلفه، أمسك بكتفه ودفعه بقوة، فانهار جسده على الأرض، ورأسه ارتطم بحافة السرير. لحظة، ثم غابت الحواس في ظلامٍ عميق، كأن العالم توقف عند تلك اللحظة الوحشية..
مرّت ساعاتٌ طويلة في صمتٍ قاتل ، كان العالم من حوله قد تحول إلى خراب، لا يسمع سوى أنفاسٍ متقطعة تكاد تُفقده الشعور بالوجود. همس بصوتٍ مبحوح، يتسلل بين شفتيه بصعوبة: "باسمة... آية...". ثم جاءه صوتٌ خافت، مرعوب، (نحن هنا، أبي). كانت ابنتاه، تمسكان بيديه برفق، كأنهما تحاولان انتشاله من هوة العدم التي غرق فيها..
لم يكن في بيته، ولا في قريته، فقد أُخذ قسرًا من عالمه. في طريق التهجير القسري، كان جسده المسن يُلقى على عربة خشبية مهترئة، بينما سار الآخرون حافين، أقدامهم تترك آثارًا فوق الأرض الوعرة. كانت العربة تئن تحت ثقل الطريق، تتأرجح به في حركة غريبة، وكأنها تسأله في صمت: "هل تدرك إلى أين نحن ذاهبون؟". لكنه لم يكن واعيًا، غارقًا في حالة من السكون الموحش، كل شيء حوله يتلاشى، كل خطوة على الطريق كانت تأخذه إلى مجهولٍ غامض،
بينما هو عالق بين الماضي والمستقبل، استفاق للحظات، فشعر بألمٍ حاد في جسده قبل أن يغرق في غيبوبته من جديد..
كانت الرحلة طويلة، تستنزف الأرواح. سار الناس ساعاتٍ بلا رحمة، بعضهم حفاة وجوعهم يلتهم قلوبهم. كثيرون سقطوا على الطريق كأطيافٍ مفقودة. في منتصف الطريق، توقفت أم محمود فجأة، عادت بخطوات ثقيلة نحو عين الزيتون، حيث كانت
ذكرياتها. انحنت كأنها تودع شيئًا عزيزًا، حفنت قبضة من التراب، ثم سقطت على الأرض. لم يكن هناك وقت للحزن، فحملها الشبان بسرعة، حفروا لها قبرًا ضحلًا، ووضعوا بين يديها حفنة التراب التي تمسكت بها.
كان أبو صافي ممددًا كجسد فارغ، لا حياة فيه سوى أنفاس تتردد ببطء
بعد خمس عشرة ساعة من السير المرهق، توقفت العربة أخيرًا عند مشارف مدينة أردنية قريبة من الحدود.
كان المساء قد حل، وساد الصمت للحظة، كأن الجميع يلتقط أنفاسه الأخيرة. لم يشبه المكان أي شيء يعرفه أبو صافي؛ أصوات جديدة، لهجة مختلفة، وحركة غير معهودة،
كأنهم دخلوا إلى عالم آخر. سأل مجددًا، لكن الجواب جاءه هذه المرة مترددًا على لسان ابنته باسمة، التي قالت بصوت خافت:
-وصلنا-
أين؟ لم يسأل هذه المرة، لم يكن لديه القدرة على الاستفهام. لم يكن يريد إجابة قد تجره إلى حقيقة قاسية. ومع ذلك، شعر بشيء غريب، بشيء مختلف في هذا المكان. .
ثم انفجر قائلاً بلهجة قاسية: "هل خرجنا أم لا؟" سأل بشدة، . ارتبكت بناته، وتجنبوا النظر في عينيه علما بأنه كفيف . أقسموا على كتاب الله، هل خرجنا؟
قال وهو يلوح بيديه، عازمًا على أن يعرف الحقيقة. بعد لحظات من التردد، قالت باسمة بصوت ضعيف: "والله لم نخرج." ثم أضافت أختها، قائلة: "أقسم بالله على كتاب الله، لم نغادر." بينما كانت الأمانة تملأ أصواتهن، اطمأن قلب أبو صافي, وقد تأكد أنه ما زال في فلسطين، ما زال في عين الزيتون، صاحب الأرض الذي لا يغادرها..
بقيت تلك الكذبة، التي حلفتا بها على كتاب الله، تلاحقهما كظل ثقيل، يثقل قلبيهما كلما مرّ الوقت، يصرخ في داخل كل منهما شعور بالذنب والمرارة. كلما تذكرّتا اليمين الكاذب، كانت تلك الكذبة تتردد بينهما، كالسم الزؤام، يرفضان الاعتراف بالحقيقة خوفًا أن يموت.
لم يكن الوصول نهاية المعاناة، بل بداية فصل جديد من الألم والضياع. كل شيء حوله كان يشبه فلسطين بطريقة ما، وكأن الزمان توقف عند لحظة تهجيره. بناته- بحبهم الكبير- بنوا له جدارًا في المكان الذي يعيشون فيه، جدارًا يشبه تمامًا ذلك الجدار الذي كان يحيط بمنزلهم في عين الزيتون. كان يجلس بجانبه كل يوم، يستشعر تلك اللمسات التي بدت مألوفة لروحه. كانت الأشياء التي صنعوها تشبه كل شيء في وطنه المفقود: الجدران، والأرض، والظلال..
كل صباح، كان يجلس بجانب الجدار، يلمس حجارةً بيديه المرتجفتين وكأنها تعيد إليه شعورًا بالانتماء،. كان يظن أنه ما زال في داره، حيث الطمأنينة والمأوى، لكن الحقيقة كانت أنه في مكانٍ بعيد...
بعد سنوات، أصبح الشيخ أبو صافي حديث الإعلام العالمي، رغم كونه مشلولًا وكفيفًا. لم يكن يرى بعينيه، لكن بصيرته حملت أكثر مما يحتمله جسده المثقل بالألم. كانت قناعته راسخة بأن فلسطين لن تُحتل، وأن الاحتلال لا يصبح حقيقة لمجرد أن البعض لم يشهد عليه. انتشرت صورته على أغلفة المجلات، رجلٌ مسنٌّ بعينين غائبتين وجسد منهك، لكنه كان الطائر الوحيد الذي يغني خارج السرب، يردد بصوتٍ ثابت
أن الحرية لم تكن مجرد حلم، بل يقين انتصر على محاولة الاحتلال في عام ثمانية وأربعين، كما انتصرت فلسطين بصمود شعبها.
لم يكن أبو صافي مجرد رجل كفيف، بل كان بصره حاضرًا في ذاكرته التي تمسك بكل تفاصيل وطنه الفلسطيني المفقود. كان يروي للأجيال معاناته ومعاناة شعبه بلغة جديدة للمقاومة، لا تحتاج إلى الأسلحة أو القنابل، بل إلى الذاكرة التي لا تموت. حتى بعد أن فَقَدَ وطنه، كانت ذكرياته حية في قلبه، تروي قصص الزيتون.
أصبح الصحفيون يأتون من مختلف أنحاء العالم لتسليط الضوء على قصته، لكنهم لم يتوقعوا مقاومة من نوع آخر. كلماته فضحت زيف الوعود الدولية، وكان يصرخ بالحياة ويؤكد أن فلسطين لن تُحتل ما دام شبابنا العربي قويًا ومؤمنًا بوطنه. صوته كان يتردد في الأرجاء، يملؤه الأسى والعزيمة. ما ميزه هو قوته وعزته التي لا تقهر، معتقدًا أنه ما زال على أرض فلسطين يدافع عن ترابها المقدس بشجاعة وإيمان.
ورغم فقدانه لوطنه، عاش أبو صافي أربعين عامًا في أرضٍ غريبة , معتقدًا أنه لا يزال في وطنه. لم يكن يعلم أبدًا أن الأرض قد سقطت بيد المحتل، وظل يظن أن فلسطين باقية كما هي في ذاكرته. وعندما رحل، انتشرت قصته في الإعلام العالمي، ليصبح رمزًا للمقاومة الحية التي لا تتأثر بالزمان والمكان. كُتب على قبره: "هنا فلسطين ..هنا صوت الحق"، لتؤكد أن النكبة لم تكن سوى صفحة في قصة مقاومة طويلة ستستمر حتى يوم الجلاء.
شاشات العالم تعرض صور الشيخ أبو صافي، وصوته يردد كلماته الأخيرة. الناس متسمّرون أمام الشاشات، والبرنامج يُبث بعدة لغات.
المذيع:
"اليوم، الأول من يناير لعام ألفين وستة وعشرين، يجتمع العالم ليُصغي إلى صوت لم ينطفئ، بل أصبح إرثًا خالدًا. في هذه الحلقة، نستضيف أكرم، حفيد أول وآخر فلسطيني لم يستطيعوا احتلال أرضه.
أكرم:
كان أعمى، لكنّه رأى ما لم يره الكثيرون. رأى الحقّ عاريًا، رأى الخذلان متخفيًا في الكلمات المنمقة، ورأى أنّ الصوت أقوى من الرصاص حين يكون نابعًا من القلب.
اليوم، وأنا هنا، لا أتحدث باسم عائلتي فقط، بل باسم كل من ورثوا الكلمة والموقف. جدي لم يترك لنا ثروة، لم يترك لنا بيتًا فخمًا، لكنه أورثنا إرثًا لا يُثمّن… أورثنا القضية.
(لحظة صمت، ثم يخاطب العالم بصوت أقوى)
أيها العالم، في ذكرى رحيل جدي
نقف لنردد صوته الذي لم يسكت. لم يحمل سلاحًا، لكنه قاوم بالكلمة، بالموقف. مات مسددًا دَينَه أمام القضية، لكنه أورثنا جميعًا دَينًا أثقل: أن نقاوم، أن نرفض الصمت، أن نصرخ بما تبقى لنا من صوت. هو سلمنا القضية ونحن سنسلمها لأولادنا ولأحفادنا إلى أن نفنى ,فلسطين ليست ذكرى بل ندبة على جبين هذا العمر. قاوموا بكل ما أوتيتم من قوة
و إن طاف المذبح بالدماء، فلتعلموا أن قرباننا لا ينتهي حتى يعود الحق..