الثلاثاء ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم هشام يحيى حسام الدين

الإنسان الأخير

ما النور إلا فرقان بين الظلام والعمى، وما هسيس الرياح إلا آية الحياة من الموت، وما الشعور بالألم إلا سبيل لمعرفة إنسانيتنا، ألتمس أي شيء يجعلني مبصرًا وحيًا وإنسانًا، لكن كل شيء حولي ميت، بيتي أشلاء ممزقة تهاوت فوقي، الهواء مخنوق بالدخان والأتربة، عصافيري انطبق عليهم القفص هتَّك عظامهم الهشة - كان هذا آخر ما رأيته لحظة الانفجار- أحس يدي اليسرى مكبلة تحت حجر، هل ماتت؟ لا أشعر بأي ألم بها، ساقاي محشورتان بين الحائط وأجزاء متساقطة من السقف، وجفوني ملتصقة، وقد لعب الدم المعجون بالتراب دور الصمغ بينهم، لا أستطيع أن أفتح شفتاي من الوهن والخدر، لم تبقَ سوى يدي اليمنى وحدها حرة كطائر جريح، لم تكن المرة الأولى التي يُقصف بيتي فيها، لكنها المرة الأولى التي ينهار فيها فوقي، لم أهتم لتحذيرات الاحتلال بإخلاء مربعنا السكني، ولم أستجب لمحاولات جيراني لإثنائي عن البقاء و قبول النزوح معهم، فكان بيتي أنيسي الوحيد، فقد بنيته حجرًا حجرًا بعرقي وشقاء سنين، بنيته فوق أرضي التي ورثتها عن أبي الذي ورثها عن أبيه الذي ورثها عن أبيه، في صباي كان البيت طابقين، يسع أبًا وأمًا وثلاثة أخوة، أب استشهد في الانتفاضة الأولى، وأخ استشهد في الانتفاضة الثانية، وآخر غيبه المعتقل سنين طوالا، لم يتزوجا، تركا مهمة تعمير البيت على كاهلي، قالها لي أخي قبل اعتقاله: "الودعاء الطيبون يرثون الأرض، وأنت وديع مسالم، فلترثها وتعمرها بالبنين والبنات"

هكذا فعلتُ عمَّرتُ البيت بتوأم صبي وفتاة، وعندما انهدم البيت في 2009 وأكل معه أمي التي رفضت الخروج منه في آخر لحظة، وزوجتي التي كانت تحاول أن تجبرها على الخروج، ولم تمهلهما قذائف الاحتلال، عزمت على بنائه مرة أخرى، فبنيت بدلا من الطابقين أربعة، طابق لابنتي، وآخر لأخي المعتقل، وثالث لابني يتزوج فيه، والأخير لي، عشر سنوات في عمل مضنًى داخل أرضي وخارجها حتى بنيته، هأنذا أعمر الدار، أقاوم الموت الذي سلب أبي وأخي من بين يديَّ، كانت وسيلتي للمقاومة أن أحيا، لم أكن ماهرا يوما في حمل السلاح كأبي، لم أكن يوما شجاعا بما يكفي لأقف أمام دبابة لألقي حجرا كأخوتي، لم أكن يومًا سوى بذرة وجدت في صخرة، كل همها أن تنبت وتشق الصخرة لتعلن عن ميلادها، حية نضرة قادرة على الإثمار، وأردتُ لولديَّ أن يقاوما الموت بالحياة، فأرسلتهما ليدرسا الطب في دولة من دول الجوار، وظللتُ مع الدار وحدنا، تآلفنا وتواسينا، وها هي انطبقت عليَّ مثل القبر، لكن هيهات، إنَّ في يدي اليمنى بقايا قوة، عليَّ أن أُحييها وأبعثها، فها هي تتحرك تزيل معجون الدم والتراب من على أجفاني، ها هي تبحث عن هاتفي الخلوي في جيبي، لم يتهشم بعد، تضيئ كشافه، نوره يبدد الظلام وينكر العمى، ها هي تحرر يدي اليسرى من تحت الحجر، فاستعيد إحساسي بها وقد تكسَّر بعض عظامها، أزحف حتى أخرج ساقي من فخهما، أدفع عني الوهن والخدر، أصيح أصيح طالبا الحياة.

عندما أخرجوني من تحت الركام جلست على حجارة بيتي، الخراب يحيط بكل شيء، يُجَبِّرونَ يدي المكسورة، ويضمدون جراح الرأس، يتسلل نور الفجر رويدا رويدا لنفوسنا، وعلى خيوطه أرسم صورة للبيت الجديد الذي سأبينه، لن أجعله أربعة طوابق، بل خمسة، يجب أن أجعل طابقا كاملا لأحفادي يلهون فيه، وحين انتهوا من تطبيبي طلبوا مني أن أذهب للمشفى، لكني رفضت، قلت لهم أنا أدرى الناس ببيوت جيراني، سأقودكم إلى حجراتهم حجرة حجرة لنخرجهم، فَرَدْتُ قامتي وسِرتْ مع المنقذين، أهتف بأعلى صوتي: هل من حي هناك؟.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى