الباحث محمد جمال الطحان وجدلية العلاقة بين الثقافة والسياسة
المثقف وديموقراطية العبيد للباحث الدكتور ( محمد جمال طحان) واحد من الاصدارات الهامة التي عنيت بتأطير وبترجمة العلاقة بين الثقافة ومن يضطلع بمهامها ومسؤولياتها, وبين السياسة ومن يقوم على شؤونها في المجتمعات الإنسانية بعامة والعربية بخاصة.
يرى الدكتور( جمال) ان الكثيرين حاولوا إقامة جسور بين المثقف والسلطة, لكنها كانت جسوراً مهتزة وملغومة, وعرف السلطة بأنها قوة لتحقيق العدل والشرعية, دكتاتورية كانت أم ديموقراطية ,تقدمية, ثورية.
واستعرضَ واقع المواطن العربي اللاهث وراء لقمة العيش. هذا الواقع الصعب الذي خرجَ من أعطافه المثقف العربي مصدوماً بالهوة الفاصلة بين الشهادات الجامعية وتدرجاتها الصاعدة,, وبين رغيف الخبز الذي يبدو عصيّ المنال.
ووسط هذه المفارقات الآلمة كان لابد من وجود ثغرة واسعة بين التنظير والتطبيق, ان الثقافة كما ينصّ الباحث تبدأ من التعريفات العديدة لصانع الثقافة ومصدرها ,ألا وهو المثقف الذي يلمّ بشيء من كل شيء, أو من الفطن, مقوم الاعوجاج, أو من نمت لديه الملكات العقلية أو البدنية. والثقافة نفسها تتخذ لها مسارات ومستويات عديدة تبعاً لوظائفها في المجتمع,وعليه فهي إما ان تكون ثقافة متخلفة عن الواقع (ارتدادية) أو ثقافة متطابقة مع الواقع( سكونية),أو ثقافة متقدمة على الواقع.
وينفي الدكتور( جمال) نفياً قاطعاً ان تكون الصفة المهنية للانسان( طبيب, محام, مهندس) من مؤشرات اعتباره مثقفاً, لان مفهوم الثقافة يتجاوز الاختصاص الواحد الى عدة اختصاصات .
ف¯ (سارتر) يرى المثقف بأنه( إنسان يتدخل فيما لايعنيه). اما ظاهرة عزوف الجمهور عن الثقافة التي نلمسها حالياً, فيردّها المؤلف الى اللهاث خلف لقمة العيش, وضيق أفق المثقف احياناً, أو استخدامه لغة مغرقة في التخصص الاصطلاحي,
او انشغاله في قضايا لاتمسّ واقع الناس, فليس كل متعلم مثقفاًت, إنما كل مثقف هو بالضرورة متعلم.
إن مهمة المثقف الاساسية تتلخص في قراءة الواقع ونقده, ثم إعادة تشكيله عبر اسئلة الوجود المقلقة. وثمة فرق بين(المثقَف) بفتح القاف, وبين (المثقِف) بكسر القاف, الذي يقف في صفوف الجمهور المغلوب على أمره.
وفي أحسن الاحوال فإن العلاقة بين المثقف والجمهور هي علاقة مجاملة, ومهمة المثقف للارتقاء بهذه العلاقة وإكسابها المصداقية والثقة تنطلق من قنوات ثلاثة:
1- المصالحة مع الذات2- المصالحة مع المثقفين الآخرين3- المصالحة مع الجمهور.والمثققف مطالب بتحقيق الانسجام بين أقواله وأفعاله. فلا يجب أن (يعيش كما يفكر) في الخيالات والأوهام.ولايجب أن ( يفكر كما يعيش) إن من المؤلم لدينا أن يفكر
المثقف في اتجاه, ويعيش في اتجاه آخر.والضروري اليوم ان يتكاتف المثقف مع زملائه ويقف مفنداً محاولات تفكيرهم على سبيل المثال. وعليه قبول الرأي الآخر, وقبول الاختلاف والمحاورة فيه. واذا لم يفلح في إرساء هذه الأسس فسيعاني مثقفنا الاغتراب والانفصام والازدواجية, وسيصبح عاجزاً عن انتشال الجماهير من واقعها. والأخطر أن يغدو مفهوم الثقافة نسبياً لديه.فيكون مثقفاً في وسط الجامعة,وليس له شأن يذكر في أسرته.
ومن أهم مهام المثقف السعي الى الوضوح, ومخاطبة الجمهور بلغة وأداة توصيل يفهمها.
ويحدد الدكتور (جمال طحان) الفرق بين المثقف والسلطة بأن الاول يدافع عن المثل القيمية. والثانية تدافع عن الواقع العيني المصلحي اليومي.فهو يجسد(الثابت) في الحياة,, وهي تجسد( المتحول).
لذا يبدو طبيعياً ان تكون الثقافة أداة رقابة صارمة على السياسة, اما العكس فمرفوض. ومن المؤسف ان السلطة في العالم الثالث تحارب المثقف والحرية ذاتها.
ويطرح الباحث في ثنايا أطروحته سؤالاً هاماً: متى يكون المثقف العربي فاعلاً بحق?
ويجيب:حينَ ينعم بالحرية وتكف مصادر السلطة السياسية والاقتصادية عن محاربته في لقمة عيشه.
في الجزء الثاني من الكتاب يفرد الباحث محمد جمال طحان باباً واسعاً لاستعراض مفهوم (الديموقراطية) و(الثقافة), من وجهات نظر بعض المفكرين والباحثين البارزين امثال السادة: الدكتور نعيم اليافي,الاستاذ انطون مقدسي, الدكتور علي عقلة عرسان. حيث يعرجون في سياق آرائهم وندواتهم التي تعنى بالشأن الثقافي على قضايا فكرية هامة مثل التطبيع ومعانيه السائدة, والعلاقة بين ( المطبّع),(المتطبّع). وسبل مكافحة هذه الظاهرة التي تعكس حالة من حالات الغزو الثقافي والتبعية الحضارية للأقوى.
ولشروطه. كما نلمس من خلال الآراء(التي يقتفي أثرها الباحث بدقة ويلتقطها بمهارة) توضيحاً لسمات ثقافة المواجهة المطلوبة, والتي هي سلاحنا الأمضى في وجه التطبيع والداعين اليه.و من هذه السمات الاهتمام بإحياء التراث العربي والاحتفاء بالمعطيات الحضارية الراهنة.
وثمة مشكلة اساسية يعاني منها المثقفون في البلدان المتخلفة حضارياً, تتبدى في التناقض بين الثقافة والاعلام الذي يعتبره المثقفون التقدميون مفهوماً زئبقياً متحركاً وعليه فالثقافة تجسّد ماهو استراتيجي في الفكر والمبدأ, اما الإعلام فيمثل ماهو تكتيكي مرحلي آني, قد يتناقض مع تطلعات الأمة.
ويرى الدكتور( محمد جمال طحان) انه ليس بالضرورة اعتبار كل مثقف معارضاً, وليس هدف الثقافة المعارضة الدائمة للسلطات, لأن المثقف مسؤول بشكل أو بآخر عن تنصيب السياسي في مكانه. وتكمن احدى اسباب ازمة المثقفين العرب في التحزبات السياسية بين ماركسي, إسلامي, ليبرالي, قومي. اما الحل المطروح إزاء هذه الازمة فيتم عبر السعي الى بناء الديموقراطية, ونقد الذات ومراجعتها. والاتفاق على المبادىء والثوابت التي تحفظ ماء وجه الأمة.
لقد قدم كتاب( المثقف وديموقراطية العبيد) مشروع( ورشة عمل) حدد من خلاله عناوين وأطر ينبغي لكل مثقف عربي أن يؤمن بها ويقتنع بجدواها في النهوض بمجتمعه الى حالة السلام والتوازن المنشودين.
ولعل خير ما ختم الباحث الدكتور محمد جمال طحان بحثه فيه عبارة نقلها عن الاستاذ انطون مقدسي في ندوة فكرية له , اذ قال :
«اذا أردتَ ان تكون مثقفاً, فعضّ على إصبعك وناضل».