الأحد ٧ تموز (يوليو) ٢٠١٩

التكنولوجيا والعالم العربي

سعيدة شريف

تعيش المجتمعات العربية منذ بداية الألفية الثالثة مجموعة من التحوّلات والتغيرات التي قد نعي بعضها ونواكبه من منطلق خصوصية كل منطقة، ولكن هناك تحولات انخرطت فيها المجتمعات العربية مرغمة، وهي التحولات المعرفية والتكنولوجية التواصلية، التي انساقت وراءها مجتمعاتنا صاغرة، لأنه إما أن نواكب العصر ونتواصل بالشكل الحداثي والتكنولوجي المطلوب، أو يفوتنا الركب، ونظل حبيسي معرفة ولّى عنها الدهر في عصر تحول فيه العالم إلى قرية صغيرة، وظهر فيه نموذج جديد من العلوم التي أعادت بناء وتفسير العالم على نحو جديد، خاصة ما تعلق بثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (الحاسوب والإنترنيت).

لكن هل تشربنا فعلا هذه التكنولوجيا؟ وهل نحسن استخدامها؟ وهل نعي مساق المجرات التي تأخذنا إليها هذه التكنولوجيا المتطورة، أم إننا مجرد مستهلكين لتكنولوجيا لم نسهم كعرب في تطويرها لا من بعيد ولا من قريب؟ هذه بعض من الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن حين طرح هذا الموضوع بمختلف أبعاده الثقافية والفكرية والسوسيولوجية خاصة، لأن هناك نوعا جديدا من المجتمعات صار يتشكل بفضل شبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما أطلق عليه عالم الاجتماع الإسباني مانويل كاستلز، المنظر السوسيولوجي لفضاء الشبكات الافتراضية، بـ "مجتمع الشبكات"، هذا المجتمع الذي لم يجد بعد اهتماما واسعا من قبل السوسيولوجيين العرب الذين ما زالوا منهمكين في دراسة واقع المجتمعات العربية، في حين بدأت هناك مجتمعات أخرى تتشكل في الفضاء الافتراضي، قلّ من يلتفت إليها بدراسات علمية جادة.

ولهذا، فالحديث عن الآثار الاجتماعية لمجتمع الشبكات الافتراضية في العالم العربي، يعدّ مغامرة في حد ذاتها، خاصة وأن هذه المجتمعات لم تشارك في مغامرة الحداثة وصناعة الزمن الحديث، ولكن الأزمنة الحديثة وقعت عليها، كما أنه لا يوجد بعد مجتمع افتراضي تماما، أو حتى مجتمع تسود فيه سمة الشبكي/الافتراضي في المطلق، لأنه على الرغم من تزايد عدد مستخدمي شبكة الإنترنيت في العالم العربي (182 مليون مواطن في الشرق الأوسط يصلون إلى الأنترنيت، ما يعني 71 في المئة من سكان المنطقة في عام 2018 حسب تقرير منصتي هوت سويت ووي آر سوشيال)، فإن هناك أعدادا هائلة من العرب مستبعدين من مجتمع الشبكات، بسبب الحروب، والتهميش، والافتقار إلى البنيات الأساسية والمهارات والتعليم. ومع ذلك، فإن السوسيولوجيا العربية اليوم مدعوة أكثر من غيرها من العلوم، كي تقوم بدراسة وتحليل مختلف ظروف الحياة التي يعيشها الأفراد في الفضاء الشبكي والبيئة الافتراضية والفضاء الهجين المتشابك بين الواقع والافتراضي، والذي سماه كاستلز فضاء الاستقلالية، والذي أصبح يُكوِّن ويشكِّل نوعا جديدا من التآلف الاجتماعي التكنولوجي.

ومن هنا، فإن تخصيص مجلة "ذوات" الثقافية العربية الإلكترونية الشهرية، الصادرة عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" ملف عددها (56) لموضوع "المجتمعات العربية... من الواقعي إلى الافتراضي"، يأتي لتسليط الضوء على هذا الموضوع، وعلى الإشكالات المحيطة به، المتعلقة بالمجتمعات العربية، التي تعيش مرحلة انتقالية بكل المقاييس، انتقالا من فضاء الأماكن إلى فضاء الشبكات الافتراضية، ومن الاستبداد إلى الحرية، ومن الفردي إلى الجماعي، ومن الفائت إلى الرّاهن، ومن الخاص إلى العام، ومن الاتفاقي إلى الخلافي، والعكس بالعكس.

ويتضمن ملف هذا العدد من مجلة "ذوات"، الذي أعدته الباحثة والأكاديمية المغربية بشرى زكاغ، مقالا تقديميا لها بعنوان: "سوسيولوجيا الشبكات الافتراضية في سياق التحولات التكنو- اجتماعية العربية"، أربع مساهمات؛ الأولى للباحث والأستاذ الجامعي الليبي علي محمد رحومة، المختص في المعلوماتية وعلم الاجتماع الافتراضي، تحت عنوان: "المجتمعات العربية والتمثل الشبكي الافتراضي"؛ والثانية لأستاذ العلوم السياسية بجامعة الإسكندرية أحمد تهامي عبد الحي، بعنوان: "تحولات الجيل الشبكي في العالم العربي"؛ والمساهمة الثالثة هي للباحث السوري وأستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة السوربون باريس 1 خلدون النبواني، تحت عنوان: "التكنولوجيا والانتقال من الواقعي إلى السيمولاكر"؛ ثم المساهمة الرابعة، وهي للأكاديمي العراقي علي طارق العمري، العميد السابق لكلية طب الأسنان بجامعة كربلاء، والمهتم بربط العلوم الطبية بالعلوم الإنسانية، تحت عنوان: "فنومنولوجية اللغة كجلد: في الحاجة إلى تفكير منظومي محايث لعصر الشبكات". أما حوار الملف، فخُصّص للأكاديمي والمحلل السياسي السوداني عباس محمد صالح عباس، المتخصص في الشؤون الإفريقية، خاصة قضايا الحركات الإسلامية والسياسات الدولية والإقليمية، فضلا عن الإعلام الجديد، والذي أفرد للحديث عن مجال عام جديد انتزعته الجماهير عنوة، بفعل الفرص التي وفرتها الشبكات الافتراضية للمواطنين، وليس نتاج عقد اجتماعي أو نزعة دستورانية راسخة بالمعنى الذي نظّر له "هابرماس"، موضحا أن روح التحرر التي غرستها ثورات "الربيع العربي" المتأثرة بعصر الشبكات حتما ستتفاعل، وتنتج أنواعا من الصراعات تتفاوت في النوع والحدة، ولكنها صيرورة تاريخية ستستمر صعودا وهبوطا.

وبالإضافة إلى الملف، يتضمن العدد (56) من مجلة "ذوات" أبوابا أخرى، منها باب "رأي ذوات"، ويضم ثلاثة مقالات: "سوسيولوجيا الشبكات الافتراضية في سياق التحولات التكنو- اجتماعية العربية" للباحث المغربي في العلوم الاجتماعية الطاهر بكني، و"الفعل الاحتجاجي بالمغرب والأدوار المتنامية لشبكات التواصل الاجتماعي" للباحث المغربي في العلوم السياسية رضوان قطبي، و"الإسلام مُختطـفًا" للكاتب والباحث المصري محمود كيشانه؛ ويشتمل باب "ثقافة وفنون" على مقالين: الأول للأكاديمية المغربية المتخصصة في الدراسات الشرقية والجندر، الدكتورة فاطمة واياو بعنوان: "السرد النسائي في المنفى: غربة الذات وتشظي الهوية"، والثاني للباحث المغربي والمترجم في البلاغة العربية والغربية الدكتور محمد الولي بعنوان: "الهوية الثقافية المفتوحة".

ويقدم باب "حوار ذوات"، لقاء مع الروائي اللبناني إلياس خوري، أحد أهم الأصوات الروائية البارزة في العالم العربي، لديه العديد من الروايات والأعمال النقدية، ينتمي إلى المدرسة التحديثية والتيار التجريبي ما بعد الكلاسيكي المتزامن مع الإخفاقات والنكسات العربية في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي. الحوار أنجزه الكاتب والمترجم التونسي أسامة سليم. أما "بورتريه ذوات" لهذا العدد، فقد خصصناه لعالم الاجتماع الإسباني مانويل كاستلز، المنظر السوسيولوجي لفضاء الشبكات الافتراضية، الذي جمع بين خلفيته السوسيولوجية والسياسية معا، وعمل على توظيف ذلك في تقديم رؤية شاملة لجملة من المتغيرات الآنية؛ وعلى رأسها شبكات التواصل، حيث بلور مفهوم "مجتمع الشبكات"، والذي عدّ من قبل العديد من المنظرين نظرية معاصرة، ترتبط بالمتغيرات التي يمرّ بها المجتمع العالمي. البورتريه تحت عنوان: "مانويل كاستلز: سوسيولوجي الاتصالات ومنظر المجتمع الشبكي"، وهو بقلم الدكتور والباحث المصري عادل عبد الصادق، الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية - وحدة دراسات الإعلام والرأي العام.

وفي باب "سؤال ذوات"، يستقرئ الكاتب والإعلامي التونسي عيسى جابلي، آراء مجموعة من الكتاب والباحثين العرب حول المجتمعات العربية وشبكات التواصل الاجتماعي، وتحديدا: كيف أثّرت مواقع التواصل الاجتماعي في الإنسان العربي؟ وفي "باب تربية وتعليم" يتناول الباحث المغربي المهتم بقضايا التربية والتعليم أحمد منصور موضوع راهنيا يتعلق بـ "الغشّ في الامتحانات وبناء التمثلات"، فيما تقدم الكاتبة والأكاديمية المصرية هويدا صالح قراءة في كتاب "الاستشراق" للمفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، الصادرة ترجمته العربية الجديدة للدكتور محمد عناني عن دار "رؤية للنشر والتوزيع"، وذلك في باب كتب، والذي يتضمن أيضاً تقديماً لبعض الإصدارات الجديدة لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، إضافة إلى لغة الأرقام، المخصصة لأحدث تقرير لمنصتي هوت سويت ووي آر سوشيال (We Are Social et Hootsuite) عن عالم وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الاجتماعي ومواقعه وتطبيقاته بشكل عام.

سعيدة شريف

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى