الأربعاء ٢ حزيران (يونيو) ٢٠٢١

التّشذير والتّقطيع في آيس كريم رجاء «لعبد اللّه المتّقي»

محمّد بوحوش

1- تقديم الكتاب:

"آيس كريم... رجاء": مجموعة مختارات قصصيّة قصيرة جدّا لعبد اللّه المتّقي، صادرة خلال الثّلاثيّة الثّانية من سنة 2021 عن دار الكتاب بتونس في 180 صفحة من الحجم المتوسّط. تضمّنت 157 قصيصة. صفحة غلافها موشّى بلوحة للفنّان التّشكيليّ المغربيّ إدريس العماراتي. خصّها الشّاعر والرّوائيّ التّونسيّ الأستاذ لطفي الشّابيّ بتقديم في ستّ صفحات، وأهداها كاتبها إلى جمال بوطيب رائد القصّ الوجيز في المغرب. ثمّ شفعها بمقولة لهنري ميللر تدعو إلى الانتهاك وممارسة جنون الكتابة والقطع مع كلّ ما هو كلاسيكيّ ومكرور"حبّذا القولة هذ". أمّا في أوّل المتن فقد عمد عبد اللّه المتّقي إلى تقديم 13 وصيّة لكتابة القصّة القصيرة جدّا أهمّها معرفة الكثير لكتابة القليل وتجنّب الثّرثرة والإطالة والاشتغال على القفلة، وكتابة خصوصيّة الذّات وتشريك القارئ وغير ذلك ممّا ارتآه الكاتب من وصايا لكتابة القصّ الوجيز. وتجدر الملاحظة إلى أنّ هذه المختارات انتقاها عبد اللّه المتّقي أو تخيّر جلّها من مجاميعه السّابقة وأهمّها الكرسيّ الأزرق، قليل من الملائئكة، ومطعم هالة ولسان الأخرس، وقبّعة غريغوري وحكايات مفخّخة بالاشتراك مع القاصّ محمّد بوحوش.

تختتم المجموعة بشهادات موسومة ب:"كتبوا، كتبن"وفيها سطور عن تجربة المتّقي من قبل ثلّة من الأدباء هم تباعا الدّكتور عبد اللّه أشهبون من المغرب، الدّكتور يوسف حطيطي من فلسطين، الدّكتور امحمد أمحور، المغرب، الأديب أمين دراوشة، فلسطين، الدّكتور فتحي بن معمّر من تونس، النّاقد أحمد الحسين من سوريا، الدّكتورة مينة قصيري، النّاقد علي عبده قاسم من اليمن، الأديب عبد الغني فوزي من المغرب، الشّاعرة سلوى الرّابحي من تونس، الكاتبة فاطمة بن محمود من تونس.

ويذكر أيضا أنّ الشّاعر والقاصّ عبد اللّه المتّقي يعدّ من أهمّ كتّاب القصّة القصيرة جدّا في المغرب والوطن والعربيّ وأحد أعلامها المجدّدين الذين قدّموا أنماطا مغايرة في هذا النّوع شاقّين غمار التّجريب وتجاوز كلّ ما هو تقليديّ إن على صعيد المضمون أو على صعيد الشّكل.

2- القصّة القصيرة جدّا ومجموعة الآيس كريم رجاء:

لا جدال في أنّ القصّة القصيرة جدّا أصبحت من ضمن الأجناس السّرديّة اللاّفتة للانتباه من حيث اهتمام النقّاد بها والحظوة التي تلقاها لدى القرّاء تماشيا مع عصر السّرعة والتّدوينات القصيرة المنتشرة في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، ومن حيث أنّ القصّة القصيرة جدّا جالبة للقرّاء نظرا لتكثيفها وقفلتها المدهشة والمربكة بالخصوص."آيس كريم.. رجاء"تعدّ من المجموعات القصصيّة التي تستدعي القراءة بكثير من الإمتاع واللّهفة. ولعلّ المثير فيها هو الشّكل الذي اعتمده كاتبها من حيث التّوزيع البصريّ والتّقطيع والتّشذير. سمة أساسيّة في هذه الأضمومة تشي بتجاوز القصّ الإنشائيّ المسترسل طموحا للتّجديد وتجاوزا للتّقليديّ شكلا ومضمونا. ولعلّ الكاتب يهدف من وراء ذلك إلى التّركيز على التّكثيف وتجنّب التّفاصيل المملّة والحذف ومحاولة تشريك القارئ في إتمام المعنى وتأويله على أوجه مختلفة. حيث إنّ التّشذير لغة مصدره شذّر وممّا يعنيه خاصّة: تشذير العقد أي الفصل بين حبّاته. والشّذر الذي على جمع شذور هو القطع من الذّهب أو المعدن. وما يقال من شذر ومذر بمعنى تركيب يفيد التّفرّق والتّشتّت. وفي اللّغة أيضا تشذّر القوم: أي تفرّقوا واختلفت مذاهبهم.

هكذا تعتمد القصّة الشّذرية عند عبد اللّه المتّقي على مجموعة من الآليّات، منها: آليّة التّقطيع، وآليّة التّرقيم، وآليةّ التشظّي، وآليّة التّخييل، وآليّة التّوليد والتّناسل. وهو ما سنبحثه بالتّفصيل في مجموعة آيس كريم... رجاء. هدفنا من ذلك تبيان المستحدث والمستطرف شكلا ومضمونا من خلال دراسة نماذج من القصص وهي أغلبيّة في هذه الأضمومة لغاية عرض جلّ أنماط التّشذير والوقوف عند دلالاتها.

4- أنواع التّشذير في آيس كريم رجاء:

القصّة الشّذريّة، هكذا يسمّيها النّاقد المغربي الدّكتور جميل حمداوي. تعتمد الكتابة الشذرية على مجموعة من الآليّات، أشرنا إليها سابقا. فمن سماتها إذن التّشذير البصريّ القريب من الشّعر ولاسيّما قصيدة النّثر وكذلك التّشذير الأغراضي أو الموضوعاتي في قصيصات منفصلة ومتّصلة. إضافة إلى التشذير المعتمد على نقاط الحذف الدالّة على الصمت والبياض والفراغ والتّكثيف، ثمّ التّشذير الفنيّ أو الجماليّ المعتمد على استخدام الصور والتّضمين والإحالات والتّناصّ.

4-1- التّشذير باعتماد ظرف الزّمان: ومن نماذجه: قصّة جثّة جافّة هذا الصّباح (ص15): في الصّباح/ في صباح اليوم الثّاني.

قصّة بؤبؤ (ص 28): في جوف الحلم/ في أوّل المساء/ بعد العشاء.
شاطئ الحلم (ص29): في المساء/ في اللّيل / في صباح الغد.
قصّة الزّفت (ص 47) العاشرة صباحا/ في الزّوال.
قصّة نهايات (ص52): السّابعة صباحا/ السّابعة وتسع دقائق/ السّابعة وعشرون دقيقة وثانيتان/ العاشرة صباحا / وفي منتصف النّهار.
قصّة غامر وتوقّع (ص 77): في اليوم الأوّل/ في اليوم الثّاني/ في اليوم الثّالث/ في اليوم الرّابع.
قصّة انتظار (ص109): باكرا وصباحا/ السّابعة إلّا ربعا/ الحادية عشرة/ الرّابعة زوالا/ وفي الصّيف القادم.
قصّة فئران (ص124): السّابعة صباحا/ السّابعة ودقيقتان/ السّابعة وربع/ التّاسعة صباحا/ العاشرة صباحا/
قصّة عزاء (ص135): في ذلك الصّباح / بعد مراسم الدّفن.
قصّة المعقول (ص132): بعد الظّهيرة / في اللّيل/ وبعد منتصف اللّيل.
إنّ التّشذير باعتماد ظرف الزّمان وأحيانا بالمزاوجة بينه وبين ظرف المكان كما هو في قصّة انسلاخ (ص158) وغيرها إنّما هو انتقال من معنى إلى آخر، ومن حالة إلى أخرى حيث الزّمن لا يكون دائما مقياسا رياضيّا بل هو حالة نفسيّة معيشة أو هو زمن هلاميّ مطلق، وحيث الاتّكاء على ظرف الزّمان يؤدّي إلى سلاسة في البوح ووصل الدّلالات المنفصلة بفعل ذلك التّشذير الزّمنيّ.
ومن تلك العيّنة هذه القصّة الموسومة ب"نهايات":
السّابعة صباحا: رجل يئنّ وحبّات عرق تتصبّب من جبينه.
السّابعة وتسع دقائق: يتناول الرّجل دواءه بالكاد.
السّابعة وعشرون دقيقة وثانيتان: تبدو عينا الرّجل ممتلئتين بالموت.
العاشرة صباحا: الرّجل بارد في المستشفى.
...... وفي منتصف النّهار. كان الرّجل يقرأ في مقهى"البارناص"، خبر جثّته التي نهشتها الفئران في مستودع الأموات.

4-2- التّشذير باعتماد ظرف المكان: حيث نعثر على عدد هامّ من القصيصات أهمّها:

قصّة سمكة حمراء (ص20): في عربة القطار/ في الغرفة رقم11.
قصّة خيانة (ص 23): في غرفة النّوم/ في جيب المعطف/ في قاعة الانتظار.
قصّة طريق (ص42): في شقّة ما/ في مصحّة نفسيّة ما.
قصّة الرّجل والمروحة (ص59): في الشّارع الفارغ/ في جهة ما من العالم.
قصّة لوحات (ص73): في المرسم/ على كرسيّ كلاسيكيّ/ بداخل اللّوحة هناك.
قصّة ساكورا (ص 143): في حديقة عموميّة/ على الكرسيّ المقابل.
قصّة قبر الأحلام (ص157): في مقبرة منسيّة ما/ هناك/ داخل هذه العتمة.
قصّة انسلاخ (ص158): في الحمّام/ في بيت النّعاس.
قصّة ميتات (ص163): فوق الأريكة الزّرقاء/ في المطبخ/ في غرفة لنّوم/ في الشّارع.
هكذا يكون المكان، تنويعا وانتقالا، سمة رئيسيّة في عديد القصيصات كآليّة لدفع سيرورة الحدث ونموّ الخيط الدّراميّ، والتحوّل من حالة إلى أخرى حيث المكان وعاء للدّلالة، وجزء من خاصيّات الشّخوص بل هو كساؤها. فضلا عن كون الأمكنة والأزمنة تتداخل وتتشابك كما هو الحال في قصص: اغتيال (ص74) وقصّة حياتي (ص 97) وقصّة بندولان (ص98) إلى حدّ يمكن معه الحديث عن وحدة متكاملة ومتداخلة هي الزّمكان الواقعيّ والنّفسيّ والمشهديّ. ومن شواهد ذلك هذه القصّة التي تحمل عنوان"بندولان": 1- رجل جمع حقيبته، ثمّ خرج يبحث عن محطّة للحافلات. 2- في نفس اليوم، رزمت امرأة صرّتها. ثمّ خرجت تبحث عن مطار.3- هناك في المقهى... رجل نسي موعد المقهى. وفي جيبه ساعة يدويّة ببندول واحد.

4-3- التّشذير باستعمال الضّمائر: ومنه نورد قصص:

نافذة القطار (ص 38): هو/ هي.
فتوى (ص115): هو/هي
سندريلا (ص140): هو/ هي
مساء الماء (ص154): هي/ هو
حرقة السّرد (ص 173): هو/ هي

يستعمل الكاتب آليّة التّشذير بواسطة الضّمائر هو وهي أو هي وهو لغاية التّكثيف واختزال الحوار بما يجعله نائيا عن التّفاصيل والنّعوت والشّروح ممّا لا تحتمه القصّة القصيرة جدّا. فالحوار مبنيّ إذن على ثنائيّة الهو والهي حيث يساهم في عرض الأفكار والمواقف والتّناقض في وجهات النّظر، وخدمة التوتّر وصولا إلى حالة الانفراج أو الانفجار لحظة القفلة. وكشاهد على ذلك هذه القصيصة"فتوى":

هو: كان مستلقيا فوق السّرير، يلاعب لحيته المشتعلة شيبا.
هي: كانت في المطبخ تنظّف مخلاته من بقايا العلف.
هو: يتنصّل من ملابسه، و.. يكحّ كي يذكّرها بساحة السّرير.
هي: توغّلت الكحّة فيها كما السكّين، وتحرّكت صوب الغرفة بكثييييير من ا ل ق ر ف.

4-4- التّشذير الألفبائي: يعدّ التّشذير الألفبائيّ من الأساليب المتواترة التي وظّفها عبد اللّه المتّقي. وهو بذلك يقطّع موضوع السّرد إلى وحدات تفاعليّة تظهر في شكل قصيصات مستقلّة لكنّها موصولة المعنى. وليس استخدامه لهذا النّوع من التّقطيع إلّا كتقنية للانتقال من وضعيّة إلى أخرى ومن معنى إلى آخر، ومن مشهد ومن موقف إلى آخر. هنا يصبح التّشذير الألفبائيّ منسجما مع موضوع القصّة موزّعا إيّاها بصريّا بطريقة تروق للقارئ وتسهّل عليه عمليّة الاستيعاب، ونظم المعاني المتشظّية في عقد غرضيّ واحد. ويمكن أن نستدلّ على ذلك بنماذج عديده منها:

قصّة مسدّس (ص31) ومرآة الموت (ص44): ألف/ باء / جيم- انتفاخ (83): ألف دون نقطة/ باء تحتها نقطة/ التّاء فوقها نقطتان.
قصّة قفّاز أنيق (ص 96): ألف/ لام- وقصّة حياتي (ص 97): ألف/ باء.
قصّة فيروس ص (152): جيم/ دال / هاء/ واو
قبر الأحلام (ص157): أ/ ب.

4-5- التّشذير بواسطة الأرقام أو الأعداد: وهو السّمة الأكثر تداولا ووضوحا في عديد القصص التي سنعرضها لاحقا. هل يبدو الأمر مثيرا للانتباه أو مفتعلا أو هو يبدو مقصودا وعن وعي ودراية؟ أعتقد أنّ لجوء القاصّ عبد اللّه المتّقي لهذه العلامات هو من قبيل تجزئة الوحدة السّرديّة الكليّة وتفكيكها إلى عناصر سرديّة متكاملة. الغرض من ذلك أيضا هو عرض الحالات والمواقف المتشظّية والمتنافرة والمتناقضة، وكبح جماح فائض الزّاد اللّغويّ ذي العلاقة بالتّفصيل والاستدراك والتّوضيح. حتّى يكون السّرد في وحدات نوويّة أي في قصيصات تؤلّف في مجموعها قصّة خالية من نمش حروف العطف والاستدراك والتّفسير ومن المحسّنات البلاغيّة والفضفضة لغة ومعنى إلى حدّ يجعل من هذه الأقاصيص ما يماثل أشجار مهذّبة ومشذّبة بطريقة حرفيّة. لا شيء يكسوها سوى المعنى المراد تبليغها في اقتصاد لغويّ صرف وحيّز فضائيّ محدود. من نماذج هذا التّشذير المعتمد على الأرقام نورد القصص التّالية متبوعة بعلاماتها التّرقيميّة:
المحكمة الحمراء (ص20): 1/2/3- خيانة (23):1/2 – عربة (ص 32): 1/2/3/4 - خجل (ص40): 1/2/ - أوديب (46): 1/2/3/4 - عواء (ص48): 1/2/3/4 - موت أبلق (ص56): 1/2/3/4 - لوحات (ص73): 1/2/3/4 – اغتيال (ص74): 1/2/3 - مقتل الرّجل الوجيز (ص 81): 1/2/3/4 - حذاء الذّكريات (ص 86): 1/2/3- بندولان (ص 98): 1/2/3 – حرب (ص100): 1/2/3 – تطهير (ص 113):1 /2/3/4/5/6 - عجب العجاب (116): 1/2/3 - فان كوخ (119):1/2 - ثدي (ص120): 1/2/3/4 - لعب (ص 123): 1/2/3/4 - خرافة (127): 1/2/ 3- هستيريا (129): 1/2/3- غدّة (134): 1/2/3/ صدغ الموت (137):1/2/3 - مدينة القصّة (139): 1/2/3/4/5 – عضّة (144): / واحد/ اثنان - خطر (146): 1/2/ 3 – انسلاخ (158): 1/2/3/4 – زهايمر (159): 1/2/ 3- وجبة (160): 1/2/3/4/ 5- لا أحد (ص 172): 1/2/3/4.

4-6- التّشذير باستخدام الشّخصيّات والصّفات الدّالّة عليها: من ذلك قصص:
فلسفة (ص16): رجلان/ الأوّل/ الثّاني- قوارير زرقاء (ص 37): السيّدة الأولى/ السيّدة الثّانية/ السيّدة الثّالثة/ السيّدة الرّابعة - خجل (ص40): الرّجل / المرأة- جنون معقلن (ص 53): رجل بلحية/ النّادل / المخرج - غرقى (ص 66): المعلّم/ الطّفل/ الأطفال – قلق (ص94): الطفل/ الأمّ - أعور (ص 102): طفل/ طفل ثان/ بنت - غموض (170): جدّي/ جدّتي/ الحفيد.

4-7- التّشذير وفقا للمشاهد: سبق وأن أعددت دراسة حول مجموعة"قبّعة غريغوري"للقاصّ عبد اللّه المتّقي تناولت المشهديّة في قصصه. والمشهد هنا في هذه المنتخبات يحيل مباشرة وبالخصوص على ما هو سينمائيّ أو مسرحيّ أحيانا. إذ يعمد المتّقي إلى تقطيع قصصه بطريقة المشهد المتضمّن للصّور والحركة والإطار والشّخوص والأحداث. لكأنّنا أمام سيناريو أو كاميرا متنقّلة توثّق لحالة أو منظر أو موقف أو لقطة أو مشهد. فعديد الأقاصيص مبنيّة على هذا المنوال ومنفتحة على الفنون البصريّة من سينما ومسرح وفنّ تشكيليّ وغير ذلك. وكمثال على ذلك اكتفي بالإشارة إلى بعض القصص: اندغام (ص17) – مشهد سرياليّ (19) -حمام (ص 60) - الحذاء الأمريكيّ (ص61) – وجبة (ص 160) والكثير من النّماذج الأخرى التي تحتفي بالمشهديّة. فتكون القصّة بمثابة لقطات سينمائيّة أو مشاهد متتالية مقطّعة تؤلّف حكاية قصيرة جدّا.

وكمثال على ذلك هذه القصّة الموسومة ب"مدينة القصّة"(ص139)، وفيها يقول القاصّ:
في عري اللّيل كان المشهد كما يلي:

1- محطّة لا تنام- 2- سكّة بقضبان لا متشابهة -3- حارس حادّ الطّباع-4- مصباح ملوّث-5- حقيبة بلون الحلم- ورجل يريد أن يسافر إلى مدينة غير موجودة إلّا في رأسه.

4-8- التّشذير باستدعاء الحوار: يعدّ الحوار من مقوّمات القصّة القصيرة جدّا في أحيان كثيرة لدى عبد اللّه المتّقي. وهو أسلوب يختصر القول ويوزّع الأدوار والأفكار بين شخصيتين فأكثر أو في شخص واحد في إطار شخصين متشظّيين عبر الحوار الدّاخليّ. وقد استخدم الحوار في أحيان كثيرة لاستنطاق الشّخوص واختزال المعنى، والاستعاضة عمّا هو إنشائيّ وتقريريّ ولغاية ديناميّة الحدث، وعرض سمات الشّخوص وأفكارهم ومواقفهم. وفي هذا الصّدد نستدلّ ببعض النّماذج التّالية: قصّة أصابع الكتابة (ص 14) حوار بين الحفيد والجدّة - فلسفة (ص 16): حوار بين رجلين - جنون (ص22): بين السّائق والرّجل- قوارير زرقاء (ص 37) استخدام الحوار غير المباشر بين أربع سيّدات- جنون معقلن (ص 53): حوار بين رجل ونادل- غريغوري (ص54): حوار غير مباشر بين رجل وامرأة - اقتلني عزيزي (ص 59):حوار غير مباشر بين رجل وامرأة - طوق الحمامة (ص 70): حوار بين عاشقين- ذئب أحمر (ص 84/85): حوار بين كائنين- تفّاحة نيوتن (ص92): حوار غير مباشر بين رجل وامرأة في صيغة هو وهي- رسالة حبّ (ص93): حوار غير مباشر بين عاشقين - قلق (ص:94): حوار بين الأمّ والابن – احك (ص 131): حوار غير مباشر بين زوجين – سندريلا (ص141): حوار غير مباشر بين هو وهي.

4-9- التّشذير باستخدام أوج التّأويل: تحتلّ أوجه التّأويل حيّزا آخر في قصص عبد اللّه المتّقي. وهي عبارة عن احتمالات أو افتراضات أو تفسير، أو ضروب من الأفكار في شكل سطور مشار إليها بعلامات التّرقيم سواء أكانت بالأحرف أو الأعداد منها هذه الفقرة الأخيرة من قصّة خطوات (ص27):

و.. توهّم ما يشبه أصابع خشنة تتهيّأ كي تخنقه قمّ التفت سريعا:
أ- كان مجرّد خيال- ب- كان مجرّد هلوسة- ج- كان مجرّد خوف من المعرفة.
أو في مثال آخر من قصّة موت أبلق (ص 56) ومنها نقتطف ما يحيل على أوجه التّأويل التّالية:

في الصّباح الموالي كسرت الشّرطة باب غرفة الإنعاش، كي تجد جثّة الرّجل معلّقة في السّقف، وهذا ما حدث بعدها:
تحوّلت المباحث إلى عيون فقط -2- اعتقل الرّجل بتهمة الموت الكاذب -3- الرّجل وضع بمصحّة للأمراض العقليّة لأنّه مريض بالتّخييل -4- السّارد سكران كالرّجل حتّى الثّمالة ويحكي كذبة بلقاء..... عزيزي القارئ.. اكتب قفلتك وانسحب.
وثمّة أيضا نماذج أخرى منها: قصّة رداءة الوقت (ص 75) وقصّة تعسّف (ص25).

4-10- التّشذير باستخدام الحالة النّفسيّة أو الوضعيّة: كثيرا ما يعمد المتّقي إلى اعتماد تقطيع شذريّ يقوم على الحالات النّفسيّة للأشخاص أو الوضعيّات التي هم عليها في محاولة منه إلى تجاوز السّرد المألوف والتّجديد شكلا ومضمونا. لذلك أتى بقصيصات عديدة على هذا النّهج ليبيّن إمكانيّة انفتاح القصّة القصيرة جدّا على ضروب شتّى من العرض الحكائيّ. وهو، هنا، مجدّد على غير العادة وغير المألوف. من ضمن تلك القصص نقدّم نموذجا واحدا، هو"قصّة ثدي"(ص 120) والتي يبدأ فقراتها أو قصيصاتها المرقّمة بالأعداد ب:

1- السيّد الذي صحا من كابوس مرعب (حالة)... 2- أمام المرآة.... (وضعيّة) -3- في الطّريق إلى بيت الماء (حالة) -4- كانت جدّته عارية (وضعيّة) -5- وحين صعقه المشهد... (حالة). فضلا عن قصص أخرى منها: غرقى (ص66)- لوحات (ص73) - رداءة الوقت (ص 75) - قصّة من دون عنوان (ص80) - حذاء الذّكريات (ص86) - انتظار (ص 109) - بكتيريا (ص110) - فتوى (ص 115)- خرافة (ص127)-

4-11- التّشذير بواسطة تكرار الكلمات والحروف والأفعال: هنا يتّخذ التّقطيع عدّة معان. فقد يكون للتّأكيد على فكرة أو البناء على ما سبق من معنى، أو التّنويع على معنى واحد بطريقة مختلفة. إذ نجد نماذج دالّة على ذلك منها قصّة ميتاحلم (ص 88) وفيها تنويع على معنى وتكرار لكلمة: قبل الحكاية /مخ الحكاية / طعم الحكاية. أو في قصّة درس الفلسفة (ص90): إشكاليّة أولى/ إشكاليّة ثانية/ إشكاليّة ثالثة/ إشكاليّة رابعة/ إشكاليّة خامسة/ الإشكاليّة الأخيرة. كما هو الحال أيضا في قصّة نور ونار(ص 99): الدّرج الأوّل/ الدّرج الثّاني/ الدّرج الثّالث/ الدّرج الرّابع/. وفي قصّة النّهاية المعنونة بكلمة انقليزيّة (ص 103): وفيها تكرار لمفردة: اللّقطة الأولى/ اللّقطة الثّانية/ اللّقطة الثّالثة/ اللّقطة الرّابعة/ اللّقطة الأخيرة.

4-12- التّشذير باستعمال آليّة الحذف والبياض وتقطيع الحرف: ومنه قصّة كوابيس (ص 33)- تشابه (ص34) - ماء الحلم (ص49)
 موت أبلق (ص56)- حمام (ص60)- تطهير (ص113). وفي هذه الشّواهد من القصّ الوجيز يستحثّ الكاتب القارئ على استكمال ما قد يحسبه معنى أو افتراضا، أو حذفا لغاية التّكثيف وتحاشيا للتّفسير والوضوح في إطار لعبة توزيع النّصّ في فضاء يتراوح بين البياض والسّواد، وبين الغموض والوضوح، وبين الذي يقال والذي لا يمكن قوله أو بإمكان المتقبّل استكماله دون عناء.

4-13- أنماط أخرى من التّشذير: كثيرا ما يعمد عبد اللّه المتّقي في مختاراته آيس كريم.. رجاء إلى تنويع التّقطيع كأن يستخدم بعض العلامات كالنّجمات مثلا كما هو واضح في قصّة بؤبؤ (ص28) وقصّة خردة (ص41) أو قصّة شراهة ص (43) وفي عدد من القصيصات الأخرى. أو هو يمضي مستخدما أحيانا فصول السّنة مثلما نجده في قصّة ذات (ص108) إذ نراه يستخدم في كلّ سطر من القصيصة ما يلي:

 ذات شتاء قديم- ذات ربيع أزرق- ذات صيف حارق- وذات خريف حزين.
ثمّ نجده يوظّف فصول الرّواية كما هو الأمر في قصّته الموسومة ب"أزيز(ص 45): حيث يبدأ سرده في كلّ سطر ب: في الفصل الأوّل من الرّواية - في الفصل الثّاني / في الفصل الثّالث/ في الفصل الرّابع والأخير. أو أيضا تشذير عناوين القصص من ذلك قصّة نهايات (ص52) وقصّة حمام (ص60).

كما أنّنا نعثر على أنماط أخرى قليلة من التّقطيع والتّشذير منها تكرار الأفعال أو بعض الحروف أو تقطيع الجمل. غير أنّ الأهمّ في هذه الظّاهرة الأسلوبيّة أي ظاهرة التّشذير كونها تتوزّع بين ما هو توزيع بصريّ للنّصّ القصصيّ وبين ما هو سمة أسلوبيّة. وقد نعثر في القصّة الواحدة على أكثر من نمط تشذيريّ واحد.

5- الخاتمة: استطاع عبد اللّه المتّقي في مختاراته هذه التي تناولناها بالبحث في سمة أسلوبيّة واحدة أن يجدّد القصّ الموجز من حيث الشّكل والمضمون، وأن يقنع بتقديم نماذج باهرة تتجاوز طرق القصّ التّقليديّ المسترسل. ولعلّه في هذا المسعى قد أيقظ المتقبّل أيضا فعوّده على ما هو مخالف للسّائد، ومنحه فرصة إعادة صياغة معنى القصيصة التي جعلها المتّقي في أحيان كثيرة غير مستوفاة فكانت قصيصة تشاركيّة وتفاعليّة بينه ككاتب أو سارد وبين القارئ. وأحسب أخيرا أنّ هذه المختارات ستفتح أفقا جديدا ومختلفا في القصّ العربيّ الموجز وترنو به إلى العالميّة وتجعله منفتحا على تجارب أخرى من خلال التّناصّ والتّثاقف واستثمار التّجارب الأخرى، وعبر خوض غمار التّجريب والتّنويع واستنطاق مواضيع حارقة ذات صلة بالرّاهن الوطنيّ والعربيّ والعالميّ أو ذات تعالق بالذّات في مشاغلها وهمومها وغربتها واستلابها.

6- الإحالات والمراجع:

 المتّقي عبد اللّه، آيس كريم رجاء، مختارات قصصيّة قصيرة جدّا، دار الكتاب، الطّبعة الأولى، تونس 2021.
 بوحوش محمّد، المشهديّة في القصّة القصيرة جدّا، قبّعة غريغوري لعبد اللّه المتّقي أنموذجا، جريدة الرّأي الأردنيّة بتاريخ 18/05/2019 بالرّابط الإلكترونيّ التّالي:
http://alrai.com/article/10484422
 حمداوي جميل، القصّة القصيرة جدّا وإشكاليّة التّجنيس، المكتبة الشّاملة الذّهبيّة، الطّبعة الأولى 2016.
 منيرة جميل حرب: القصّة القصيرة جدّا نشأتها ومقوّماتها، دراسة بمجلّة أوراق ثقافيّة (نسخة إلكترونيّة) منشورة بتاريخ: 07 ماي 2020، تمّت زيارة الموقع يوم 29/05/2021 عبر الرّابط التّالي:
http://www.awraqthaqafya.com/849

محمّد بوحوش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى