الثروة والثورة
لابن حيان التوحيدي وابن مسكويه
ما يقلق الناس من عامة ومفكرين في هذه المسألة بالذات هو عدم المساواة ويعتبرونها مشكلة. فمشكلة عدم المساواة تنقلنا إلى وسط الصراعات السياسية الحديثة، ويمكن أن يُقال عن تاريخ العصر الحديث أنه إلى حد كبير يتعلق بالثورة على الامتيازات ولسلطة، والتي بدأت بالثورة الفرنسية عام ١٧٨٩، كما كانت الاشتراكية والشيوعية تقودان هذا الدور. كذلك كانت اضطرابات اقرن العشرين في آسيا وأفريقيا تستلهم إصراراً على أن الثروة والسلطة ينبغي أن لا تكون حكراً للشعوب البيضاء. ولعل ثورة السود في أمريكا على التفوق العنصري للبيض هي واحدة من أهم أحداث العصر الحديث، وقد عمت الحركة النسائية دول العالم مطالبة بالمساواة مع الرجال التي لم تشن هجومها على النظم والعادات التي حصرت النساء لمدة ألف عام في أدوار تابعة ومقيدة في المجتمع فحسب، بل وأيضاً على المبادئ الفلسفية التي تدعم هذه العادات.
وعلى الرغم من أننا لم نفهم المغزى الكامل لهذه التغيُّرات، فإنه سيكون من المستحيل الزعم بأنها لا معنى لها، وأنها تقودنا إلى عصر جديد من التاريخ. ومع ذلك لا تزال هناك حالات عدم مساواة كثيرة جداً مقصودة في كثير منها وملحوظة في الثروة والسلطة والمكانة الاجتماعية. فالحياة التي يعيشها الناس تتشكل في كل مكان بوضعهم داخل هذه النظم الهرمية الترتيب الاقتصادية، والسياسية والاجتماعية، وبالتالي فإن وضعهم يتأثر بشدة، وغالباً ما يتحدد، بمصادفات مثل هل وُلدوا بيضاً أم سوداً، عرباً أم يهوداً في إسرائيل، ذكوراً أم إناثاً.
وهكذا فإن عدم المساواة والمساواة ليست مجرد أفكار تجريدية يمكن تجاهلها بأمان وثقة، وحتى إذا فضّل المرء ألا يفكر فيها، فإنها ذات صلة كبيرة بتاريخ عصرنا والظروف التي يعيش فيها كل منا، والتي تضطرنا إلى التفكير بشأنها.
القضية المركزية والمنطقية تتجلى من خلال طرح السؤال عما إذا كانت من الطبيعة الأساسية للأشياء أن نكون غير متساوين، أو مجرد نتيجة ظروف تاريخية أن الكائنات البشرية غير متساوية ومتنافرة. وهنا لا بد من التساؤل عما إذا كانت الكائنات البشرية – تحت كل حالات عدم المساواة المندمجة في النظام الاجتماعي والسياسي هم حقاً غير متساوين – بالطبيعة وليس بواسطة العادة فقط.
إن الكائنات البشرية غير متساوية بالتأكيد في أغلب الخصائص الطبيعية والنفسية. فهي غير متساوية في الصحة، والذكاء، والاتزان العاطفي، وفي نواح أخرى عديدة، بحيث أن تعدادها سيكون أمراً مرهقاً. غير أنه من السهل أن نرى هذه الحقائق التي يتعذر إنكارها لن تحسم القضية.
وبداية لا بد لنا أن نسأل عما إذا كانت مثل هذه الحالات الظاهرة من عدم المساواة الطبيعية هي في الحقيقة مرد نتيجة لعدم المساواة الاجتماعية. ألا تكون الصحة العليلة – مثلاً – ناشئة من تغذية غير كافية تُصاحب الفقر غالباً، وألا يكون الذكاء المنخفض مجرد انعكاس لأمية أسرة فقيرة؟ نعم، في بعض الحالات، غير أنه لا يبدو أن كل حالات عدم المساواة تظهر بين أشخاص شكّلتهم نفس الظروف.. فبعض الذين نشأوا في أكثر الظروف المادية المواتية تجد البعض أكثر صحة من غيرهم، وبين الذين كانت لديهم أكبر المزايا التعليمية، يظهر البعض ذكاء أكبر مت الآخرين. ويبدو أنه لا مفر من حقيقة عدم المساواة الطبيعية.
ومع ذلك يبقى ظل من الشك، فليس هناك شخصين نشآ داخل نفس الظروف بالضبط، والفروق التي تبدو غير هامة لمراقب خارجي، قد تكون حاسمة لأولئك الذين تكّلوا بها.
وفيما يتعلق بجانب آخر من المسألة، يكون الشك أكبر.. فهل حالات عدم المساواة التي نستطيع قياسها ذات صلة بجوهر الكائنات البشرية التي تم قياسها؟ وعلى سبيل المساواة، فإنه في قياس الذكاء، هل نقيس القدرة الكاملة للوعي، أو القدرة على إدارة عمليات عقلية يُتَّفق أن تكون مؤكدة في ثقافتنا؟ وقد تمضي شكوكنا بشأن تقديرات عدم المساواة إلى أعمق من ذلك. ودعونا نفترض أنه تم اكتشاف مقياس مطلق للذكاء، بحيث أننا عندما نقيس الذكاء، فإننا نقيس القدرة الكاملة على الوعي. فهل من الممكن قياس نظام للمقاييس من هذا النوع الذي لا صلة وثيقة بجوهر الكائنات البشرية؟ وه الذكاء – أو أية صفة معينة أخرى – هو جزء من جوهر الكائن البشري؟
وقد يُمكن وضع السؤال بهذه الطريقة: هل من الممكن أن يكون شخص ما أقل من أغلب الآخرين في الصحة، والذكاء، والاتزان العاطفي وصفات أخرى بشكل واضح وممكن إثباته، ومع ذلك فإنه في الجوهر مساوٍ لأي شخص آخر؟ إن الفكرة تبدو عجيبة، ولكننا كما يبدو نقول شيئاً من هذا النوع، عندما نقول أن هناك كرامة فطرية في كل فرد، أو أن كل شخص يجب أن يُعامل باعتباره غاية لا مجرد وسيلة.
كان أرسطو يتصور الجنس البشري نظاماً هرمياً كبيراً، والطريقة الأساسية لتحديد المرتبة هي درجة ونوع العقل الذي لدى الشخص. وعلى قمة هذا النظام الهرمي، أولئك الذين يتفقون في قدراتهم على الفهم العام، مثل العلماء والفلاسفة، وتحتهم يوجد المواطنون الأصليون، الذين لديهم قدرة عقلية كافية لإدارة الشئون السياسية مع آخرين عديدين من هذا النوع، ثم الصنّاع والعمال الوطنيين، الذين يجب استبعادهم من الشئون السياسية. وفي قاعدة هرم الترتيب الهرمي أشخاص لديهم ما يكفي من العقل لأداء خدمات للآخرين، وهؤلاء هم الأرقاء بالطبيعة. وقد عرّف أرسطو البشرية بالعقل، ومن ثم فإن من لديه ما يكفي من العقل فقط ليكون صانعاً أو عاملاً، يُعتبَرُ ناقصاً في البشرية، وإذا كنت رقيقاً بالطبيعة فإنك لا تكاد تُعتَبرُ بشراً على الإطلاق. وكان أرسطو يعتبر الفكرة المسيحية بأن الشخص غير الكفء للعلوم، والفلسفة، أو النشاط السياسي، يمكن رغم ذلك أن يكون مساوياً في البشرية الأساسية لأعظم العلماء، والمفكرين والقواد، فكرة سخيفة وخطيرة.
وكان أرسطو يرى أيضاً سخافة وخطورة في الشك الحديث القائل أنه لا وجود حقاً لأي نظام هرمي من هذا النوع المتصور، وأنّ كون المرء عالماً طبيعياً كفئاً – مثلاً – فإنه ليس أكثر نبلاً بالفطرة من كونه نجاراً كفئاً، وأن حياة الفيلسوف قد تتضمن حالات عجز، مثل التعود على الأفكار التجريدية، مما يمنعها عن أن تكون أرفع شأناً بوضوح من حياة العامل أو المزارع. وسيكون بكل تأكيد مرتبكاً لفكرة أن علماء كثيرين قد يجدوا إرضاء مماثلاً لطموحهم كصنّاع، وأن كثيرين من الصناع قد تكون لديهم مواهب علمية واستعدادات، وأنه إذا كان المرء سيكون عالماً أو عاملاً، فيلسوفاً أو مزارعاً، فإن ذلك قد يتوقف على حظوظ الحياة (وخاصة حظوظ مثل لون البشرة والجنس) أكثر مما يتوقف على مستوى المرء الطبيعي. وكان أرسطو سوف يشعر بالضيق بصفة خاصة لفكرة أن النساء لَسْنَ أقل شأناً على الإطلاق من الرجال سواء في عقليتهم أو قدراتهم العملية، فقد كان يبدو لأرسطو أن النساء في نفس الفئة العامة كالبعيد والأطفال.
ولكن إذا كان أرسطو قد أفرط في التبسيط والمبالغة، وفي بعض الحالات أساء إلى حد كبير فهم حالات عدم المساواة التي تميز الكائنات البشرية، فإنه لا يترتب على ذلك أنه كان مخطئا بصورة أساسية، ولا يترتب على ذلك أيضاً أن الكائنات البشرية متساوين تماماً، أو أن أي مجتمع يعاملهم باعتبارهم متساوين سوف ينجح، ولهذا فإنه ينبغي متابعة المسألة، ولكي نفعل ذلك، دعونا نبدأ بذكر أن الآراء التي تؤكد عدم المساواة، الأساسي، تتخذ عادة شكلاً أو شكلين أساسين؛ فبالنسبة للبعض يكمن تفوق القلة في علاقاتهم بحقيقة مقدسة وسامية – مع الخير أو مع الله. وهذه العلاقة تشكل أذهانهم وشخصياتهم. وقد يُقال بالتالي أن القلة المتفوقة، متفوقة في القداسة. وكان أفلاطون واحداً من أعظم أنصار هذه النظرة. فقد كان من رأي أفلاطون أن هناك قلة تقف فوق الآخرين جميعاً في قدرتهم على الفهم الفلسفي (ومما يجدر ذكره أن هؤلاء يمكن أن يكونوا نساءً ورجالاً أيضاً، ولم يكن أرسطو، الذي تعلم كثيراً من أفلاطون، قد تعلم منه احتقاره للنساء) غير أن ما يجعل الفهم الفلسفي هاماً، هو أنه يتكون أساساً من معرفة الخير ولا يكمن تفوق الفلاسفة في القدرة الفلسفية في حد ذاتها، بل في اكتساب ما تجعله القدرة الفلسفية ممكناً: الدخول في الجوهر المقدس لكل الأشياء.
وبالنسبة لمفكرين آخرين، فإن براعة الأشخاص المتفوقين تُعتبر أمراً دنيوياً بحت، وهو يكمن في صفات مثل العبقرية السياسية، والبراعة الفنية، والتفوق الرياضي. والبراعة لا تتوقف على أي نوع من العلاقة التي تتجاوز الحدود، ولكنها داخل الشخص كلية، ويمكن القول أنها تتكون بالنسبة لبعض المفكرين على الأقل، لا في الصلة بالآلهة، بل في كونهم مقدسين.
إن أعمال فريدريك نيتشه، عذبته رؤيا تنبؤية لم بوجه لها أحد في عصره أي اهتمام، تشكل بياناً متطرفاً ومؤثراً عن هذا الاعتقاد. وكان نيتشه مقتنعاً بأن حالة واحدة حددت المناخ الروحي في عصره وواجب الأشخاص الجادين: صحوةٌ لعدم حقيقة الله. وكان إعلانه المثير عن هذه الحالة – "إن الله قد مات" – قد أصبح بعد ذلك الحين عبارة مألوفة. وهذه الحالة تضطرنا إلى أن نتخلص من الإذلال المدمر للذات، الذي فرض على الناس من قبل الأديان المختلفة، وأن نؤكد وجودنا الدنيوي الكامل. فماذا يعني ذلك؟ وما هي طبيعة وجودنا الدنيوي؟ يقول نيتشه أنها "الرغبة في السلطة" أن الوجود هو السلطة، وطبيعتنا هي أن نسمو بأنفسنا بلا توقف، وأن نبحث عن سلطة أكبر وأكبر. ولهذا فإننا إذا أردنا الآن أن نثبّت أنفسنا وأن نحتل المكان – إذا جاز القول – الذي كان الله يملؤه في وقت ما، فإننا يجب أن نكرس أنفسنا بلا اعتذار لزيادة سلطتنا، وهذا لا يعني بالضرورة نشاطاً سياسياً وحرب، وربما فكر نيتشه، في سيطرة أفضل على المواد التي يعمل بها ولكنها كانت فعلاً تعني عدم مساواة.
وقد هاجم نيتشه مراراً وبأقصى قدر من المرارة فكرة المساواة التي كان يرى فيها إحدى الحيل التي تسحق بها الجماهير بِخِسّتها وحقدها العظمة البشرية. إن الشخص العادي ضعيف، وهكذا فإن عظمة البشرية تعتمد على أولئك الذين لديهم الجرأة والقوة لرفع أنفسهم فوق القطعان الكبيرة من العامة. أما وقد مات الله الآن، فإن الوجود البشري يعتمد في بهائه ومغزاه على القلة، الذين بدلاً من أن يعبدوا آلهة تسمو فوق الوجود، أصبحوا أنفسهم آلهة.. وهذه القلة ليست بالضرورة من البيض أو عنصرياً بحتاً. إن التفوق البشري كان مسألة ثقافة وروح لا عنصر، غير أنه مما يجدر ملاحظته أن القلة المتفوقة ستكون دائماً من الرجال، وقد دعا نيتشه بلا اعتذار بل وبصوت عالٍ إلى سيطرة الرجال وتبعية النساء. وكان نيتشه من نواح عديدة متحرراً من التحيزات القديمة في ابتهاج، غير أن آرائه عن النساء كان يعرّض نفسه بوضوح للاتهام بأنه فشل فيما كان يحاول عمله قبل كل شيء، وهو أن يفكر من جديد، وعلى أية حال فإن فلسفة نيتشه إجمالاً كانت بمثابة رفض لفكرة المساواة – وهو مفهوم بقي عصوراً مبدأ أساسياً – وإنْ كان لم يُلاحَظ إلى حد كبير – للفكر الغربي بل طرح جانباً إن العلاقات البشرية يجب أن تُشكَّل مرة أخرى، كما كانت في العصور القديمة، بالسيطرة والمنزلة الاجتماعية.
وكان أفلاطون ونيتشه، وكلاهما يصر على أن الكائنات البشرية غير متساوية في الجوهر، وبدون هذه الفكرة، لم يكن الحديث عن عدم المساواة ممكناً. وربما لم تكن هناك ثورات ذو طابع أيديولوجي، وربما لم تكن الاشتراكية والشيوعية لتظهرا. غير أنه من المؤكد تماماً أنه إذا كانت فكرة أن الكائنات البشرية – بغض النظر عن كل الملامح الخارجية – متساوية لم تدخل قط ذهن أي شخص، فإن وجه الأرض المتحضرة كان سيبدو مختلفاً جداً عما هو اليوم.
لقد كان نيتشه على حق في الربط بين الإيمان بالمساواة مع الإيمان بالله. ويبدو أن أول دفاع فلسفي عن المساواة جاء من الرواقيين الأواخر، مع توقيرهم الديني للنظام الكوني. وكان من المُعتقد أن الكائنات البشرية متساوين، وهي مطالب يتضمنها الانسجام المقدس للأكوان. وبهذه الطريقة، فإن الكائنات البشرية متساوين في علاقاتهم مع الإله. وفضلاً عن ذلك فإنه إذا كانت فكرة المساواة غرست في الذهن الغربي بواسطة الرواقيين، فإنها غُرِستْ في الفكر الشرقي بواسطة التعاليم الروحانية؛ كانت تلك من فلسفة البابليين أو من المفكرين المسلمين، ففي كلتا الحالتين، فإنهما عمقتا جذورهما ونمتا تحت رعاية المتدينين، لا على الزعم بأن الكائنات البشرية متماثلة في الطابع أو الذكاء، أو بعض الصفات الدنيوية الأخرى، بل على علاقاتهم بالتفوق. ففي الديانة المسيحية، يعني السمو فوق الوجود هو الله، والله رحيمٌ حيال كل الأشخاص في الإسلام، بغض النظر عن التفوق والفروق الدنيوية. فكل شخص خلقَهُ الله. وفي وجه البهاء والأمل بنزول رحمة الله إلى العالم، فإن كل الفروق الطبيعية والاجتماعية، والذكاء، والجمال، والمنزلة، والسلطة، والثروة، تتلاشى تماماً.
وقد بقيت الفلسفة السامية في مفهوم المساواة الذي ساعد في الحث على ظهور المذهب الليبرالي الحديث والديمقراطية. فجون لوك (١٦٣٢ – ١٧٠٤) على سبيل المثال، الذي دافع عن إنشاء حكومة دستورية في بريطانيا (أي قانونية ومحدودة) والذي أثّر على واضعي الدستور الأمريكي، لم يكن يعتقد بوضوح أن الأشخاص متساوين في صفاتهم التي يمكن ملاحظتها. وكانوا بالنسبة للوك، متساوين فقط في الحقوق التي يتلقونها من الله. وبطريقة مماثلة، أكد توماس جيفرسون (١٧٤٣- ١٨٢٦) أن الكائنات البشرية خُلِقَت متساوية، وأنها مُنِحت من خالقها حقوقاً لا يمكن التصرف بها. وهكذا فإن فكرة القداسة تلقوها من خلال علاقة مع الإله ليست أساس تصور معين عن منزلة جوهرية وعدم المساواة، كما هو رأى أفلاطون، فحسب، بل هي أيضاً الفكرة التقليدية للمساواة الأساسية.
وبين كبار المفكرين السياسيين، كان هناك واحد فقط، هو توماس هوبز، الذي يؤكد على أن الناس في صفاتهم الدنيوية المجردة متساوون أساساً. غير أن حجته لا يُحتَمل أن تروق الذين يؤمنون بكرامة الفرد. دون أن يؤمنوا بالله، إذ أن الناس في رأي هوبز أقل استحقاقاً لاحترام متساوٍ من ازدراء متساوٍ. فمساواتنا تكمن في خضوعنا المشترك لحدود ورغبات بشرية، وفوق كل شيء خضوعنا المشترك للموت. وقد أشار هوبز في سخرية إلى مساواة سلطان الموت مع ملاحظة أن كل شخص يستطيع أن يقتل أي شخص آخر. إننا لسنا معرّضون جميعاً للموت فحسب، بل أننا جميعاً محكوكين بالرغبة الأنانية لتأجيل الموت أطول وقت ممكن. وهذا هو الأمر الذي تتفق فيه مصالح الكائنات البشرية، رغم تنافرها الأساسي، مما يجعل من الممكن تنظيم مجتمع مفيد للجميع. وكانت نظرة هوبز المؤمنة بالمساواة بين البشر لا ترتكز كلية على الموت، فقد كان ينظر في شك على كل الفضائل والمزايا المفترضة التي يتباهى بها الناس، ويحطم المزاعم البشرية، غير أنه نقل الانطباع بأن الموت هو المعادل ذو السيادة. وفي حين أن المؤمنين يرون أن كل البراعة والمكانة الدنيوية تذوب وتصبح بلا أهمية أمام الله، أمام بهاء الرحمة الإلهية الموجودة في كل مكان، فإن هذا كان يحدث في رأي هوبز قبل الموت الذي لا مهرب منه.
كان رأي هوبز غير العادي الذي يُقال على انفراد أن أساس مذهب المساواة بين البشر هو الدِين. فأين يترك هذا البشرية المعاصرة، التي تشك وجود الله ولكنها مقتنعة بكرامة الفرد؟ إن كثيرين من الناس يتقبلون اليوم إعلان نيتشه بأن الوقت قد حان لنا لكي نعتمد على ذكائنا وشجاعتنا لا على الله. ولكن أغلب هؤلاء الناس يرفضون أن يأخذوا على محمل الجد إصرار نيتشه على أنه عندما يصل الأمر إلى الذكاء، والشجاعة وصفات أخرى يفترض أننا نحتاجها من أجل أن نأخذ مكان الله، فإننا لسنا متساوين وبدلاً من ذلك فإنهم يستمرون مع المؤمنين في تمجيد الشخص العادي.
هل هذا معقول؟ هل يستطيع المرء أن يصنع قضية على أرض تجارب، ودون أي اعتماد مهما كان على استدلالات دينية بأن كل الكائنات البشرية متساوية؟ إن كلمة "الكل" تشمل بالضرورة مجرمين، ومدمني كحول، والمتخلفين عقلياً، والمجانين، والمرضى والمسنين. أُنظُرْ إلى كل واحد من أمثال هؤلاء الأشخاص بلا عواطف، فهل يمكن الزعم بأن الكائنات البشرية متساوين؟ إن السؤال هام إلى حد ما لأن أسس الديانات القديمة التي تستظل بفكرة المساواة قد هُجِرَتْ اليوم إلى حدٍّ كبير. فالاشتراكية والشيوعية وانتفاضات الفلاحين كان يقودها ماركسيون بشكل عام، الذين هم ملحدون. أما اليوم فهل نستطيع طرح نفس السؤال فنحصل على الإجابة نفسها؟ أشك بذلك!
غير انه ليس من الإنصاف أن نفترض أننا نقف في موقف مساواة – إما كذا وإما – أمام الله، أو غير متساوين في كَوْنٍ بلا إله. إن هناك تيار فكري يعتقد أن الكائنات البشرية متساوية بمقتضى حقيقة أنها جميعاً كائنات عاقلة. وهؤلاء الذين يعتنقون هذا الرأي عادة يعتبرون العقل مَلَكَة أخلاقية لا علمية، فهو يتيح لنا أن نصوغ القوانين التي تحكم سلوكنا. والعقل، مثلاً، هو الذي يقودنا إلى الإصرار على أن يُعاملَ كل الأشخاص سِواء في الظروف المتشابهة. وهكذا فإن الاعتراف بأن الناس غير متساوين في بعض استخدامات العقل – على سبيل المثال لعب الشطرنج – قد يدعو إلى الزعم بأنهم متساوين في قدرتهم على تقدير ما إذا كانوا هم وغيرهم قد عُمِلوا بإنصاف. فإذا كان هذا صحيح، فإنه ليس من الضروري الاختيار بين مذهب المساواة الديني بين البشر، وبين مذهب العقل. وسواء كان الله موجوداً أم لا، فإن كل الأشخاص يستطيعون أن يميزوا بقوة وعمق متماثلين متطلبات العدالة، ومن ثم يطالبون بصورة متساوية بالاشتراك في الشئون السياسية والمشاركة في الحياة العامة.
ولكننا نواجه مرة أخرى السؤال المتكرر: هل هذا صحيح وممكن؟ قد يكون كذلك بالتأكيد. فقد قبله فلاسفة عديدون مشهورون، من بينهم إيمانويل كانتْ. ومع ذلك فإنه إذا كان العقل مَلَكَةْ أخلاقية، فإن المرء سوف يتوقع أن يكون كل القادرين على التفكير أخلاقيين، غير أنهم كما نعلم ليسوا جميعاً كذلك. وإذا كانت حالات عدم المساواة الأخلاقية تقع بين أشخاص قادرين على التفكير المنطقي (حتى ولو لم يكونوا كذلك وفقاً للافتراض الأصلي) فإن المرء سوف يتوقع أن يكون الأشرار عاجزين على القدرة على التفكير، وأن الأبرار عاقلين بشكل ممتاز. ولكننا – مرة أخرى – نعرف جميعاً أن بعض المجرمين على درجة عالية من الذكاء، وأن الطغاة والعنصريين قد يكونون ذوي دهاء ومكر.. ومن الناحية الأخرى، فإننا لا نفترض أن القديسين والمؤمنين أياً كانوا سوف يُظهرون تفوقاً عقلياً، أو ذكاء غير عادي، رغم أن بعضهم كذلك. ومن ثم فإنه يبدو أن المبادئ الأخلاقية تتوقف على شيء أكثر – إن لم يكن آخر – من العقل – ربما على خصائص عاطفية معينة أو شخصية. ولكن هل يمكن إضافة هذا "الشيء الآخر" بدون تقويض مبدأ المساواة؟
وهكذا يظل السؤال: هل تفترض فكرة المساواة بالضرورة مسبقاً فكرة السمو فوق الوجود؟ وهل نستطيع أن نزعم أن كل الناس متساوين دون أن نلجأ إلى شيء يتجاوز الحقائق التي يمكننا أن نراها ونقيسها؟
إن القضية متضمنة في بعض من أكثر اهتمامات عصرنا إلحاحاً. فرغم قرون من جهود التسوية فما زال عدم المساواة حقيقة عنيدة مخزية.. إنها تظهر في الفقر الحاد الذي يستمر حتى في الدول الغنية، وفي التركيزات الواسعة للثروة الخاصة، والخصخصة، والشركات العابرة للقارات، وفي المنظمات الضخمة ذات الترتيب الهرمي التي تسيطر على الحياة الاقتصادية في دول العالم أجمع، وفي السلطة الساحقة التي تجمعت في أيدي حيتان المال. كما تظهر أيضاً في حالات التمييز والحرمان الاقتصاديين، والاجتماعييْن، والاقتصادييْن ضد الأقليات الأصلانية أو المجلوبة لخدمة مشروع رأس المال. زِدْ على ذلك التمييز ضد المرأة.
ومهما كان ردك أيها القارئ العزيز على هذه القضية، فإن الموقف الذي سوف تتخذه سيشكل آراءك حول كيفية تنظيم المجتمع.