الحلقة الثالثة عشرة - الخلـــــق
الحلقة الثالثة عشرة - الخلـــــق
مذكرات المناضلة سهى بشارة المحررة من سجن الخيام في جنوب لبنان
ينبغي عدم إضاعة الوقت.
يوم أُدخلت السجن، وضعت نصب عيني هدفاً واضحاً، وهو أن أفيد، قدر الإمكان، من كل الظروف لأتعلم وأزداد تعلماً. وأردت أن أظل ضابطة ساعات الأسر. غير أني، في ختام جلسات الاستجواب وحين استعدت حياة المعتقلات المألوفة، أدركت استحالة تطبيق هذا البرنامج.
لقد كنا، نحن المعتقلات، في أشد حالات العوز والفقر. ثياب قليلة، لا كتب ولا أوراق أو أقلام، بالتأكيد. وكانت تركيبة معتقل الخيام منشأة على النحو الذي نحرم فيه، نظرياً، من كل وسيلة من الوسائل التي تتيح لنا الترفيه عن أنفسنا، أو الاحتيال على الإيقاع اليومي المفروض علينا من الحارسات. ورأيت الفتيات في غالبيتهن يختبلن، ما أمكنهن ، في النوم، ليلاً نهاراً. وكن يندفعن الى الطعام نهمات لدى كل وجبة، ويأكلن بسرعة متناهية ليجدن أنفسهن غارقات في ذلك الخدر الذي بات تسليتنا الوحيدة. ولما كنا منقطعات عن العالم الخارجي، صار لهونا الأوحد أن نصيخ السمع لنتتبع تحركات الحارسات والسجينات على السواء، من زنزانة الىأخرى، ولمعرفة موضع كل من السجينات في ذلك البناء المترامي.
وكلما كانت الحارسات يشاهدن شاشة التلفزيون ويحضرن نشرات الأخبار فيها، جهدت كل منا في التقاط أدنى المعلومات منها. حتى إذا حل الليل، وضعنا في التداول ثمارنا المسموعة، والتي سلبناها سلباً، غير أننا نادراً ما كنا نبلغ غايتنا. ورأيتني مرة ألعن السينما المصرية وعجيجها. وفي تفصيل الأمر، أني كنت في الحبس الانفرادي، في الزنزانة رقم 24، ورحتُ من نقطة المراقبة خاصتي، أتميز مشاهدة المسرحية الكوميدية المصورة في القاهرة. وظللتُ متمسكة بقضبان النافذة أطول مدة ممكنة ليتسنى لي أن أروي للبنان مجرياتها كاملة ، خفيةً عن الحارسات ما أمكنني ذلك – غير أن الأمر بدا لي مثابة عقاب آخر.
ولحسن الحظ، كان لدي اهتمامات أخرى، أقل عادية. فلما كنت لا أعرف القرآن معرفة حقة، لذ لي أن أكتشف، لدى المعتقلات الأخريات من الأغلبية الشيعية المسلمة، نصوصه المقدسة. وكانت معرفتهم الأيات القرآنية التي حفظنها عن ظهر قلب، أتاحتْ لي تردادها ومعرفة مضمونها، حتى حفظتها بدوري. وما دمتُ غير معنية بالدين، نظراً للمناخ الذي كان سائداً حولنا، والذي نشأتُ في وسطه، رأيتني أفيد من هذا التعلم أيما إفادة – ثم إن التعليم فوق ذلك كان مجاناً.
ولما كنا محروفمات من كل شيء، صرنا سارقات محترفات. نسرق كل شيء ولا شيء، ذلك أن أقل قطعة من الورق هي كنز لنا. ولئن كان مسيرنا من زنزاناتنا الى الغرفة المخصوصة بالحمام، أو الى قاعات الاستجواب، قصيراً، فإن الدقائق القليلة الفاصلة هذه كانت تطول في نظرنا. حتى بتنا بطلات في سرقة أكياس البلاستيك، حيث وضعت طلميات الخبز. وغالباً ما كنا نستخدم هذه الأكياس في حمامات النجدة، وقد أُفرغت في سلة المهملات، على الرغم من أوامر المنع الصادرة عن الحارسات، أو مرمية عبر النوافذ من خلال القضبان في الأرض المحظرة على المشاة التي تسور المعتقل. وإضافة الى أكياس البلاستيك، كنا نسعى في إثر مزق من الورق، وقطع من الأقلام، وخيطان رفيعة من حديد، بل نتف من خيطان.
وصارت أيادينا خاطفةً وبمهارةً.
وكنا، إذا سرقنا، فلنبدع كذلك، ولنحاول أن نصنع أشياء صغيرة رغماً عن الحارسات. وإذا ما أردنا خيطاً من القطن أو الصوف، كان يكفينا التضحية بثوب أو كنزة. وبهذا أمكننا أن نخيك بإبر الحديد المصنوعة لهذا الغرض. وإضافة الى خيوط الحديد الدقيقة هذه، كنا نحسب حساباً لنوى الزيتون. وهذا ما لم يكن متاحاً للرجال، إذ كان حراسهم يعدون النوى الموزعة على كل سجين، وينبغي أن تكون موافقة للعدد نفسه من حبات الزيتون المعطاة. وكنانفرك هذه النوى ونحفرها في الوسط، حتى تصير لنا مسابح، بيد أن هذه الوسائل زهيدة للغاية.
ذات يوم، أتاح لنا اكتشاف مسمار دقيق في نعل أحد الأحذية، تحقيق عمل فريد. إبرة! وجعلنا، الليل كله، نحك رأس هذا المسمار الفولاذي بقطعة، هي خيط نحاسي كان يُستخدم لوصل الكهرباء، وجدناه في زنزانتنا. ولما كان الفجر، والألم يشل أصابعنا، توصلنا الى ثقب خيط النحاس، وأدخلنا فيه رأس المسمار. وهكذا، صارت لنا إبرة للخياطة، وهذه الإبرة صار بمقدورها أن تضع أبناءً. وبذلك تحقق لنا إنجاز عظيم، ذلك أن الأدوات المستخدمة الى حينه، بالإضافة الى أسنان المشط، كانت لا تزال سريعة العطب.
ولا يخفى على المرء أن أعمال الخياطة التي باشرناها، فرضتها علينا الحاجة والعوز. فكنا والحال هذه، نعد فوطنا الصحية، الى أن طالبت الإسرائيلي "طومي" بها، في العام 1992، ونقصر ثيابنا. لهذه الأعمال، كان بوسعنا أن نطلب من الحارسات توفير الخيط والإبر، إلا أنه ظل لزاماً علينا أن نحوك تحت أنظارهن، ونعيد لهن الأدوات حالما ينتهي العمل. ثم إنه كان علينا أن نواجه تحديات المستجوبين الذين كانوا لا يتوانون عن مصادرة الأوشحة التي تضعها الفتيات المسلمات لأجل التأثير فيهن، ودفعهن الى التعاون. وفي حركة من التضامن والتحدي، عمدت المعتقلات الى حياكة قبعات لتسع معتقلات أخريات. ومع أن القبعات هذه كانت في هيئتها اللبدية أقرب الى ما كان يستخدمه روبن هود وجماعته، فقد أُنقذ الجوهري في المسألة.
وكان من شأن هذه القفزة التقنية الى الأمام، المتمثلة في الإبرة، أن حررت إبداعاتنا. ذلك أن الإبداع، لي، لم يكن تضييعاً للوقت، على الإطلاق. وأن يبدع المرء فذلك لا يعني اللعب، البتة. فالإبداع، لنا قبل أي شيء آخر، أن نحوز من خلاله حرية في التعبير، وأن نقول كل ما طالما حصرنا به، بينما نجد كل ما ومن حولنا يدعوننا الى الصمت والى نسيان ما نحن عليه. حتى أني، التي أتيح لي إعداد وذوق علميان، اكتشفتُ في داخل جدران معتقل الخيام هذه الحاجة العصية على الرد، عنيت الحاجة الى الإبداع. وصارت الأشياء التي نحققها في الخفية بمثابة رسائل جديرة بالتبادل. وراحت كل منا تنقش فيها من الكلمات ما تشاء. وكان ثمة، بالطبع، كلمات الحب للأقارب والأهل والأصدقاء. وثمة كذلك، الرسائل السياسية، والشعارات لأجل بلادنا ، ولأجل قضيتنا.
حتى صار الإبداع حريتنا الوحيدة.
وكان أول ما صنعته سبحة من نوى الزيتون، لا لصلي بها، إنما لأني أحب شكلها. وجدتها جميلة. ورحتُ يحفزني الهوى، أنقش على كل حبة من هذه السبحة حرفاً من حروف جبهة التحرير الوطنية. وكان الغرض الثاني رسماً لشعار كنت صادرته من عقب سيجارة، وعمدت الى فتح العقب في شكل تويجة، ورحت أحيكها بخيوط من الحرير. ثم رسمتُ ثانيةً، الأحرف الأولى من مقاومتي على حلقتي البائسة. وفي زمن يسير، أمكنني مصادرة ورق اللعب (أو الشدة بالعامية اللبنانية). وكنت أعرف وحدي الألعاب التي أستعرضها مع زميلاتي المعتقلات، ثم أعلمهن إياها. وبعد ذلك حان وقت الشطرنج، فلم أجد شريكة واحدة تشاطرني هذا الهوى.
وغالباً ما كانت أعمالنا تصير الى العدم، كلما عمدت الحارسات الى تفتيش الزنازين ومصادرة ما يجدنه فيها. عدا عن لعب الورق، الذي صار مسموحاً، منذ العام 1989، اعتبرت كل لعبة أو لعب آخر محظوراً. حتى إذا طاول التفتيش زنزانة، وضعنا أيادينا على قلوبنا، راجين أن ينجو غرض واحد على الأقل من الحملة، التي تنتهي حصيلتها في سلال المهملات، أيا تكن.
بيد أن هذه القدرة، التي تملكها كل منا على الخروج من قوقعتها، تحرج إيما إحراج حين تجد الواحدة منا نفسها في الحبس الإنفرادي. وحين ألفيتني حبيسةً في الزنزانتين الإنفراديتين رقم 7، وبعدها رقم 24، لم يكن في حوزتي شيء، ولا سيما في مرات الحبس الأولى، وفيما بعد أمكنني أن أخفي إبرتين في قبة ثوب محيك تماماً، وكنت وحدي القادرة على ارتدائه، غير أني لم أسارع الى استخراجهما. وقلت في سري أن كل عجلة هي مجلبة للشك، وأن الحارسات يمكن أن يخطر لهن إجراء فحص دقيق لما أرتديه. وفي أي حال، كان من الصعوبة بمكان إبقاء كنوزي البائسة في منأى عن حملات التفتيش، ذلك أن الغرف تكون فارغة، ولا سيما في "الحبس الانفرادي" حيث كنت محرومة من الفراشن أول الأمر. بداية رحت أعوض النقص بالحركات الرياضية، ولكن حين وجدتني وقد عُلق معصمي بعرقوبي تعليقاً شديد الإيلام بالأصفاد، صارت الحركات مستحيلة. وصحيح أني صرت أقوم بتمارين للمعدة، ولكن ذلك ليس بالأمر المحسوب.
وبهذا حيل دون نشاطي، ولم يحل دون عملي. ففي الزنزانة الصغرى أو الصغيرة، نجحتُ في مباشرة تماريني الحسابية، وذلك بفضل لب الخبز الذي كنت انتشلته خلال الغداء وأخفيته تحت عباءتي. وبعد ذلك، وجدتني أصادر جداول رقمية كالتي تتساوى الأرقام فيها، أفقياً وعمودياً. ومضيت في هذه التمارين الحسابية حتى بلغتُ أعداداً متنامية ومضاعفة، باستخدامي الرقم 25ر9، فتحصل لدي 49 عدداً، وبهذا تنسمت الرضى عن نفسي. وصنعتُ زهر نرد من صابونة مهملة. ومن ثم انفتح أمامي مجال واسع: ابتكار لعب اجتماعي، لعب السلام. وكان هذا اللعب يقتضي مني رسم موطئ لقوائم الإوزة، يزيد في تعقيده القواعد الاستراتيجية لاحتلال الأراضي. فالقواعد، وإن كانت معقدة، فإنها واضحة، إذ يجب الانتصار على الثعابين والجنود لتحقيق الغلبة المؤكدة للاعب. إلا أن تحقيق هذا اللعب، ذهنياً، ومن غير أن أحسب تنقلي الدائم بين الزنازين، وعدم بقائي طويلاً في الزنزانة الواحدة. وكنت لا أزال في الزنزانة رقم 24، حين توصلتُ الى تمرير اللعبة الى صديقاتي إثر انتهائي من إعدادها. وبقيت نقطة ضعف في هذا النسق: صلابة زهر النرد. وحين تناهت إلي من بعيد، هتافات التعجب المخنوقة، وهي تعلن انشطار هذه القطعة الكبيرة، وقد رمتها بعضهن بحماسة مفرطة. ولحسن الحظ، لم تلبث رفيقاتي أن وجدن البديل، نرد من ملاقط الغسيل الخشبية، وأعدن العرض إذ رحن يخطن قطعة من قماش صغيرة، يغلفن بها زهر النرد المصنوع من الصابون خاصتي، حتى صار، آخر الأمر، زهر نرد حقيقياً.
ولا أنسى فضل إحدى الحارسات، وإنسانيتها، في جعل حسنا الفني يبلغ ما بلغه إبداع الرجال. فالحارسة المعنية جعلت تحمل إلينا سراً، أغراضاً من صنعهم (حبكهم)، وأخرى مصادرة، ولكم كانت دهشتنا إذ نرى قطعهم مشغولة على نحو أدق وأعقد بكثير من قطعنا. وتلك هي حال السبحات ذات النوى (من زيتون) التي توصلوا الى تجميلها وذلك بتغليفها حريراً أو قطناً. ثم إن الممرض نفسه أطلعنا على "شهادته" في خياطة القلوب الصغيرة، مستعيناً بالكرتون والحرير. وكان يستخدم لهذه الغاية وسيلة غريبة، نوعاً ما. إنها كناية من قلب، صادره أحدهم، مؤقتاً، وهو لا يزال معلقاً في عنق هر، أليف للسجن، ويتنقل بحرية في أرجائه. وبلغ بي الأمر أن جذبت انتباه الهر! غير أن الحارسات فاجأنني وأرسلن يخطرن أبا نبيل. وها هو يسألني عن مصدر القلب، فأجيبه بأني صنعته بيدي.
من ثم، رحت أخلط هذين الموضوعين في رسمي، زهرة تظلل قلباً. وحاولنا أن نتبادل الهدايا من أشغال أيدينا. وسرعان ما بدوت مختصة في رسم اللوحات، الكانفا من كل الأنواع والألوان. ولهذه الغاية، ضحيتُ بسروال داخلي لأرسم عليه أول عمل يقوم على مشهد مميز للغاية: فكنتُ إذ أخيط الصوف الملون، أرسم يدين متشبثتين بالقضبان، وأمامهما ريشة داخل محبرة. وكانت اللوحة من نصيب زميلة لي في الاعتقال ورحت أزخرف نصاً صغيراً أبرزتُ فيه الوعد بالتحرير، تحريرنا. وفيما بعد، جعلتُ أضاعف اللوحات التي تختلط فيها الرموز بالأوامر السياسية التي غدت عمومية، أكثر فأكثر.
وهكذا، أنشأت لوحة حملت عنوان "الانسانية"، بالفرنسية. ولما كنتُ مؤمنة بالتفوق النسائي، الى حد مبالغ به، فقد قصدت ارتكاب هفوة لغوية . إذ وضعتُ حرف الـ (e muet) في أخر الكلمة الفرنسية (Humanite e).
غير أن عملاً كهذا لم يكن ممكناً إلا حين فكّت القيود عن معصميّ وصارتا حرتين. أما في فترات الحبس الانفرادي، فكنتُ أقارب التجريد والشعر. وما كان يشدني الى هذا الميل، أني لم أكن مبتهجة القلب والروح. ولئن بدوتُ مغرمة بالرياضيات، فلقد أُثر عني قرضي الشعر وإنشاء حزني وصحتي تسقطاً للوحي، بحسب تلك الصورة التي كانت لدينا عن هذا النوع الأدبي. وفيما مضى، أذكر أني حفظتُ إحدى القصائد، مع زميلات لي في الصف، وكانت إحداهن قد نظمتها، بدوري، في أفق هذا التمرين راق لي الأمر حتى صار الشعر جزءاً أساسياً من حياتي في معتقل الخيام.
ورحتُ أؤلف، وأزين الكلام، وإذا وجدتُ العمل جديراً بالإعجاب عمدتُ الى حفظه. ومضيتُ أتعلم وأردد، حافظةً عن ظهر قلب. ومضيت استثمر أبياتي لفرط ما حصرتُ معانيها في الصدر، وتعلمتُ أن أهواها، وأجعلها ممهورة بذاتي.
وبقيتُ أكتب الشعر، حتى بلغ مجموع قصائدي الخمسين، نُقشت جميعها في ذاكرتي، فلا تمحى.
وكانت أولى القصائد وردت في خاطري إثر ظروف مأساوية، كان أحد المعتقلين قيد التعذيب، وراح يصيح صيحات من الألم يقشعر لها بدني، فأرتجف وتفيض عيناي بالدموع. فحضرني في تلك اللحظات، ما كان يقول المستجوبون إذ يكررون مباهاتهم بتقدم إسرائيل على البلدان العربية، وقوتها وعصرنتها. ورحتُ، في خاطري وقلمي، أنقضُ نجمة التقدم هذه التي يسعها أن تسحق البشر تحت أقدامها، وبالمقابل، أجللتُ الشهداء وكذلك فرق المقاومة، التي تزمع تحريرنا من نير الاحتلال. وكانت قصيدتي الثانية مستوحاة من جلسة تعذيب أخرى، شهدتُ فصولها بالصدفة، حين كنت متعلقة بقضبان نافذتي. فلما كان أحد المستجوبين أنهكه ضربه سجيناً، وطلب من زميل له أن يحل رقيباً عليه، فما كان من هذا الأخير إلا أن عاجله بالضربات من دون سبب، حتى راح السجين يصرخ صراخاً مريعاً. حينئذ أنشأت قصيدة في ذكرى قريبتي "لولا"، التي استشهدت في عملية ضد الإسرائيليين، وأسميتها "لؤلؤة سهل البقاع". وفيها وصفت كيف أن الخوف يرمي بنا، منهكين، في زاوية زنزانتنا، منطوين على أنفسنا، وكيف أن استشهاد "لولا" ارتسم لنا وعداً بالتحرير.
لا تقتصر قصائدي على السياسة، فحسب. إنما أصف في بعضها ظروف حياتنا في معتقل الخيام، وحكايات الحارسات والصداقة التي تربطني ببعض المعتقلات، ولا سيما عزيزتي كفاح. كما أنني أنشأت قصيدة وأهديتها الى عائلتي. وأخيراً كتبتُ نصين حددتُ فيها رؤيتي للحب.
أول الأمر، كنتُ أحفظ أبياتي عن ظهر قلب، ثم أجهد في نقشها على جدار زنزانتي. ومع الزمن، طرأ تحسن في النسق الذي كنت أكتب فيه، وذلك بفضل علب الكرتون (المخصوصة بالجبنة) التي أمكنني الكتابة فوقها بالرصاص المستخرج من ورق الألومنيوم. ولكن الهدية الأغلى والأجمل، التي لم يقدم لي امرؤ بقيمتها في معتقل الخيام، إنما كان قلم الحبر الناشف الذي استُل من المستجوبين، والذي أهدتني صديقاتي إياه ذات يوم، عن طريق مخابئنا. وكان لهذا القلم الحبر أن يغير مجرى حياتي، لأنه أتاح لي أن أُكبّ على ذاتي، معبرة عن خوالجي التي طالما ضاق صدري بها، فصرت أكتب على ورق الحمام الذي كنا نسلمه، أو على قطع القماش التي سرعان ما حولتها الى ورق للرسائل. وكان في غاية الأهمية، لي، أن أضاعف نسخ قصائدي، ما دمت أخشى وقوعها بين أيدي الحارسات. وكان لدي ما يبرر مخاوفي، إذ كانت الحارسات، ولمرات عديدة، يداهمنني في أعمال النسخ، ويختلسن النظر الى ما أقوم به.
ولما كنتُ مسلحة بقلمي الحبر، جاوز همي القصائد. ففي الثالث من آب / أغسطس، من العام 1994، يوم أُطلق سبيل كفاح، باشرتُ كتاباً، وأنا في حبسي الانفرادي رقم 24، وحيدةً، لا أنيس لي. ورحتُ أخط جملاً رزينة، على ورق الحمام، وقد تحول الى رق حامل بؤس البشر. وسعيتُ الى تنسيق أفكاري حول الصورة التي أهم في إنشائها عن بلادي. وكان لب هذه الأفكار التركيز على المقاومة، وما تمثله لنا؛ وعلى الواجبات التي تلزمنا بها. ثم كان إطلاق سبيل إحدى الفتيات من الأسر، في الحادي والعشرين من تموز / يونيو عام 1996، مناسبةً لبروز فكرة جديدة، وهي الشروع في كتابة يومياتي في السجن.
واجتهدت، كل يوم، في تدوين ما يجري في معتقل الخيام، وفي تفصيل كل حدث بارز.
ههنا، تكمنُ حكاية الصمود والبقاء أيضاً.