الخميس ٧ شباط (فبراير) ٢٠١٩
بقلم عبد الله المتقي

«الرحيل إلى تسنيم»، الذهاب إلى القصة

"الرحيل إلى تسنيم"هو الاسم الذي اختارته الروائية والقاصة التونسية مسعودة أبو بكر، عنوانا لمجموعتها الرابعة 2017، مرورا بمجاميعها"طعم الأناناس"و"وليمة خاصة جدا"و"أظل أحكي"، تقع هذه المدونة القصصية في 117صفحة من القطع المتوسط، وتأتي بعد سنوات خلت من العشق الكلف بالكتابة، ومن الحفر والنبش في أسرارها وأراضيها وجغرافيتها،والأهم من هذا أنها كتابة مقرونة بجودة إبداعية لا تكسر أفق قرائها وأصدقائها رواية وقصصا قصيرة.

فماذا عن هذه الرحلة إلى تسنيم؟ وما هي موضوعاتها وماذا تقص علينا؟ وكيف تقص هذا الارتحال وبأية طريقة؟

تتألف المجموعة من تقديم بقلم الناقدة"نجاة المازني"، والذي تضلع بالحصول على كتابة فوق كتابة، ليجعل القصص مقروءة بقصد تصيد المتلقي واستقطابه حتى، ثم مدخل موسوم ب"بين خيط أريان وحبل المسد"تتحدث من خلاله القاصة عن قلق الكتابة وطقوسها وعاداتها وأحلامها ومكاشفاتها وأوجاعها، يليه إهداء"إلى عبد العزيز بن عبدالله.. شكرا لصبرك علي"يحيل على الاعتراف والشكر والتقدير والحميمية، تليه عشر قصص جاءت بالترتيب كما يلي"بعد خيط أريان وحبل المسد، خيط أحمر في الصحراء، حيث لا ظل يتبعني، الرحيل إلى تسنيم، الدليل، الفرحيم، الزيارة، حي أبدا، فراحيم الحسن، رفوف الوجد"وهي عناوين متنوعة، تفضح بصورة أولية نية وأسرار القضايا والموضوعات التي ارتضتها القاصة فضاء متخيلا لمحكيها القصصي، في زمن أضحى ملغوما بالاحتقانات والتفاعلات والتناقضات بعد الربيع الديمقراطي.
تنوعت قصص مسعودة أبو بكر، في هذه المجموعة، بين ما هو ذاتي خاص بشجونه وشقاوته، وما هو جماعي عام بهمومه ومفارقاته وعنفه، والكل رصدته القاصة بشفافية ودقة ومهارة، وغني عن البيان أن القصة القصيرة هي فن الالتقاط والرصد الذكي للحركات والذبذبات والسكنات.

ولعل أهم ما يميز"الرحيل إلى تسنيم"، هو ارتحال القصة، وأعني، أن القاصة تقوم برحلة استكشافية في تجاه القضايا والهموم التي تستقيها بعينها وأذنها وتوليها عناية فائقة، وحسبنا دليلا، ملامستها لظاهرة التهريب والتطرف والهجرة السرية وذهابها إلى القصة بالقصة.

في قصتها الأولى الموسومة ب"خيط أحمر في الصحراء"ترحل بنا القاصة في عوالم تهريب السلع التي يتعيش منها العاطلون والحالمون بوعود الثورة التي دارت عليهم رحاها"سأعبر فجاجا بين النقاط الحدودية عبر الصحراء، متحاشيا ما أمكن عيون الحرس ومواقع ترصدهم سألقي بي إلى بحر الرمال والسلفيات، متوغلا جنوبا عبر الكثبان"ص23

في هذه الفلوات والحدود الصحراوية الحساسة يتورط حتى أعوان الحرس في هذه اللعبة المغشوشة والانتهازية ويشاركون في صناعتها، وليس في اقتناص القاصة لهذه اللقطة أي غلو، لأن القصة لا تقول سوى ما لا ينقال دون هوادة ولا تردد، نقرأ في هذا الصدد في ص24:"مدني بمعلومات خزنتها في ذاكرتي وحفظتها عن ظهر قلب، وبلفافة أوراق نقدية من الأورو.. تلك التي أحكمت لفها في قاع الحافظة الجلدية وانتهت منذ قليل بين أصابع عون الحرس، يحصيها ويثبتها رقما في دفتره لتؤول إلى الغيب"

تحكي القصة الثانية،"حيث لا ظل يتبعني"، عن الهجرة السرية أو غير الشرعية حيث حيونة – من الحيوان – الإنسان المهاجر وتبخيسه، والأكثر منه، قابلية قوارب الموت في كل لحظة وحين، أن تتحول إلى موائد لأسماك القرش، والمقصدية من هذا الارتحال الغير المنظم، هو البحث بعن وضع أفضل اجتماعيا كان أم اقتصاديا أم دينيا أم سياسيا نقرأ في ص ص36"يلغط الجمع البشري كقطيع منسي في زريبة، تلغط الأصوات التي تيبس الملح في حبالها المشروعة"، وفي نفس القصة تنفتح الرحلة على مشهد جارح لسيدة افريقية حامل، تتعرى من كرامتها وتلون السرد بوقاحتها من أجل أن يبقى ما في رحمها على قيد الحياة"سأجد عملا من أجله، حتى ولو اضطررت أن أنبش القمامة، وأن أستدعى الأمر لن أبخل بهذا الجسد على من يريد المتعة، شرط أن يدفع: ص 41.

إن القاصة بعبارة، تفتح حكيها ليكون شموليا، ومتحررا من المحلية، ومنخرطا في الأوسع والأعم لأن الهجرة الغير القانونية ظاهرة كونية، وتنطلي على كل الشعوب المهمشة والمنسية.

في قصة"الرحيم غلى تسنيم"، وهو نفسه العنوان المركزي للمجموعة، يحضر التطرف بكل لغاته وأسلحته من خلال اللائحة اللغوية:"دوامته الجهنمية، الكتيبة المقاتلة، الاستبسال والشهادة، مقاتل، خراطيشه وأسلحته، الدمار والإبادة والذم والنار، رشاش الكلاش، الرشاش.."، ولعل لغة كهاته، وبهذا العنف، تنخرط في التقاط ثقافة الموت التي أصبحت مستفزة ومربكة من فرط تداولها في وقتنا الراهن، بل إن لغة بهذا التوحش والشراسة، وفي وضع سوسيوثقافي معقد ومتشابك كوضعنا، تبدو بحق شجاعة من القاصة، لا تمتلكها سوى أقلية هائلة من الكتاب وأولي العزم منهم، والذين خاضوا تجربة اقتناص جرثومة التطرف، تعريتها وإماطة اللثام عن وجهها الزائف، بكل صدق وجرأة لتبقى تونس خضراء، والعالم بدون كلاشنكوف، وهذا ما فعلته مسعودة أبو بكر، في هذا الذهاب إلى عين هذه الجرثومة الإرهابية التي ابتلينا بتقتيلها وعهارتها الدينية،

ونفسه في قصة"الفرحيم"، إذ لا أنبل من رفض والترهيب والإرهاب الذي عبرت عنه صورة الأم وهي تتبرأ من ابنها، وحتى دفنه بين أهله في مقبرة البلد، لخيانته البلاد والعباد:"أنا منه براء، ومقبرة هذه البلدة براء، فابحثوا لرفاته عن مستقر"ص

أما قصة"رفوف الوجد"، فتحمل معها نوعا من التعالي السردي والمعرفة الخارجية.. حيث حديث القاصة عن فعل القراءة والكتابة. ويكون الغرض هو الحديث عن خلفيتها المعرفية، ثم الخروج إلى التفاعل مع هذا المقروء بالموافقة أو المفارقة:

"رفعت بصري حيث أول كتاب اقتنيته بنفسي وأنا تلميذة في الثانوية من سنين خلت"عرائس المروج لجبران خليل جبران"..ص 109

"هذه السيدة بوفاري يلاحقها فلوبير هامسا"أنت أنا وأنا أنت"، وهذا عبدا لرحمان منيف يتأبط"أرض السواد"بطبعتها الأنيقة، أزيز قطار يقترب من جسد كارنينا، عبثا مددت يدي في الفراغ لأجذبها، سميح القاسم يودع جيد الحما رسائل محمود درويش، صوت محمود طه يتغنى ببحيرة لمرتين"ليت شعري أهكذا نحن نمضي"ص115

ولا بدع ولا عجب، أن تكتب مسعودة أبوبكر قصصا ماتعة مستفزة، لأنها جاءت إلى الكتابة ممتلئة وبضة بالقراءات المتنوعة التي من شأنها تحاشي الكتابات الفارغة والسطحية التي أصبحت تملأ سوق القراءة ولا تشغل الناس،ومن ثم بناء قصص بالغة الدقة والإحكام

أمام هذا العشق الكلف بالكتابة، يتسلل إلى قصة"رفوف الوجد"مستقبل هذا الكتابة والكتاب لدى الجيل الرابع من أحفادها وكيف سيتلقون مدوناتها:"كيف أفسر إذن ما اعتراني وانا اتامل ملامح حفيدتي من الجيل الرابع، وابحث فيها عما توارثته من السلالة عبر الجينات من سمات مشتركة، بل ربما كنت أبحث عن شيء مني هنا، في حياة ما عدت فيها"ص

ولنعد ثانية إلى قصة"رفوف الوجد"لنجتلي شبه مقارنة بين النسيج النصي للقصة والنسيج الذي كانت قبل عليه الصبايا باستعمال خيوط مختلفة الألوان"تكتب"نجاة المازني"في خطابها المقدماتي، نقرأ في ص:"خبأت خيوط الحرير في تلافيا الحس والذاكرة، جمعتها من وبر حيوان صغير، من سريان نخلة ومن ألياف شجر عتيق، من ريش يعبث به تيار الهواء، من ضفيرة الضوء، من وهج الشمس، من رقصة الظلال، من صدى الأصوات، من هدير الأمكنة والأزمنة، ومن هديتها.... خيوط بألف لون تتشابك وتتداخل وتتلو لب وتتعانق"

ولا يكتمل الحديث عن مسعودة دون الإشارة إلى التشكيل الجمالي لهذه"الرحلة إلى تسنيم"، ومن تجلياته ما نلاحظه من تهجين ومن قبيل:
"همس لي أحد أقاربي:

الرجل عليه إيجرب.. كان خسر راجل وكان ربح هو سيد الرجال"ص23

يقترب أزيز محرك قادم من العرض ويعلو صوت قادم من جهات البحر:

Ce bambini ?Bambini e donne in primo” "ص42

ونقرأ في الصفحة 60

"زمت شفتيها ثم غمغمت بنبرة مشروخة:

Merde"

هذا المزج بين ألسنة متنوعة"العامية، الايطالية، الفرنسية"، وبين أكثر من وعي لغوي في ملفوظ واحد، بالرغم من نقضه وانتهاكها لنقاء اللغة الفصحى، فإنه يحيل على تعدد الشخوص القصصية وتصادم وجهات نظرها حول العالم. وإعادة إنتاج اللغات السائدة في المجتمع. الشيء الذي ينعكس على أسلوب القصص، وتتخلص القصة من السرد الديكتاتوري والأحادي، ومن ثم إنتاج إنجاز متعدد الأصوات، وذلك يمكننا الذهاب إلى أن تنوع اللغات وتعدد الأساليب في هذه القصص، وهذا من شأنه تكريس جمالية التلقي وتنشيط فعل القراءة.

وفي سياق هذا الانتهاك الجمالي لعمود القصة القصيرة، عمدت القاصة إلى تدمير الربط في كل القصص، بتقسيمه إلى محطات قصصية تفصل بينها نجيمات، وهذا التقطيع لا ينفي العلاقة القصصية بين المقاطع وتلك الوحدة العضوية والباطنية للنص، وذلك التجانس للتجربة النفسية للقاص.

وفي سياق تصعيد جمالية المحكي القصصي، تلتجئ القاصة إلى السخرية اللاسعة والتي يرتوي منها المنظور السردي،وتطبع كتابتها ولغتها بالكوميديا، بيد أنها قاتمة، لأن الكثير من الهموم قد يورطنا في الكثير من الضحك:"عدت أتكوم في موضعي الذي لا ظل فيه يتبعني، قلت بيني وبين نفسي.. سقط الطفل في خراء أمه..ألهذا الحد تقهرنا أحلامنا وتذلنا؟.. أي حلم هذا الذي ننحني من أجله لجمع القمامة وإذلال الجسد؟"ص41

وصفوة القول، هذه هي قصص"الرحيل إلى تسنيم"ل"مسعودة أبو بكر"في تجربتها القصصية الرابعة التي تحاكي الحياة فواجعها ومآسيها، وتحية لها من المغرب، إنسانة و قاصة وروائية، ومزيدا من الشتو، ومزيدا من الكتابة اليقظة والبهية في زمن النصوص الرديئة والغزيرة بعدد أنفاس الخلق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى